الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وأما : الوكيل : بالبيع الفاسد فهل يملك البيع الصحيح قال أبو حنيفة وأبو يوسف - رحمهما الله - يملك وقال محمد : لا يملك وبه أخذ الشافعي - رحمه الله - .

                                                                                                                                ( وجه ) قول محمد أن البيع الفاسد بيع لا يفيد الحكم بنفسه ، والصحيح يفيد الحكم بنفسه ، فكانا مختلفين ، فلا يكون التوكيل بأحدهما توكيلا بالآخر .

                                                                                                                                فإذا باع بيعا صحيحا صار مخالفا ( ولهما ) أن هذا ليس بخلاف حقيقة ; لأن البيع الصحيح خير ، وكل موكل بشيء موكل بما هو خير منه دلالة ، والثابت دلالة كالثابت نصا ، فكان آتيا بما وكل به فلا يكون مخالفا .

                                                                                                                                ( وأما ) الوكيل بالشراء فالتوكيل بالشراء لا يخلو إما أن كان مطلقا أو كان مقيدا ، فإن كان مقيدا يراعى فيه القيد إجماعا لما ذكرنا ، سواء كان القيد راجعا إلى المشترى أو إلى الثمن ، حتى إنه إذا خالف يلزم الشراء إلا إذا كان خلافا إلى خير فيلزم الموكل ، مثال الأول : إذا قال : اشتر لي جارية ; أطؤها ، أو أستخدمها أو أتخذها أم ولد ، فاشترى جارية مجوسية أو أخته من الرضاع أو مرتدة أو ذات زوج ، لا ينفذ على الموكل ، وينفذ على الوكيل .

                                                                                                                                وكذلك إذا قال : اشتر لي جارية تخدمني ، فاشترى جارية مقطوعة اليدين أو الرجلين أو عمياء ; لأن الأصل في كل مقيد اعتبار القيد فيه إلا قيدا لا يفيد اعتباره ، واعتبار هذا النوع من القيد مفيد وكذلك إذا قال : اشتر لي جارية تركية ، فاشترى جارية حبشية ، لا يلزم الموكل ويلزم الوكيل لما ذكرنا .

                                                                                                                                ومثال الثاني إذا قال : له اشتر لي جارية بألف درهم ، فاشترى جارية بأكثر من الألف ، تلزم الوكيل دون الموكل ; لأنه خالف أمر الموكل ، فيصير مشتريا لنفسه .

                                                                                                                                ولو قال : اشتر لي جارية بألف درهم ، أو بمائة دينار ، فاشترى جارية بما سوى الدراهم والدنانير ، لا تلزم الموكل إجماعا ; لأن الجنس مختلف ، فيكون مخالفا ولو قال : اشتر لي هذه الجارية بمائة دينار ، فاشتراها بألف درهم ، قيمتها مائة دينار ذكر الكرخي أن المشهور من قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد أنه لا يلزم الموكل ; لأن الدراهم والدنانير جنسان مختلفان حقيقة ، فكان التقييد بأحدهما مفيدا .

                                                                                                                                وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يلزم الموكل ، كأنه اعتبرهما جنسا واحدا في الوكالة كما اعتبرا جنسا واحدا في الشفعة ، وهو أن الشفيع إذا أخبر أن الدار بيعت بدنانير فسلم الشفعة ، ثم ظهر أنها بيعت بدراهم وقيمتها مثل الدنانير ، صح التسليم .

                                                                                                                                كذا ههنا فإن اشترى جارية بألف درهم ، فإن كان مثلها يشترى بألف أو بأكثر من ألف أو بأقل من ألف مقدار ما يتغابن الناس فيه فيلزم الموكل .

                                                                                                                                وإن كان النقصان مقدار ما لا يتغابن الناس فيه لزم الوكيل ; لأن شراء الوكيل معروف .

                                                                                                                                وإن اشترى جارية بثمانمائة درهم ، ومثلها يشترى بألف ، لزم الموكل ; لأن الخلاف إلى خير لا يكون خلافا معنى .

                                                                                                                                وكذا إذا وكله بأن يشتري له جارية بألف نسيئة ، فاشترى جارية بألف حالة ، لزم الوكيل ; لأنه خالف قيد الموكل .

                                                                                                                                ولو أمره أن يشتري بألف حالة فاشترى بألف نسيئة ، لزم الموكل ; لأنه وإن خالف صورة فقد وافق معنى والعبرة للمعنى ، لا للصورة .

                                                                                                                                ولو وكله أن يشتري ويشترط الخيار للموكل فاشترى بغير خيار ، لزم الوكيل .

                                                                                                                                والأصل أن الوكيل بالشراء إذا خالف يكون مشتريا لنفسه ، والوكيل بالبيع إذا خالف يتوقف على إجازة الموكل ، والفرق بينهما قد ذكرناه فيما تقدم أن الوكيل بالشراء متهم ; لأنه يملك الشراء لنفسه فأمكن تنفيذه عليه ، حتى إنه لو كان صبيا محجورا أو عبدا محجورا لا ينفذ عليه بل يتوقف على إجازة الموكل ; لأنهما لا يملكان الشراء لأنفسهما ، فلا يمكن التنفيذ عليهما فتوقف ، وكذا إذا كان الوكيل مرتدا ، أو كان وكيلا بشراء عبد بعينه ، فاشترى نصفه لعدم إمكان التنفيذ عليه ، فاحتمل التوقف ; ومعنى التهمة لا يتعذر من الوكيل بالبيع فاحتمل التوقف على الإجازة .

                                                                                                                                ولو وكله بشراء عبد فاشتراه بعين من أعيان مال الموكل توقف على الإجازة ; لأنه لما اشتراه بعين من أعيان ماله ، فقد باع العين ، والبيع يقف على إجازة الموكل هذا إذا كان التوكيل بالشراء مقيدا .

                                                                                                                                فأما إذا كان مطلقا فإنه يراعى فيه الإطلاق ما أمكن ، إلا إذا قام دليل التقييد من عرف أو غيره ، فيتقيد به ، وعلى هذا إذا وكل رجلا بشراء جارية وسمى نوعها وثمنها حتى صحت الوكالة فاشترى جارية مقطوعة اليد والرجل من خلاف ، أو عوراء ، لزم الموكل ، وكذا إذا اشترى جارية مقطوعة اليدين أو الرجلين أو عمياء عند أبي حنيفة ، وعندهما يلزم الوكيل ( وجه ) قولهما أن الجارية تشترى للاستخدام عرفا وعادة [ ص: 30 ] وغرض الاستخدام لا يحصل عند فوات جنس المنفعة ، فيتقيد بالسلامة عن هذه الصفة بدلالة العرف ، ولهذا قلنا : لا يجوز تحريرها عن الكفارة وإن كان نص التحرير مطلقا عن شرط السلامة لثبوتها دلالة كذا هذا .

                                                                                                                                ( وجه ) قول أبي حنيفة : أن اسم الجارية بإطلاقها يقع على هذه الجارية كما يقع على سليمة الأطراف ، فلا يجوز تقييد المطلق إلا بدليل وقد وجد .

                                                                                                                                ( وأما ) في باب الكفارة فلأن الأمر تعلق بتحرير رقبة ، والرقبة اسم لذات مركب من هذه الأجزاء ، فإذا فات ما يقوم به جنس من منافع الذات ، انتقض الذات فلا يتناوله مطلق اسم الرقبة فأما اسم الجارية فلا يدل على هذه الذات باعتبار الأجزاء ، فلا يقدح نقصانها في اسم الجارية ، بخلاف اسم الرقبة حتى إن التوكيل لو كان بشراء رقبة لا يجوز كما لا يجوز في الكفارة كذا قالوا .

                                                                                                                                ولو وكله أن يشتري له جارية وكالة صحيحة ، ولم يسم ثمنا ، فاشترى الوكيل جارية ، إن اشترى بمثل القيمة أو بأقل من القيمة أو بزيادة يتغابن في مثلها جاز على الموكل ، وإن اشترى بزيادة لا يتغابن الناس في مثلها يلزم الوكيل ; لأن الزيادة القليلة مما لا يمكن التحرز عنها فلو منعت النفاذ على الموكل لضاق الأمر على الوكلاء ولامتنعوا عن قبول الوكالات وبالناس حاجة إليها ، فمست الحاجة إلى تحملها ولا ضرورة في الكثير لإمكان التحرز عنه ، والفاصل بين القليل والكثير إن كانت زيادة تدخل تحت تقويم المقومين فهي قليلة ، وما لا تدخل تحت تقويمهم فهي كثيرة ; لأن ما يدخل تحت تقويم المقومين ، لا يتحقق كونه زيادة وما لا يدخل كانت زيادته متحققة ، وقدر محمد الزيادة القليلة التي يتغابن في مثلها في الجامع بنصف العشر فقال : إن كانت نصف العشر أو أقل فهي مما يتغابن في مثلها ، وإن كانت أكثر من نصف العشر فهي مما لا يتغابن في مثلها ، وقال الجصاص ما ذكره محمد ، لم يخرج مخرج التقدير في الأشياء كلها ; لأن ذلك يختلف باختلاف السلع .

                                                                                                                                منها ما يعد أقل من ذلك غبنا فيه ، ومنها ما لا يعد أكثر من ذلك غبنا فيه ، وقدر نصر بن يحيى : القليل بالده ينم وفي الحيوان بالده يازده وفي العقار بالده دوازده ، والله - تعالى - أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية