الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 222 ] هذه الآية تدل بظاهرها على أنهم لم يؤمروا بقتال الكفار إلا إذا قاتلوهم ، وقد جاءت آيات أخر تدل على وجوب قتال الكفار مطلقا قاتلوا أم لا ، كقوله تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة [ 2 193 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد [ 9 5 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وكقوله تعالى : تقاتلونهم أو يسلمون [ 48 6 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      والجواب عن هذا بأمور :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : وهو أحسنها وأقربها ، أن المراد بقوله : " الذين يقاتلونكم " تهييج المسلمين وتحريضهم على قتال الكفار ، فكأنه يقول لهم : هؤلاء الذين أمرتكم بقتالهم هم خصومكم وأعداؤكم الذين يقاتلونكم ، ويدل لهذا المعنى قوله تعالى : وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة [ 9 36 ] ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني : أنها منسوخة بقوله تعالى : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وهذا من جهة النظر ظاهر حسن جدا ، وإيضاح ذلك أن من حكمة الله البالغة في التشريع ، أنه إذا أراد تشريع أمر عظيم على النفوس ربما يشرعه تدريجا لتخف صعوبته بالتدريج ، فالخمر مثلا لما كان تركها شاقا على النفوس التي اعتادتها ، ذكر أولا بعض معائبها بقوله : قل فيهما إثم كبير [ 2 219 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم بعد ذلك حرمها في وقت دون وقت ، كما دل عليه قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى الآية [ 2 43 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم لما استأنست النفوس بتحريمها في الجملة حرمها تحريما باتا بقوله : رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون [ 5 90 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وكذلك الصوم لما كان شاقا على النفوس شرعه أولا على سبيل التخيير بينه وبين الإطعام ثم رغب في الصوم مع التخيير بقوله : وأن تصوموا خير لكم [ 2 184 ] ، ثم لما استأنست به النفوس أوجبه إيجابا حتما بقوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه الآية [ 2 185 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 223 ] وكذلك القتال على هذا القول شاق على النفوس ، أذن فيه أولا من غير إيجاب بقوله : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا الآية [ 22 39 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أوجب عليهم قتال من قاتلهم دون من لم يقاتلهم بقوله : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم استأنست نفوسهم بالقتال أوجبه عليهم إيجابا عاما بقوله : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثالث : وهو اختيار ابن جرير ، ويظهر لي أنه الصواب ، أن الآية محكمة وأن معناها : قاتلوا الذين يقاتلونكم ، أي من شأنهم أن يقاتلوكم .

                                                                                                                                                                                                                                      أما الكافر الذي ليس من شأنه القتال كالنساء والذراري والشيوخ الفانية والرهبان وأصحاب الصوامع ، ومن ألقى إليكم السلم فلا تعتدوا بقتالهم لأنهم لا يقاتلونكم ، ويدل لهذا الأحاديث المصرحة بالنهي عن قتل الصبي ، وأصحاب الصوامع ، والمرأة والشيخ الهرم إذا لم يستعن برأيه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما صاحب الرأي فيقتل كدريد بن الصمة ، وقد فسر هذه الآية بهذا المعنى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، وابن عباس والحسن البصري .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية