الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل :

والمضمضة والاستنشاق واجبان في الطهارتين الصغرى والكبرى في ظاهر المذهب ، وعنه أن الاستنشاق وحده هو الواجب لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا توضأ أحدكم فليستنثر " ، وفي لفظ " فليجعل في أنفه ماء ثم يستنثر " متفق عليه ، وفي لفظ لمسلم " من توضأ فليستنشق " . وقال للقيط بن صبرة : " وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما " فأمر بالمبالغة والاستنثار المستلزمين للاستنشاق .

[ ص: 178 ] قام الدليل على استحباب الصفة ، بقي أصل الفعل على الوجوب ، ولم يرد مثل هذه الأحاديث الصحاح في المضمضة ؛ ولأن طرف الأنف لا يزال مفتوحا ليس له ساتر بخلاف الفم ، ولهذا أمر القائم من نومه بالاستنشاق ثلاث مرات ولم يذكر المضمضة ، والرواية الثالثة : أنهما يجبان في الكبرى دون الصغرى؛ لأن الغسل مبناه على وجوب غسل جميع ما يمكن من الظاهر والباطن بدليل باطن الشعور الكثيفة من اللحية والرأس بخلاف الوضوء ، فإنه لا يجب فيه غسل ما استتر كباطن اللحية .

ويروى عنه أنه يجب الاستنشاق وحده في الوضوء خاصة ؛ لأنه الذي جاء فيه النص ، والصحيح الأول ؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر بغسل الوجه مطلقا ، وفسره النبي صلى الله عليه وسلم بفعله وتعليمه فتمضمض واستنشق في كل وضوء توضأه ، ولم ينقل عنه أنه أخل به أبدا مع اقتصاره على أقل ما يجزئ حين توضأ مرة مرة ، وقال : هذا صفة الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به ، وهذا أقصى حد في اقتصار الوجوب من جهة أن فعله إذا خرج امتثالا لأمر كان حكمه حكم ذلك الأمر في اقتضاء الوجوب .

ومن جهة أنه لو كان مستحبا لأخل به ولو مرة ليبين جواز الترك كما ترك الثانية والثالثة ، ومن جهة أنه لما توضأ قال : هذا صفة الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به ، وقد روى أبو داود عن لقيط بن صبرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا توضأت فتمضمض " وعن حماد بن [ ص: 179 ] سلمة عن عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة قال : " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمضمضة والاستنشاق " . وعن سليمان بن موسى الزهري عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لا بد منه " رواهما الدارقطني . وقد روى هذين الحديثين مسندين ومرسلين ، والمرسل إذا أرسل من جهة أخرى أو عضده ظاهر القرآن أو السنة صار حجة وفاقا وهو كذلك ؛ ولأن الفم والأنف في الوجه ، وحكمهما حكم الظاهر ، وتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم الاستنشاق بالأمر ؛ لا لأنه أولى بالتطهير من الفم ، كيف والفم أشرف؛ لأنه محل الذكر والقراءة وتغيره بالخلوف أكثر ، لكن يشبه -والله أعلم- أن الفم لما شرع له التطهير بالسواك وأوكد أمره وكان غسله بعد الطعام مشروعا [ ص: 180 ] وقبل الطعام على قول ، علم اعتناء الشارع بتطهيره بخلاف الأنف ، فإنه ذكر لبيان حكمه ؛ خشية أن يهمل إذا لم يشرع غسله إلا في الوضوء وعند الانتباه .

التالي السابق


الخدمات العلمية