الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
شروط صحة الاجتهاد

تتمثل في أن يتوفر في المرء مجموعة من العوامل، تكون الملكة الفقهية والفهم السليم لدى صاحبها، وتجعله قادرا على الاستنباط بطرقه الصحيحة، وسنتكلم عن كل شرط من هـذه الشروط، شارحين لها على النحو الآتي:

أولا: معرفة الكتاب

القرآن الكريم أصل الشريعة، فيشترط في المجتهد أن يكون عارفا بكتاب الله، وذلك بأن يكون له من العلم باللغة ما يعرف به معاني الآيات، وفهم مفرداتها ومركباتها وخواصها، فيستطيع بذلك أن يتدبر القرآن ويستنبط منه.. وأن يكون أيضا عارفا بالعلل والمعاني المؤثرة في الأحكام، وأوجه دلالة اللفظ على المعنى، من عبارة وإشارة، ودلالة واقتضاء، ومعرفة أقسام اللفظ من عام وخاص، ومطلق ومقيد، ومشترك ومجمل، ومفسر ومحكم ونحوها [1] .. وأن يكون عارفا بأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ [ ص: 63 ] من الآيات، من حيث مواقعها لا أن يجمعها ويحفظها فقد جمعت وحددت وكذلك لا يشترط في المجتهد أن يكون حافظا للقرآن الكريم، بل يكفي أن يكون عارفا بآيات الأحكام من حيث دلالتها ومواقعها، حتى يرجع إليها في وقت الحاجة [2] ، ومع ذلك يجدر بالمجتهد أن يكون على اطلاع عام على معاني القرآن كله، حتى يستقيم فهمه وأخذه للأحكام من القرآن [3] .

ثانيا: معرفة السنة

السنة هـي المصدر الثاني للشريعة، وهي الشارحة للقرآن، وقد تؤسس لأحكام جديدة، فيجب على المجتهد أن يعرف السنة على النحو الذي بيناه في معرفة القرآن، ولا يلزمه حفظ جميع الأحاديث، وإنما يكفيه أن يعرف أحاديث الأحكام بحيث يكون قادرا على الرجوع إليها عند الاستنباط [4] وقد اختلف العلماء في المقدار الذي يكفي المجتهد معرفته من السنة، (فنقل عن ابن العربي أنها ثلاثة آلاف، ونقل عن أحمد أنه قال: الأصول [ ص: 64 ] التي يدور عليها العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ينبغي أن تكون ألفا ومائتين. وروى ابن القيم أن أصول الأحاديث التي تدور عليها الأحكام خمسمائة، مفصلة في نحو أربعة آلاف حديث [5] .

وقال الشوكاني معلقا على هـذا: والحق الذي لا شك فيه ولا شبهة، أن المجتهد لا بد أن يكون عالما بما اشتملت عليه المسانيد والمستخرجات، والكتب التي التزم مصنفوها الصحة... وأن يكون له تمييز بين الصحيح منها والحسن والضعيف، ولو بالبحث في كتب الجرح والتعديل، وكتب العلل، ومجاميع السنة التي صنفها أهل الفن كالأمهات الستة، وما يلحق بها [6] .

وبهذا فإنه يجب على المجتهد أن يكون واسع الاطلاع على السنة كلها، وأن يوجه مزيد اهتمام إلى أحاديث الأحكام، فقد توجد أحاديث بعيدة عن مجال الأحكام في الظاهر، ولكن الفقيه يستنبط منها من الأحكام ما قد يفوت غيره [7] .

ويلزم المجتهد أن يكون على علم بمصطلح الحديث ورجاله، ولا يجب أن يكون في درجة أهل الفن فن الحديث أنفسهم وإنما يكفيه أن يعتمد على ما انتهى إليه أهل هـذا الفن [8] .

وتجدر الإشارة إلى أن البحث عن الأحاديث، والكشف عن درجتها في الصحة والضعف.. قد أصبح في زماننا أيسر بكثير من ذي قبل، وذلك لتوفر المعاجم والفهارس التي تدل على مواطن الأحاديث في كتبها الأصلية [ ص: 65 ] وأمهاتها المعتمدة، بحيث يستطيع الباحث أن يصل من خلال المعجم أو الفهرس إلى موضع الحديث في الكتب التي أوردته، والتي حكمت عليه وبينت درجته، وأيضا يستطيع من خلالها أن يعرف معظم الأحاديث المتعلقة بموضوع ما أو مسألة ما، بل وتكثر سهولة الوصول إلى الأحاديث والتعامل معها، إذا ما تم استعمال جهاز الحاسوب الآلي في تخزينها وبرمجتها.

ثالثا: معرفة اللغة العربية

المصدران الأصليان للشريعة الإسلامية هـما الكتاب والسنة، شاء الله أن يكونا باللغة العربية، لذلك يشترط لفهمهما واستنباط الأحكام منهما فهم قواعد اللغة العربية، وكيفية دلالات الألفاظ على المعاني، وحكم خـواص اللفظ من عمـوم وخصـوص، وحقيقـة ومجـاز وإطـلاق، فمن لم يعـرف أساليب الخطـاب العربي لا يتمكن من استنبـاط الأحكـام من كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم [9] .. ولا يشترط في المجتهد أن يكون إماما في اللغة، كسيبويه أو المبرد وغيرهما، وإنما يكفيه معرفة القدر الذي يفهم به خطاب العرب وعاداتهم في الاستعمال، إلى حد يميز به بين صريح الكلام وظاهره، ومجمله ومفسـره، ومترادفه ومتباينـه [10] ، بحيث يمكنـه عند ذلك تفسيـر ما ورد في الكتاب والسنة من الغريب ونحوه.. ولا يشترط أن يكون حافظا [ ص: 66 ] عن ظهر قلب، بل المعتبر أن يكون متمكنا من استخراجها من مؤلفات الأئمة المشتغلين بذلك، وقد قربوها أحسن تقريب، وهذبوها أبلغ تهذيب، ورتبوها على حروف المعجم ترتيبا لا يصعب الكشف عنه، ولا يبعد الاطلاع عليه [11] .

رابعا: معرفة أصول الفقه

أصول الفقه هـو عماد الاجتهاد وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه [12] ، فإن دليل الحكم يدل عليه بواسطة معينة، ككونه أمرا أو نهيا، عاما أو خاصا، ونحوها من قواعد دلالات الألفاظ، ولا بد عند الاستنباط من معرفة تلك الكيفيات وحكم كل منها، ولا يعرف ذلك إلا في أصول الفقه. يقول الرازي مبينا أهمية علم الأصول : إن أهم العلوم للمجتهد علم أصول الفقه [13] .

ويقول الغزالي : إن أعظم علوم الاجتهاد: الحديث واللغة وأصول الفقه [14] ، فعلى طالب الاجتهاد أن يعرف أصول الفقه، بفهم قواعده العامة وأدلته الإجمالية، وكيفية الاستفادة من هـذه الأدلة، وحال المستفيد منها ليزن نفسه بهذه المقاييس، فيقدم على الاجتهاد إذا أحس في نفسه تحقق هـذه الشروط، ويحجم إذا اختل شرط، محاولا الوصول إلى صفات المجتهدين. [ ص: 67 ]

كما أنه بالأصول يعرف مباحث السنة، من حيث المقبول منها والمردود على وجه الإجمال ويعرف الإجماع من حيث ضوابطه وشروطه وحجيته، وكذلك يعرف القياس صحيحه وفاسده، ومسالك العلة وقوادحها [15] .

. ويعرف أيضا الاستحسان والاستصحاب والمصالح المرسلة ، وغيرها من الأدلة التي اختلف فيها العلماء، ويبحث وجهات النظر فيها، ليصل بذلك إلى حكم خاص به [16] .

معرفة مقاصد الشريعة

(مقاصد الشريعة) من المباحث الأصولية المهمة التي يجب على المجتهد أن يعرفها جملة وتفصيلا [17] ، ليلتزم في اجتهاده بالأهداف العامة التي قصد التشريع حمايتها، والتي تدور حول حفظ مصالح الناس، المتمثلة في الحفاظ على الدين والنفس والعقل والنسب والمال، ومراعاة مصالح العباد، إذ أن فهم النصوص وتطبيقها على الوقائع، متوقف على معرفة مقاصد الشريعة، فمثلا قد تحتمل دلالة اللفظ على معناه أكثر من وجـه، ولا سبيل إلى ترجيح واحد منها إلا بملاحظة قصد الشارع، وقد تتعارض الأدلة الفرعية مع بعضها، فيأخذ بما هـو الأوفق مع قصد الشارع.. وقد تحدث وقائع جديدة لا يعرف حكمها بالنصوص الموجودة في الشرع، فيلجأ [ ص: 68 ] إلى الاستحسـان أو المصلحـة المرسلة أو العرف ونحوهـا، بالاهتداء بالمقاصـد العامـة للشريعة [18] .

يقول الشاطبي: (الأول فهم مقاصد الشريعة، وأنها مبنية على اعتبار المصالح، وأن المصالح إنما اعتبرت من حيث وضعها الشارع كذلك، لا من حيث إدراك المكلف، إذ أن المصالح تختلف عند ذلك بالنسب والإضافات، فلا ينظر إلى المصالح باعتبارها شهوات أو رغبات للمكلف، بل ينظر فيها إلى الأمر في ذاته، من حيث كونه نافعا أو ضارا ) ثم قال: (إذا بلغ الإنسان مبلغا فهم فيه عن الشارع قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة، وفي كل باب من أبوابها، فقد حصل له وصف هـو السبب في تنزله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وسلم ، في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله) [19] .

خامسا: معرفة مواقع الإجماع

يجب على المجتهد العلم التام بمواقع الإجماع، حتى لا يجتهد أو يفتي بخلاف ما وقع عليه الإجماع، ولا يستلزم هـذا حفظ جميع المسائل التي [ ص: 69 ] وقع فيها الإجماع، وإنمـا يكفي أن يعلـم أن فتـواه لا تخـالف حكما مجمعا عليه [20] .

ويجب على المجتهد أيضا أن يعرف القواعد الكلية للفقه الإسلامي، ليكتسب بذلك ملكة يفهم بها مقصود الشارع [21] .

سادسا: معرفة أحوال عصره

لا بد للمجتهد من فهم أحوال عصره وظروف مجتمعه الذي يعيش فيه، ليتمكن بذلك من تكييف الوقائع التي يجتهد في استنباط أحكام لها، ويأتي حكمه عليها سليما، وفهمه لها صحيحا، فالمجتهد كالمفتي لا بد له من معرفة واقعة الاستفتاء، ودراسة الظروف الاجتماعية المحيطة بها، والعوامل المؤثرة في الواقعة، وبذلك تكون فتواه معالجة للواقع القائم [22] .

فمعرفة الناس أصل يحتاج إليه المجتهد، وإلا أفسد أكثر مما أصلح، فعليه أن يكون عالما بالأمر والنهي، وطبائع الناس وعوائدهم، وأعرافهم، والمتغيرات الطارئة في حياتهم، فالفتوى قد تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال [23] . [ ص: 70 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية