الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
شروط عضو الاجتهاد الجماعي

بعد أن انتهينا من شرح شروط الاجتهاد، نود التوضيح بأنه لا بد أن تتوفر تلك الشروط في عضو الاجتهاد الجماعي، ولكن ينبغي مراعاة الآتي:

أولا: يكتفى من تلك الشروط بالمستوى المخفف وقد سبق ذلك عند الحديث عن كل شرط وهذا التخفيف يجعل الوصول إلى إمكانية الاجتهاد ميسورا على طالبه وغير متعذر، لأن تحصيل ذلك المستوى من العلم ممكن، خصوصا في عصرنا الذي توفرت فيه الوسائل والإمكانات [ ص: 72 ] العلمية.. وأيضا فإن عضو الاجتهاد الجماعي يكتفى فيه بأن يكون مجتهدا جزئيا، ولا يشترط فيه بأن يكون مجتهدا مطلقا. والمجتهد المطلق هـو الذي يكون قادرا على الاجتهاد في جميع أبواب الفقه ومسائله، أما المجتهد الجزئي فهو الذي يحصل له من العلم ما يجعله قادرا على الاجتهاد في بعض أبواب العلم دون غيرها

[1] ، مع كونه حائزا على الشروط التي ذكرها العلماء للمجتهد، فمثلا يمكن للاقتصاديين أن يجتهدوا في مسائل تخصصهم، إذا أحاطوا فيه بكل ما ورد فيها من الأدلة.

ثانيا: لا يمكن القبول بالرأي الذي ذهب إلى عدم اشتراط شروط الاجتهاد في أعضاء الاجتهاد الجماعي [2] ، وذلك لأن هـذا القول يجعل الاجتهاد الجماعي صادرا ممن ليسوا مؤهلين للاجتهاد، إذ كيف يجتهد وينظر في الأدلة ويستنبط الأحكام من ليس مجتهدا؟ وكيف يستطيع الوصول إلى الحكم الشرعي من فقد أدوات الوصول إليه؟ وسيكون نظره فاسدا واستنباطه باطلا، وقد أشار الشيخ عبد الوهاب خلاف إلى هـذا فقال: ولا يسوغ الاجتهاد بالرأي لجماعة، إلا إذا توفرت في كل فرد من أفرادها شرائط الاجتهاد ومؤهلاته [3] .. ولأن الجماعية في الاجتهاد لا يقصد بها أن تكون بديلا عن شروط الاجتهاد في من يقوم به، ولكن المقصود بها أن الاجتهاد الصادر عن جماعة من المجتهدين، يكون أكثر قوة من الاجتهاد الصادر عن فرد مجتهد، وذلك باعتبار أن رأي الجماعة أقوى من رأي الفرد.. وأيضا فإن عدم توفر شروط الاجتهاد في أعضاء الاجتهاد الجماعي، [ ص: 73 ] يؤدي إلى أن يضم مجلس الاجتهاد الجماعي مجموعة من غير المجتهدين، وبالتالي لا يمكن أن يقال عن عملهم أنه اجتهاد فقهي شرعي.

وإذا كان من أسباب حاجتنا إلى الاجتهاد الجماعي هـو ما يقوم به من التعويض عن المجتهد المطلق، الذي تعذر وجوده في هـذا الزمن [4] ، فهذا كلام صحيح، ولكنه لا بد أن تتوفر في أعضاء الجماعي شروط المجتهد الجزئي كحد أدنى للقيام بالاجتهاد. وأيضا فإن في المجلس الاجتهادي مجموعة من الأعضاء لا يشترط فيهم توفر شروط الاجتهاد، وإنما ينبغي فيهم أن يكونوا من الخبراء البارعين في تخصصاتهم المساعدة للعلماء المجتهدين، ويكون دورهم التكييف والبيان والتحديد الدقيق للقضايا محل الاجتهاد، ليسهلوا للمجتهدين فهم القضايا بشكل دقيق وسليم، واستنباط الحكم الشرعي المناسب، وليس لهم حق التصويت أو إبداء الرأي في الحكم الشرعي.

ثالثا: بينا فيما سبق أنه يكتفى في عضو الاجتهاد الجماعي أن يكون مجتهدا جزئيا، ولا يشرط فيه أن يكون مجتهدا مطلقا، والقول بجواز الاجتهاد الجزئي هـو ما ذهب إليه ورجحه الأكثرون من الأصوليين [5] مستدلين على ذلك بالآتي:

1 - لو لم يتجزأ الاجتهاد، لزم أن يكون المجتهد عالما بجميع مسائل التشريع الإسلامي دليلا وحكما، وهذا أمر قد تعذر وجوده في أئمة أعلام، فالإمام مالك رحمه الله ، وهو مجتهد بالإجماع، عندما سئل عن أربعين مسألة، قال في ست وثلاثين منها: (لا أدري) ، وكم توقف الشافعي بل الصحابة في المسائل [6] . [ ص: 74 ]

2 - إن العالم إذا اطلع على أدلة المسألة وفقه أحكامها، واطلع على كل ما يتعلق بتلك المسألة، فيكون هـو وغيره سواء في تلك المسألة، فلا يجوز أن يعدل عن فهمه وعلمه إلى أن يقلد فهم غيره، لأن تركه لما فهمه باجتهاده وذهابه إلى تقليد غيره، يكون هـذا تركا للعلم واتباعا للريب، وهـذا منهي عنـه ( بقولـه صلى الله عليه وسلم : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) [7] ، ( وقوله: استفت قلبك وإن أفتاك المفتون ) [8] . وهذا الحديث يدل على جواز ترجيح اجتهاده على اجتهاد غيره [9] .

غير أن بعض العلماء ذهب إلى عدم جواز تجزؤ الاجتهاد، مستدلا بأنه يحتمل أن يكون كل ما يقدر جهل المجتهد به يجوز تعلقه بالحكم الذي يبحث فيه، ولأن من لا يستطيع الاجتهاد في بعض المسائل لا يستطيع الاجتهاد في بعضها الآخر [10] .

وأجيب على هـذا بأنه يفترض في المجتهد الجزئي حصول العلم بجميع ما يتعلق بتلك المسألة، أما استطاعة الاجتهاد في بعض مسائل العلم دون بعض، فإن ذلك قد وقع لأئمة اتفق على أنهم مجتهدون كما سبق ذكره [11] . [ ص: 75 ]

ويميل الباحث إلى جواز تجزؤ الاجتهاد، وخصوصا في هـذا العصر الذي تعقدت فيه القضايا، وتشعبت فيه المسائل، وصار من الصعب الاجتهاد في كل أبواب الفقه، بينما يمكن الاجتهاد والتخصص في بعض أبواب الفقه، فمثلا لو أن عالما تخصص في أبواب الفقه المتعلقة بالاقتصاد، واستكمل لذلك شروط الاجتهاد، فإن اجتهاده يكون صحيحا، وكذا يمكن لعالم آخر أن يجتهد في أبواب الفقه المتعلقة بالسياسة الشرعية، وآخر في التشريع الجنائي، يقول الآمدي بعد أن نص على شروط المجتهد: وذلك كله إنما يشترط في المجتهد المطلق المتصدي للحكم والفتوى في جميع المسائل، وأما الاجتهاد في بعض المسائل فيكفي فيه أن يكون عارفا بما يتعلق بالمسائل، وما لا بد له فيها، ولا يضره في ذلك جهله بما لا يتعلق بها، مما يتعلق بباقي المسائل الفقهية [12] .

ويقول ابن القيم : الاجتهاد حالة تقبل التجزؤ والانقسام، فيكون الرجل مجتهدا في نوع من العلم مقلدا في غيره، أو في باب من أبوابه، كمن استفرغ وسعه في نوع العلم بالفرائض، وأدلتها واستنباطها من الكتاب والسنة دون غيرها من العلوم، أو في باب الجهاد، أو الحج، أو غير ذلك، فهذا ليس له الفتوى فيما لم يجتهد فيه.. وهل له أن يفتي في النوع الذي اجتهد فيه؟ فيه ثلاثة أوجه، أصحها الجواز، بل هـو الصواب المقطوع به. ثم قال بعد ذلك: إن حكمه حكم المجتهد المطلق في سائر الأنواع، أي أن حكم الإفتاء في مسألة اجتهد فيها، مثل حكم المجتهد المطلق في سائر الأنواع [13] . [ ص: 76 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية