الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الوقاية والعلاج من المنظور النفسي

نجد في العدد 83 من «كتاب الأمة» أن الإخوة الباحثين، جزاهم الله خيرا، قد أشاروا للطرق والأساليب التي لا شك في أنها إن طبقت فسوف تؤدي إلى منع التفكك الأسري، أو فلنقل على أقل تقدير التقليل من آثاره السالبة.. وهنا سوف أتطرق لبعض الجوانب ذات الطابع النفسي، خاصة فيما يخص الوقاية والعلاج لهذه المشكلة، التي أصبحت تهدد مجتمعاتنا بصورة أكبر:

أ- تكوين الأسرة : بادئ ذي بدء لا بد أن يحسن الإنسان اختيار الزوجة.. والتي تنكح لدينها هي الأجدر بلا شك لتأسيس بيت الزوجية السعيد، وليكن ديدننا دائما التوجه النبوبي الكريم: ( تخيروا لنطفكم... ) [1] ، ولا بد أن يكون الرجل واقعيا فيما يأمل أن يجده من زوجته.. والزواج لا بد أن يسهل وتقل تكاليفه، وقد كثر الحديث في هذا الموضوع، إلا أن الأفعال قليلة، اللهم إلا ما نراه حديثا من بعض محاولات تيسير الزواج، وذلك عن طريق تجربة الزواج الجماعي.

ب- التربية والتنشئة : نحن الآن نواجه كما هائلا من التأثير [ ص: 161 ] الإعلامي والثقافي، كما أن الهجمة شديدة على كياننا الإسلامي، ونحن مطالبون أولا بتغيير وتحسين ذواتنا من الداخل؛ لأن ذلك هو الذاد الذي يمكن أن نواجه به كل ما هو وافد عن طريق القرية الكونية وأدواتها، المتمثلة في سرعة الاتصالات والغزو الثقافي الفكري وإصباغ كل شيء في الحياة بالصبغة المادية، وتجريده من كل ما هو روحي ومعنوي.

والتربية والتنشئة لها أدواتها ومحاورها التي ترتكز عليها، وأولها ما علمنا له رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم من أنه: ( ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبوه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) [2] .. وعرى التربية الصحيحة لا يمكن فصلها بعضها عن بعض، ولكن لا شك أن أهمها المنزل وبيئته، ودرجة تفاهم الزوجين، وآليات التحاور داخل الأسرة، ودرجة تمسك الزوجين بالدين، وتقوية إيمان الفرد، كما أشار لذلك الدكتور صالح إبراهيم الصنيع .

ثم يأتي دور المدرسة، حيث لا بد أن يعاد النظر في مناهجنا، خاصة الجانب التربوي منها، ونرى الآن أن المدارس الحكومية أصبحت [ ص: 162 ] تهجر، على الرغم مما يصرف عليها من مبالغ باهظة، وأضحى الناس يلجأون للمدارس الخاصة، رغم التكلفة العالية لهذا النوع من التعليم، الذي لا شك في أنه ليس باستطاعة الكثير القدرة على تحمل نفقاته، إلا أن الاستطلاعات دلت على أن من يلجأ للمدارس الخاصة إنما هو باحث عن تعليم أفضل وتربية أحسن لأبنائه.

وبجانب دور البيت والمدرسة، هنالك دور المجتمع بكل مؤسساته الثقافية والتربوية، وفي هذا السياق لا بد أن يقوم المسجد والأندية الرياضية والثقافية بدور أكبر في توجيه الناشئة على أسس صحيحة.

والحديث عن التربية والتنشئة يقودنا إلى ظواهر مهمة أصبحت تطل برأسها من داخل الأسرة الإسلامية العربية، ولكن، وبكل أسف لم تجد الاهتمام البحثي والدراسي المطلوب.. ومن هذه الظواهر:

- الفجوة بين الأجيال: يلاحظ أن دور الأسرة الممتدة أصبح آخذا في التقلص، وإن كنا نرى أن لكل جيل متطلباته، إلا أن الفجوة بين جيل الآباء والأبناء أصبحـت فـعـلا كبـيرة للدرجـة الـتـي لا تجدي معها أي عملية تجسير- إن صح التعبير- وها نحن نرى أن جيل الأبناء أصبح يتمرد على مفاهيم ومثل وقيم جيل الآباء، وهذا التمرد يكون بصورة شعورية أو غير شعورية.. ومن هنا لا بد أن تتطور ثقافة الأسرة، ويتم التنبه لهذه الظاهرة. [ ص: 163 ]

- صراع القيم: معضلة أخرى تهدد أبناءنا، فها هو الصغير يتساءل في داخله: من هو الأصح: أبي الذي يؤدي صلواته بانتظام، أم جاري الذي لا يؤديها؟ أختي المتحجبة، أم مذيعة التلفزيون المتبرجة؟ أخي الذي يدخن السجائر، أم صديقه الذي لا يفعل؟.. وهـكذا.. هـذا أمـر يترك الطفل فـي تنازع شديد مع ذاتـه، وغـالـبا لا يفصح عنه.. ومن أجل ذلك، لا بد أن تكون الأسر على وعي بذلك، وتشرح لأبنائها التناقض الموجود في المجتمع، وأحيانا في داخل بيوتنا ذاتها.

- تهميش دور الصغار: بعض الأسر تفتقد لعملية التواصل والتفاهم الأسري الصحيح، وكثيرا ما يكون الطفل مهمشا بحجة أنه لا يعي ولا يفهم، ولهذا بلا شك مردود سلبي كبير، إلى جانب أنه مفهوم غير سليم.. فالصغير يفهم ويدرك في حدود ملكاته التعليمية والمعرفية، وبناء على ذلك لا بد أن يشارك في اتخاذ قرارات الأسرة، ولا بد أن نشعره بدوره الإيجابي.. ومن المعلوم أن الأب، وفي بعض الحالات معه الأم، هم الذين يتخذون القرارات الخاصة بالأسرة.. هذا أمر واقعي، ولا بأس به، لكن لا بد أن نشعر الطفل بأنه مشارك في اتخاذ هذه القرارات، وإن كان بصورة صورية، وذلك حسب المرحلة العمرية.. وتهميش الطفل يؤدي إلى خلل في البناء [ ص: 164 ] النفسي لشخصيته، وإضعافها، وذلك يؤدي إلى تمرد الطفل على سلطة الأبوين، ويقلل من انتمائه لأسرته.

حماية الأسرة بوقايتها من الأمراض النفسية :

هناك عدة أسباب للاضطرابات النفسية، منها الوراثية والعضوية والاجتماعية والنفسية، وفي بعض منها قد لا تكون الأسباب واضحة تماما. ولحفظ كيان الأسرة، لا بد من حمايتها من الأمراض والاضطرابات النفسية بقدر المستطاع.. وعندما نبحث عن طرق الوقاية، من المهم أن نذكر أنه في كثير من الحالات ربما يكون هناك أكثر من سبب واحد، وهذا ما يجب أخذه في الاعتبار. وإلى جانب التقدم المستمر الذي حدث في معرفة طبيعة وأسباب الاضطرابات النفسية، فإن هناك اهتماما متزايدا في مجال اتخاذ الإجراءات المناسبة للارتقاء بمستوى الصحة النفسية، والوقاية من الاضطرابات النفسية المختلفة التي تصيب الإنسان.

ولتبسيط مفهوم الوقاية، ووفقا للعرف الطبي، فمن المناسب بحث هذا الموضوع في مستويات ثلاثة، وهي: الوقاية الأولية، والوقاية الثانوية، والوقاية الثالثية: [ ص: 165 ]

1- الوقاية الأولية : تشمل الوقاية الأولية الإجراءات التي يمكن اتخاذها للسيطرة، أو لخفض نسبة حدوث حالات مرضية معينة بين السكان الذين يعانون منها.. وهناك أمثلة كثيرة مثل: التحصين والتمنيع ضد الأمراض المعدية التي تصيب خلايا الدماغ، وبالتالي تؤثر على العقل كالتهاب السحايا، أو العناية الوقائية أثناء الحمل حتى لا يصاب الجنين بأمراض مثل الحميراء «الحصبة الألمانية»، التي قد تؤدي إلى تخلف عقلي.

ومما يجدر ذكره هنا أن عامل الوراثة قد يكون سببا من الأسباب الرئيسة في بعض الاضطرابات النفسية، فإذا أخذنا مرض الفصام كمثال، نجد أن عامل الوراثة يشكل نحو 10% إذا كان أحد الوالدين مصابا به، ثم تزيد هذه النسبة إلى 40% إذا كان الوالدان مصابين.. وعلى الرغم من وجود هذه المورثات فقد لا تظهر أعراض هذه الاضطرابات النفسية إلا إذا تعرض الشخص إلى مسببات أخرى، يمكن أن تكون اجتماعية أو نفسية، وكل ذلك يستوجب الوقاية منها والعمل على تفاديها.. وما ينطبق على مرض الفصام ينطبق على أمراض أخرى مثل الاكتئاب النفسي، والقلق، والوساس القهري.

ومن هنا لا بد أن تكون هناك برامج للصحة النفسية، لتشمل [ ص: 166 ] الفئات العمرية المختلفة، خاصة وقد أصبح الطب النفسي يتمتع الآن بتخصصات دقيقة تشمل الطب النفسي للأطفال واليافعين، والطب النفسي للأسرة، والطب النفسي لكبار السن.. وهذه البرامج يمكن أن تشمل إرشادات للوالدين عن كيفية تخفيف الضغط النفسي على الطفل.. وفي مرحلة الدراسة، تكون هذه البرامج موجهة لتطوير الدور الذي يمكن أن يضطلع به البيت والمدرسة على وجه الخصوص، في الوقاية من الضغوط النفسية والعاطفية، والارتقاء بالعلاقات الاجتماعية، ونمو الشخصية.

وكذلك يمكن للطبيب النفسي أن يساعد في تحقيق الجو المناسب في بيئة العمل وميادين الصناعة، الأمر الذي يخفف الضغوط النفسية والاجتماعية، وبالتالي يساعد في الوقاية من الاضطرابات النفسية.

وهناك دور مهم للصحة النفسية للوقاية من الاضطرابات النفسية في مرحلة الشيخوخة، نظرا لحدوث التغيرات الجسدية والنفسية والاجتماعية.. وهنا يجب مواجهة العوامل التي ربما تؤدي إلى زيادة هذه التغيرات مما يعرض المسن للإصابة باضطرابات الشيخوخة، ومن هذه العوامل مشكلة الإحالة إلى التقاعد والعزلة الاجتماعية، أو بعد أفراد الأسرة أو وفاتهم.. والمشكلة هنا تتجاوز حدود الوحدة [ ص: 167 ]

الصحية لتشمل محيط الأسرة خاصة والمجتمع عامة، وعليه لا بد من مساعدة المسن في حدود ما تبقى له من قدرات جسدية ونفسية في تقبل التغيير ومواجهة الحياة الجديدة.

2- الوقاية الثانوية : أما الوقاية الثانوية للأسرة فتتم بتشخيص الأمراض والاضطرابات النفسية في الوقت المناسب، ثم العمل على علاجها حتى يمكن السيطرة عليها وتخفيف أثرها إلى أدنى مستوى بين المتأثرين بها، مثال ذلك اكتشاف بعض الأعراض الجسمانية والنفسية بسبب اضطرابات الغدة الدرقية، لنقص في مادة اليود، وبالتالي تتخذ الإجراءات المناسبة علاجيا ووقائيا.

ومن المجالات المهمة التي يمكن أن يتم فيها اكتشاف حالات الاضطرابات العقلية والنفسية مبكرا، إجراء الكشف الطبي على تلاميذ المدراس.. فقد يصاب بعضهم باضطرابات نفسيه نتيجة الفشل الدراسي، أو لأسباب أسرية واجتماعية، وقد يعاني بعضهم من أسباب عضوية مثل ضعف النظر أو السمع، وقد يصاب بعض الأطفال باضطراب الكلام، مثل حالات اللجلجة، التي تحتاج إلى التعرف على أسبابها، والتأكد من أن الطفل المريض بها لا يعاني من أسباب عضوية في الجهاز العصبي وأجهزة الكلام والسمع، ثم [ ص: 168 ] معالجته نفسيا، وتدريبه عمليا على النطق بالطريقة الصحيحة، وإشراك الوالدين في علاج الطفل وتدريبه بصورة صحيحة.

ثم هناك خطر استعمال الأدوية المنبهة والمخدرة بين الشباب.. واكتشاف الحالات مبكرا سوف يساعد كثيرا في علاجها والوقاية من الإدمان عليها.. وفي سياق التحدث عن تلاميذ المدارس والشباب، فإن التعاون بين الطبيب ومرافق الصحة المدرسية ومجموعة المدرسين وخاصة المشرفين على الطلاب، سوف يسهم كثيرا في التعرف على مشاكلهم واضطراباتهم النفسية، وإيجاد العلاج المناسب لها قبل أن يستفحل أمرها.

ومن أسس الوقاية الثانوية المهمة، زيادة وعي العاملين في الحقل الصحي، خاصة في مجال الرعاية الصحية الأولية، عن حجم وأعراض الأمراض النفسية حتى يمكن تداركها وعلاجها وهي في مراحلها الأولية.

ومن الحالات التي يجب التركيز عليها وتشخيصها مبكرا، حالات الانتحار، التي ترجع أسبابها إلى اضطرابات نفسية مثل: الاكتئاب النفسي، وحـالات الاضـطرابات النفسية العضوية الحادة وما يصاحبها من هذيان، والأمراض العضوية المستعصية.. وفي هذه [ ص: 169 ]

الحالات، وبعد الوقوف على حالة المريض، لا بد من إسعافه بدنيا ونفسيا، ورعايته اجتماعيا، وعمل الاحتياطات اللازمة، ثم تحويله إلى الطبيب النفسي للإشراف على علاجه.

3- الوقاية الثالثية : وتشمل الإجراءات التي يجب اتخاذها عند الإصابة بالمرض، وتهدف إلى السيطرة على الاضطرابات النفسية الناجمة عنه، والواقية من تدهور حالة المريض نفسيا وجسمانيا واجتماعيا.. وبمساعدة المريض وأسرته يتم التأهيل المناسب له لكي يعود إلى حالته الطبيعية.. ولا بد هنا من الإشارة لمشكلة الإدمان؛ لأنها من الحالات التي تهز كيان الأسر، وتمزقه، ولذا يجب التصدي لها بغية حصرها وحصارها، والتغلب عليها، وتأهيل المصابين بها، وهي مشكلة اجتماعية ونفسية وصحية واقتصادية، وذلك يقتضي تضافر الجهود للسيطرة عليها، والتحكم في الأدوية التي تؤدي إلى الإدمان، وعلاج المرضى وتأهيلهم.. ويمكن للطبيب، في إطار الفريق المعالج، بالتعاون مع الأسرة والمتابعة المستمرة للمساهمة في العلاج النفسي الفردي و الجماعي وتعميق الوازع الديني والاجتماعي.

وقبل أن اختتم هذه المساهمة، هناك أمران في إطار الوقاية، على غاية من الأهمية، لا بد من الإشارة إليهما: [ ص: 170 ]

الأول: الكشف ما قبل الزواج :

أشير لهذا الأمر كثيرا في السنوات الأخيرة، خاصة في بعض المحافل والحلقات الدراسية والبحثية المتعلقة بشئون الأسرة.. ونحن نرى أنه من الضروري أن تنشأ عيادات تقوم بالكشف والفحص الطبي، والإرشاد لكل من ينوي الزواج.. ولا بد أن يتم التركيز على تاريخ الموروثات لدى الطرفين، ولهذا الأمر أهمية كبيرة، خاصة للأسر التي لديها أعضاء يعانون من أمراض نفسية أو عقلية، حيث إننا نعلم أن الاستعداد لهذه الأمراض من الأشياء التي يمكن أن تورث، وهذا يعتبر عاملا مرضيا مهما متى توافرت الظروف المهيئة لحدوث المرض.. ولا شك أن الوقاية خير من العلاج.

الثاني: مؤسسات الإرشاد والتوجيه الزواجي :

هذه المؤسسات يمكن أن تلعب دورا فاعلا في منع تفكك الأسر، وهي تعتبر من وسائل الوقاية الأولية، وكذلك الثانوية، ولكن لا بد أن تدار مثل هذه المؤسسات من قبل أشخاص مؤهلين ومهنيين محترفين، حتى تعود بالنفع على الأزواج.

ونود أن نقترح، أن تلحق هـذه الخـدمة بإدارة المحـاكم الشـرعيـة، أو أي جهة تكون محل الفصل في الخلافات الزوجية. [ ص: 171 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية