الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ثالثا: آثار التفكك الأسري

إن آثار التفكك الأسري، يتناسب حجمها وخطورتها مع حجم وخطورة موقع الأسرة من المجتمع باعتبارها النواة الرئيسة والشريان الحيوي الذي يختزن سر الامتداد الحضاري للبشرية. فبقدر ما تكون عليه من المنعة والتألق والعطاء، يكون حظ المجتمع من القوة والنمو المتوازن الذي يضمن سلامة الناس النفسية وتوازنهم الاجتماعي.. وبقدر ما تكون الصورة معكوسة، يكون حظ المجتمع بجميع مجالاته ومناشطه من التأزم والاضطراب واستنساخ الضعف والوهن. بل إن تداعيات التفكك الأسري، في حالة العجز عن محاصرتها وتحجيم جراثيمها، قادرة على الامتداد بآثارها إلى مكتسبات الحضارة الإنسانية والإجهاز عليها.

أ ـ آثار التفكك الأسري على شبكة العلاقات الاجتماعية

إذا كان المجتمع في حقيقته كلا مركبا من جملة واسعة من التنظيمات الاجتماعية، فإن الأسرة تظل أبرزها من حيث ما هو موكول إليها من وظائف وأدوار، بل ومن حيث كونها تشكل المعين، الذي يتوقف على استمرار سيولته وقوته استمرار وقوة التنظيمات الاجتماعية الأخرى. ومن ثم فإننا نستطيع أن ندرك مدى التمزقات [ ص: 99 ] التي تتعرض لها شبكة العلاقات الاجتماعية، من جراء التفكك الذي تعاني منه مؤسسة الأسرة. لقد أدرك الناس خطورة الأمر ودق المفكرون وعلماء الاجتماع ناقوس الخطر، لما لاحظوه من سوء عواقب تآكل وظائف الأسرة، والنقص من أطرافها، بفعل الانسياق وراء ما أملته التحولات التكنولوجية والاقتصادية الهادرة من ضغوط وإكراهات.

إن القسط الوافر من نسيج العلاقات الاجتماعية، المفروض فيه أن يحاك في أحضان الأسرة. وليس ذلك النسيج إلا القيم والمعايير والميولات والاتجاهات التي يستنبطها الأفراد عبر ما يخضعون له من تنشئة اجتماعية. فإذا نضب معين ذلك النسيج استقالت الأسرة من أدوارها الحيوية، وكان ذلك إيذانا بتعرض شبكة العلاقات الاجتماعية لافتقار خطير في دواليبها ومحركاتها.. وليس من حق أي واحد، بعد ذلك، أن يزعم أن هناك ما يقوم مقام الأسرة في أداء وظائفها المضيعة في خضم تطور أهوج وغير موزون.

إننا نعلم علم اليقين أن ما يسبح في المجال الثقافي للمجتمعات الإسلامية، من جراثيم الحداثة، يمارس أثره الهدام على شبكة العلاقة الاجتماعية، ومع ذلك، فقد كان بالإمكان التخفيف من حدة ذلك الأثر من موقع الأسر، لو ظلت على ما عهد فيها من تماسك والتحام، [ ص: 100 ] بسبب ما يؤهلها له طابعها الحميمي وجوها الدافئ وروحانيتها المشعة بفعل روابط العقيدة والرحم، وما هو منوط به من مهمة توحيد الغذاء التربوي للأفراد، وما يرتبط به من نظام الضوابط الباعثة على حفظ الأمن والتضامن الاجتماعيين.

إن ما أصبحنا نلحظه من تغلغل للفردانية في نسيج العلاقات الاجتماعية، على حساب روح الأخوة الإسلامية، إن هو إلا نتاج وبيل لتلاشي ذلك الروح في أوساط الأسر المفككة، مهما يكن نوع ذلك التفكك أو شكله أو درجته.

إن معنى «الجسدية» الذي يتضمنه ( قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) [1] يجد تحققه، أول ما يجده، في النموذج الاجتماعي المصغر الذي تمثله الأسرة، فإذا انعدم هنالك بسبب داء التفكك، كان انعدامه في شبكة العلاقات الاجتماعية من باب الأولى والأحرى.

إن انفراد عقد الأسرة من خلال مخطط رهيب ينزع القوامة من يد الرجال، ويدحرج النساء إلى وراء جدران مملكتهن العريقة، ويودع [ ص: 101 ] الأطفال في مراكز تكتنفها الوحشة والبرود، إن ذلك ليعد حقا جريمة لا تغتفر في حق الحضارة الآدمية، ويستوجب خوض جهاد مرير من أجل استرجاع الحصون الضائعة، أو التي توشك أن تضيع.

ب- آثار التفكك الأسري على التقاليد والقيم والتربية والثقافة إن الذي يحفز الأطفال وأعضاء الأسر على العموم على تلقف نظام القيم التربوية وتمثله عبر جهاز الشخصية الشعوري واللاشعوري، إنما هو ذلك المناخ الأسري السليم، المفعم بالمحبة والرحمة والوئام، ومرجع ذلك إلى أن النفوس مفطورة على تشرب القيم التي تتمثل في نماذج سلوكية متحركة، يتمثل فيها قدر وفير من القدوة الصالحة التي تملك عنصر الجاذبية والإقناع. وهذه العناصر تشكل شروطا نفسية ومناخا تربويا، تتحول معها القيم المتمثلة إلى ثقافة، بمفهوم مالك بن نبي رحمه الله [2] . [ ص: 102 ]

إذا كان الأمر كذلك، فإن الأسرة التي تعاني من داء التفكك تشكو لا محالة من اختلال يمس مستوى أدائها للأدوار والوظائف، المنوطة بها، والتي على رأسها وظيفة التنشئة الاجتماعية ونقل ميراث الأمة الثقافي للأجيال الناشئة، التي تقع فريسة توجيه التيارات الثقافية المتلاطمة في خضم المجتمع، والتي دفعت بها رياح العلمنة والتغريب.

وهكذا نصبح وجها لوجه أمام معضلة ثقافية وتربوية تتمثل في إفقار النسيج الثقافي التربوي للمجتمعات العربية والإسلامية، من خلال تعطيل عملية تنمية رصيد القيم المجسدة لروح الأمة، والممثلة لبرمجتها العقلية ومنهجها السلوكي، كل ذلك لحساب اكتساح مساحات أوسع من المجتمعات من طرف جحافل القيم الثقافية الخادمة للتحديث والعولمة.

إن عملية التنشئة الاجتماعية (...) «هي العملية التي بمقتضاها يتدرب الأفراد لكي يتوافقوا مع ضروريات الحياة المختلفة، ففي داخل الأسرة يتضمن النظام الأسري مجموعة من القواعد المشتركة تحقق النظام في العلاقات الأسرية، وتعمل على تلبية رغبات أفرادها (...) ، ففي نطاق الأسرة يبدأ الطفل في تلقن الأوامر والقواعد المثالية للضبط الاجتماعي عن طريق والديه وإخوته [ ص: 103 ] الـكبار، عن طـريق تـرشـيده والـعمل علـى تـجنيـبه السلوك الـجامح أو المنحرف أو العادات المستهجنة، وإرشاده إلى خير الطرق الممكنة لتطويع مواقفه لمقتضيات الضوابط وقواعد آداب السلوك العامة» [3] .

إذا تأملنا هذه الوظائف التي تقوم بها الأسرة، والتي تكتسي طابعا تثقيفيا تربويا بامتياز، أدركنا عظم الخسارة التي يتكبدها المجتمع جراء تفكك الأسرة وانهيار كيانها.

جـ- آثار التفكك الأسري على التنمية الشاملة

يقول سيد دسوقي حسن في سياق طرح رؤيته حول «الهيكل الحضاري للتنمية»: «وما هي التنمية من جانب الدولة إن لم تكن هي التخلية بين الإنسان وترابه الوطني، يتفاعل معه في ظل عقيدة موحية بالخير، وشريعة منظمة لهذا الخير، حتى يصنع بنفسه ولنفسه طعامه وشرابه وكل حاجياته في هذه الحياة الدنيا، في حرية يتطلبها وجوده الإنساني، فإذا وضعت الدول من القوانين والأنظمة المتعارضة والمتضاربة في مجالات الحياة المختلفة ما يعوق الإنسان عن التفاعل مع ترابه الوطني، فلا تسل بعد ذلك عن تنمية أو نمو أو بقاء» [4] . [ ص: 104 ]

وبصرف النظر عما يمكن إجراؤه من نقاش حول عناصر هذا التعـريف الهـام للتنـمية، فإن الـذي يعنيـني فيه، ارتباطا بالنقطـة التي نحن بصدد تحليلها، هو التعليق الذي ذيل به، وهو الـمتمثل فيما يمكن أن تضعه أجهزة الدولة من قوانين وأنظمة تحمل في جوفها إعاقة لعجلة التنمية وتعطيلا لآلياتها.. ذلك أن مما يمكن أن يمتد إليه مفعول الإعاقة، مؤسسة الأسرة، بسبب الألغام القانونية المؤهلة لنسف كيان الأسر، أو تعريضها للتفكك والخراب.. ومن الغريب أن كثيرا من المشاريع (...) التي تقدم في بعض الدول من طرف اتجاهات علمانية، تقدم تحت شعارات تنموية، وهي في حقيقة أمرها لا تعدو أن تكون معاول لهدم الأسرة عن طريق تجريدها من سر قوتها، المتمثل فيما تنتجه من شروط نفسية وعاطفية وتنظيمية تمد الجهد التنموي بسنده الضروري.

وأضرب على ذلك مثالا، ما قدم ضمن ما سمي بـ «خطة إدماج المرأة في التنمية»، أو تحت تسميات أخرى في بعض البلدان العربية، من أفـكار لا تخـلـو من الشـذوذ، ولعل مـدخـلها محاولة إعـادة الـنـظر بإدخال تعديلات جذرية على مدونة الأحوال الشخصية لكونها تمثل في منظورهم في صيغتها الحالية عائقا أمام ولوج المرأة إلى عالم التنمية. [ ص: 105 ]

لقد طالبت تلك الأصوات بإلغاء النصوص المتعلقة بتعدد الزوجات واشتراط حضور الولي كركن من أركان النكاح، وبالتسوية في الميراث بين المرأة والرجل.. كما طالبت برفع سن الزواج إلى السنة الثامنة عشرة، وهذا إضافة إلى تبني أصحاب الخطة لبنود مؤتمر بكين، التي تفتح الباب على مصراعيه أمام كل أشكال الانسلاخ من قيم وأحكام الطهر والفضيلة والعفاف، والارتماء في أحضان الممارسات الإباحية.

إن مثل هذه الأفكار والتصورات، إن وجدت طريقها إلى التطبيق، ستعصف بالأسرة وتنسفها من جذورها، وتحرم المجتمع من الإنتاج السليم لأعظم مقوم للتنمية وهو الإنسان السوي، ذلك أن من شأن مثل هذه الخطط أن تحول المجتمع إلى مباءة تشيع فيها الفاحشة، فيصير إلى وضع ينقطع منه فيه النسل بسبب إباحة الإجهاض المخلص من ثمار الزنا، والذي حتى في خروجه إلى الحياة سيكون نسلا مشؤوما على المجتمع، بفعل عقدة اللاهوية، وحرمانه من مقومات التنشئة الصحيحة.

أضف إلى ذلك أن ما تقره الخطط العلمانية للتنمية من خروج المرأة بكثافة إلى ميادين العمل [5] ، يعد في الحقيقة مدخلا إلى [ ص: 106 ] اللاتنمية. ذلك أن هذه الظاهرة تؤدي إلى التضييق من فرص الشغل أمام الرجال، فيرتفع معدل البطالة في المجتمع مما يعمق فيه هوة التخلف الاجتماعي والاقتصادي فضلا عن مستويات التخلف الأخرى.

التالي السابق


الخدمات العلمية