الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
أولا: تحديد المفاهيم

يقتضي الجواب على هذا السؤال بشكل موضوعي، تحديد جملة من المفاهيم من قبيل: مفهوم الأسرة، ومفهوم الزواج، الذي هو المدخل الطبيعي والشرعي إلى عالم الأسرة.

أ- مفهوم الزواج الاصطلاحي عرفته مدونة الأحوال الشخصية بأنه: «ميثاق ترابط وتماسك شرعي بين رجل وامرأة على وجه البقاء، غايته الإحصان والعفاف مع تكثير سواد الأمة بإنشاء أسرة تحت رعاية الزوج على أسس مستقرة، تكفل للمتعاقدين تحمل أعبائهما في طمأنينة وسلام وود واحترام» [1] . [ ص: 72 ]

ب- مفهوم الأسرة يعرفها ابن منظور بقوله: «إنها الدرع الحصينة التي يحتمي بها الإنسان عند الحاجة ويتقوى بها» [2] .

يتبين من خلال تعريف كل من الزواج والأسرة، أن هناك علاقة وطيدة فيما بينهما، بحيث لا تتحقق صفة الدرعية المذكورة في تعريف ابن منظور، إلا إذا توفرت الأركان وتـحققت المقاصد.. فالأسرة لن تكون درعا إلا إذا تأسست على ميثاق بين الزوجين [3] ، وهي إشارة إلى «الـميثاق الغليظ» الذي ورد في القرآن الكريم [4] ، ولن يكون كذلك إلا إذا كان بنية التأبيد ونشدان الإحصان والعفاف، وحفظ النوع المتميز بالرسالية، وحفظ الأمانة، والخضوع لمقتضيات العقد وما يتطلبه من ضوابط تنظيمية كالقوامة، ومعنوية [ ص: 73 ] كالود والاحترام والسلام. وهذه الصفات والمقومات والأركان إن هي إلا تجسيد اختزالي لروح التوجيه القرآني المستفيض الذي ورد بخصوص هذا الموضوع [5] .

وما ورد في شأن بيانه من سنة نبوية شريفة تزخر بها كتب الحديث.

ولقد حرص الإسلام على توفير كل العوامل والشروط التي تؤمن المقاصد المتوخاة من إقامة مؤسسة الأسرة، بدءا من حسن اختيار الزوج وما يستلزمه ذلك من تجنب فرض أي شكل من أشكال الحجر والإكراه [6] ، مرورا بوضع نسق متكامل من القيم والآداب والضوابط يلتزم به الزوجان، لينعم عش الزوجية في ظله بحكمة التدبير وحسن المعاشرة وعمق التفاهم، ونعمة الطمأنينة والأمان، كما يلتزم بها الأبناء الذين هم ثمرة هذا الزواج [7] ، من أجل أن تتفتح أكمام الأسرة عن ثمار يانعة طيبة، وتؤدي رسالتها كاملة في تثبيت دعائم المجتمع، ومده بطاقات هائلة وقدرة موصولة على التجدد والنماء. [ ص: 74 ]

وجدير بالذكر هنا، أن الالتزام بالقيم والآداب والضوابط المذكورة، هو التزام طوعي، يتأسس على تشرب تربوي، يحوله إلى هيئة راسخة في السلوك، يندرج معه في مسمى العبادة، عبادة الله عز وجل وابتغاء وجهه ونيل رضاه.

ومما يميز منهج بناء الأسرة في الإسلام -حتى ينعم بالتماسك والبقاء- قيامه على الجمع في أسس ذلك البناء بين ما هو ذو صبغة عقدية روحية تتمثل في الاستجابة للنداء الرباني الداعي إلى عبادة الله العزيز الجبار من خلال القيام بوظيفة الاستخلاف، وبين ما هو ذو صبغة وجدانية عاطفية تتمثل في إشباع أعمق حاجات الكيان الإنساني وأشواقه، يضاف إلى ذلك عامل الإشباع المادي المتمثل في إيتاء ذي القربى والوفاء بالحقوق المادية للأزواج والآباء والأبناء [8] .

وفي هذا التلاحم العجيب بين الإشباع المادي والإشباع الروحي المعنوي، والتدبير التنظيمي، ما فيه من تعبير عميق عن واقعية الإسلام، وقدرة فائقة على تأمين قدر عال من التماسك والاستقرار والقوة والمنعة للكيان الأسري. [ ص: 75 ]

جـ- مفهوم التفكك الأسري إذا كان تماسك الأسرة يقاس بمدى نجاحها في أداء وظائفها، والوفاء بما هو منوط بها من اختصاصات، فإن تفككها يقاس بمدى ما تفقده أو تتخلى عنه من تلك الوظائف والاختصاصات.. وبناء على هذا المقياس الذي يكتسي في اعتقادي قدرا مهما من الدقة والموضوعية، يمكن الحديث عن مستويات أو أنواع من التفكك الأسري تصنف درجتها في المقياس المذكور.

ومن ثم فلا مناص من إبراز الوظائف التي نيطت بها الأسرة حتى يكتسي حكمنا على الواقع الأسري بالتفكك أو بغيره، طابعا من الموضوعية والمصداقية. فما هي يا ترى وظائف الأسرة؟

بالرجوع إلى تعريف الزواج السالف الذكر، يتبين لنا أنه يحتوي على إبراز بعض تلك الوظائف.

فهناك وظيفة الإحصان والعفاف، التي تجسد حفظ كلية من الكليات الخمس، هي كلية العرض، وهي تؤدي في ذات الوقت وظيفة نفسية بما تشيعه العلاقة الزوجية في كيان الزوجية من شعور بالأمان والسكن والاستقرار.

يقول الله سبحانه وتعالى : ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) (الروم:21) . [ ص: 76 ]

أما الوظيفة الثانية المستقاة من التعريف، فهي الوظيفة التكاثرية، المعبر عنها بتكثير سواد الأمة [9] ، وهي ذات صلة وثيقة بكلية أخرى من الكليات الخمس، إنها كلية حفظ النسل أو النوع.

وهناك وظيفة ثالثة تضمنها تعريف ابن منظور للأسرة، هي وظيفة تحقيق الأمن وإشباع الحاجة إلى الانتماء لدى أفراد الأسرة، على اختلاف مواقعهم، ولن يجد هذا الشعور عمقه وأبعاده الحقة إلا في ظل مناخ أسري يستبطن روح القيم والآداب والأحكام التي ارتضاها الإسلام سياجا منيعا يتحرك عبر مجاله أعضاء الأسرة، ويمارسون أدوارهم، بحسب ما هم مؤهلون وميسرون له.

والوظيفة الرابعة هي وظيفة التنشئة الاجتماعية، المتمثلة في تشكيل شخصيات الأولاد طبقا للنموذج الثقافي الذي يتطابق مع ميراث الأمة الحضاري، ويعكس مطامحها في معترك التدافع من أجل إثبات الذات وتأصيل الوجود. وحتى نرتقي من التعميم إلى التدقيق في سياق المفهوم الإسلامي، نقول: بأن هذه الوظيفة الرابعة [ ص: 77 ] تتمثل في حماية الفطرة والحفاظ على كنوزها وإخراج مكنوناتها، وذلك من خلال تأمين البيئة السليمة التي تسمح بذلك. ويعكس هذه الحقيقة ( قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ) [10] .

عود على بدء: بعد هذا البيان الموجز لوظائف الأسرة نعود لنتساءل عن أنواع التفكك الأسري.. فما هي أنواع التفكك الأسري

د- أنواع التفكك الأسري لقد سبق القول: بأنه يمكننا التمييز في ظاهرة التفكك الأسري بين مستويات على سلم متعدد الدرجات.. وفي ضوء هذه الحقيقة يـمكننا أن نتحدث عن درجات دنيا من التفكك لا يتعثر معها سير الأسرة، كأن تفـتر عاطـفة التواد بين قطبيها: الأب والأم، لأسباب عارضة، قد تكون ذات صبغة مادية ترتبط بحاجات بيولوجية أو غيرها، وقد تكون ذات صبغة معنوية فكرية، كأن ينشأ نزاع أو اختلاف حول شأن من شئون الأسرة، ينجم عنه هزة خفيفة [ ص: 78 ] تلبد سماء عالم الأسرة لفترة من الزمن، مما يخلف بعض الرضوض على جسم الأسرة، قابلة للتضميد بواسطة جهد إقناعي يعقب استيقاظا للوعي بأهمية الحوار كوسيلة ناجعة لفك العقد وحل المشاكل وفض النزاعات، وهذا في حالة الانطلاق من مرجعية واحدة محددة المقاصد والأهداف.

هذا النوع من أنواع التفكك يتميز بالبساطة، رغم إمكانية ترشحه للتفاقم والامتداد، في حالة تدخل عناصر خارجية تسعى لسبب أو آخر إلى إذكاء نار الخلاف بدلا من العمل على إخمادها، استجابة لنداء الإصلاح.

كما يمكن أن يأخذ التفكك الأسري طابعا أشد حدة، يتمثل في تمزق أوصال الأسرة وانفراط شملها، ولو في ظل استمرار عقد الزوجية قائما، وذلك بفعل التخلي عن واحدة أو أكثر من الوظائف المنوطة بها. فالتفريط في أمر التوجيه التربوي، لا بد أن يستتبع جفاء بين أفراد الأسرة، ويجعل منهم جزرا، وإن كانت متجاورة مكانيا فهي متباعدة شعوريا، بسبب التقصير في تعميق المرجعية الواحدة لدى أفراد الأسرة لتوحيد «شاكلتهم الثقافية».

وهذا النوع من أنواع التفكك الأسري يتسع نطاقه إلى حد بعيد، بفعل استقالة الآباء عن القيام بأعباء التنشئة الثقافية، أو بفعل [ ص: 79 ] الصدام والتعاند والتشاكس التام في أمر المرجعية المعتمدة لدى الأبوين داخل حمى الأسرة، أو بسبب عوامل شتى، سيأتي بيانها عند التطرق لأسباب التفكك الأسري بنوع من التفصيل.

ويمكن الحديث عن نفس الآثار السلبية في حالة ضمور الشعور بالانتماء لدى أفراد الأسرة، بسبب توقف الأسرة عن توفير الأجواء الباعثة على الأمـن، سـواء عـلى مستـوى إشـباع الـحاجات الـماديـة أو النفسية.. أو الفكرية والروحية.

أما النوع الثالث: من أنواع التفكك الأسري، فهو ذاك الذي ينقض فيه الميثاق الغليظ وتنفصم عرى الزوجية بفعل الطلاق. فهذا النوع ينطبق عليه مفهوم التفكك بـمستوييه الـمادي والـمعنوي، وهو نتاج لدرجة قصوى من اختلال الوظائف والمهمات المسندة لمؤسسة الأسرة.

هـ- الأسرة بين خطر التفكك وخطر الاندثار

إن من سنن الله تعالى في الاجتماع البشري، أن الأمراض الاجتماعية والانحرافات التي تصيب الإنسان في تعامله مع نفسه ومع غيره، ومع المحيط الذي يكتنفه بعامة، لا تقف عند حد معين، ما لم تطوق جراثيمها، ويقطع دابرها من خلال استئصال أسبابها. وهذا هو السر وراء أخذ الإسلام بمبدأ سد الذرائع كمنهج وقائي فريد، يكفل [ ص: 80 ] تطبيقه تجنيب المجتمعات الوقوع في الكوارث والأزمات.

وتتمثل حقيقة هذا الكلام، ارتباطا بالموضوع الذي نحن بصدده، في أن الاختلالات التي تعتري كيان الأسرة، من جراء تخليها عن بعض الوظائف كوظيفة الأمومة ووظيفة القوامة ووظيفة التنشئة والتهذيب وغيرها، يشكل بذورا لاندثار الأسرة وموتها بشكل تام، ولو بعد حين.

فإذا أخذنا على سبيل المثال مسألة الأمومة، وقمنا بمعاينة الآثار المدمرة الناجمة عن إهمالها وتجفيف منابعها، وقفنا على أن خسائر فادحة قد تكبدتها الإنسانية نتيجة الانجراف وراء أنماط من الممارسات الشاذة عن الفطرة. إن إخراج المرأة إلى عالم الشغل ـ في غير ما ضرورة ـ تحت ذرائع شتى واضحة البطلان، يؤدي حتما إلى ضياع الأمومة كحاجة نفسية وبيولوجية ملحة من جهة، وكمقوم أساس لطفولة سوية ومتوازنة من جهة أخرى، وكل ذلك من مظاهر العدوان على الفطرة الذي لا يعدم عقوبته. [ ص: 81 ]

إننا نشاطر المفكر المسلم علي عزت بيكوفيتش في ما ذهب إليه من أن (كل درجة تطور في المجتمع يقابلها حيف بالأسرة بنفس النسبة، فإذا ما تم تطبيق المبدأ الاجتماعي بكل نتائجه ـ أي وصل إلى وضع الطوبيا ـ تلاشت الأسرة. إن الأسرة باعتبارها حاضنة العلاقات الرومانسية والشخصية الحميمة في تعارض مع جميع مبادئ الطوبيا) [11] .

ويقول بيكوفيتش معبرا عن نفس الحقيقة - في موضع آخر من الكتاب -: (إن الحضارة لا تقضي على الأسرة فقط من الناحية النظرية، وإنما تفعل ذلك في الواقع أيضا. فقد كان الرجل أول من هجر الأسرة ثم تبعـته المرأة، وأخيرا الأطفال. ونستطيع أن نتتبع القضاء على الأسرة في كثير من الجوانب. فعدد حالات الزواج في تقهقر متصل، مع تزايد في حالات الطلاق، وازدياد عدد النساء العاملات، والزيادة في عدد المواليد غير الشرعيين، وازدياد مستمر في عدد الأسر التي تقوم على أحد الوالدين فقط وهي الأم... إلخ) [12] .

إن ما عبر عنه المفكر علي عزت بيكوفيتش من حقائق ليعكس بجلاء الوجه المأسوي والبعد التدميري الرهيب للتطور. غير أنه لا بد ها هنا من تعقيب هام لاستكمال صورة الحقيقة، ويتعلق الأمر بالتنصيص على أن التطور الذي تحدث عنه علي عزت بيكوفيتش، [ ص: 82 ] والذي ترتب عنه ذلك الانتقال الـمأسوي من الأسـرة إلى اللاأسرة، إنما هو تطور منفلت من أي نسق من الضوابط الكفيلة بتسديد المسار... وهنا لا بد من التمييز بين تطور محكم مسدد بالوحي، وبين تطور أخرق ينساق وراء الغرائز والأهواء. ولربما تعلل بعض المتفائلين بأن هذه التحولات الخطيرة إنما هي مقصورة على المجتمعات الغربية التي ذهبت أشواطا بعيدة في مضمار التطور، أما المجتمعات المتخلفة تكنولوجيا فليست معنية بالنتائج الوخيمة لتلك التحولات!

والحق أن مثل هذا الفهم، إن وجد، يغفل طبيعة عالم يعيش في ظل عولمة كاسحة، تتذرع بأقوى الأساليب والتقنيات من أجل تنميط العالم وصبه عنوة في قالب موحد يمثل رؤية الغرب للحياة، مسخرة في ذلك مظلة المنظمات الدولية المنضوية في إطار الأمم المتحدة، ساعية إلى إعطائها طابع الشرعية والإلزامية.

ولقد استطاع الأستاذ المفكر عمر عبيد حسنة أن يجمل أهداف المحاولات الخطيرة والمحمومة، التي يقوم بها الغرب لنسف حصن الأسرة، الذي ما يزال يحتفظ ببعض قدراته على المقاومة والصمود. [ ص: 83 ]

يقول: «إن المحاولات اليوم مستمرة لتكسير حواجز الحياة، والقفز فوق الكثير من الضوابط والقيم الدينية الأخرى أيضا، لينتهوا إلى أن مفهوم الأسرة بالمعنى الذي يشرعه الدين ليس إلا مفهوما عقيما، وقيدا على الحرية الشخصية؛ لأنه لا يتقبل العلاقات الجنسية الحرة بين مختلف الأعمار، ويشترط أن تكون بين ذكر وأنثى فقط، وضمن الإطار الشرعي، ولأنه لا يمنح الشواذ حقهم في تكوين أسر بينهم، ويتمسك بالأدوار النمطية للأبوة والأمومة والعلاقات الزوجية ضمن الأسرة، معتبرين أن ذلك مجرد أدوار وأشكال لا تخرج عن كونها مما اعتاد الناس ودرجوا عليه وألفوه، حتى دخل في طور التقاليد المتوارثة» [13] .

التالي السابق


الخدمات العلمية