الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          حقوق الإنسان (بين الشريعة والقانون)

          الدكتور / منير حميد البياتي

          المطلب الأول

          امتلاك الشريعة للأنظمة المصلحة للسلوك الإنساني للفرد

          والجماعة وأشخاص السلطات الحاكمة

          هذه المنظومة الثلاثية؛ أعني: نظام العقيدة الإسلامية، ونظام الأخلاق الإسلامية، ونظام العبادات في الإسلام، شأنها أن تصلح السلوك الإنساني للفرد والمجتمع والدولة، وتوجه إرادة الجميع إلى الإيمان والعمل الصالح، وبذلك ينتشر المعروف وينحسر المنكر، ويندر البغي والظلم والعدوان والإفساد في الأرض وانتهاك حقوق الإنسان. فلا يوجد متظلم من انتهاك حقوق الإنسان بعد، إلا استثناء لا عبرة به.

          وقد كان هـذا هـو حال الدولة والأفراد في دولة العهد النبوي والخلافة الراشدة، والكثير من عصور الإسلام، " قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : «وليت القضـاء في عهد أبي بكر سنتين فلم يختصم إلي اثنان» " [1] . [ ص: 97 ] وسنبين فيما يلي شيئا وجيزا جدا عن هـذه المنظومة الثلاثية من الأحكام، والتي هـي الأساس والجوهر في تفعيل حقوق الإنسان، والتي لا يوجد منها شيء في قواعد القانون الدولي، ولا في قواعد القانون الداخلي للدولة القانونية بالصيغة الوضعية، ولا في الإعلانات العالمية التي تشيد بحقوق الإنسان وتدعو إليها مع افتقاد هـذه المنهجية المتعذرة عليها.

          وهذه المنظومة تتألف من الأساس الفكري لنظام الحقوق والحريات في الإسلام وهو العقيدة الإسلامية، ثم ما يبنى عليها من نظام الأخلاق الإسلامي، ونظام العبادات، وآثار ذلك كله في حماية حقوق الإنسان. فهذه الأنظمة الثلاثة تشكل الشق الأول من المنهجية المثلى التي يقدمها الإسلام لتفعيل حقوق الإنسان على صعيد الواقع، والتي بدونها يكون تعداد حقوق الإنسان والإشادة بها وعقد الاتفاقيات بشأنها كمن يجري وراء السراب، أو كمن ينشر البذر في الأرض صيفا ولا يسقيه، وليس معه ماء أصلا، ثم ينتظر الحصاد.

          وأوضاع انتهاكات حقوق الإنسان الفظيعة في أنحاء العالم شاهد على ذلك، وأهلها كثر في كل زمان،

          قال تعالى: ( ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى ) (فاطر:45) . [ ص: 98 ]

          أولا: الأساس الفكري لنظام الحقوق والحريات في الإسلام (العقيدة الإسلامية)

          قد تبينا أن الأساس الفكري لنظرية الحقوق والحريات في القانون الدولي والقانون الدستوري وغيرهما هـو نظرية القانون الطبيعي [2] والفكر العلماني، وبينا بعض آثاره، ونقول الآن بمناسبة الكلام عن منهجية التفعيل: إن هـذا الأساس ليس فقط لا يخدم حقوق الإنسان ولا يسهم في تفعيلها بل هـو متضاد بطبيعته تضادا مؤكدا وحتميا مع حقوق الإنسان؛ لأن هـذا الأساس ينتج عنه بطبيعته الإنسان الدنيوي (اللاديني) ، الذي تكون مصالحه وأهواؤه لها المقام الأول، فيتصارع مع الآخرين من أجل لذاته وشهواته ومصالحه؛ من مال، ومتاع، وسـلطة، ولا يغرنك دفاعـه عن نفسـه بمعسول أقواله، ولا تعجب بها، فإن خالقه قد أخبرنا خبره،

          قال تعالى: ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب [ ص: 99 ] الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد ) (البقرة:204-206) ، وقال: ( إن الإنسان خلق هـلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هـم على صلاتهم دائمون ) (المعارج:19-23) ،

          وقال: ( إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي ) (يوسف:53) .

          وهذا الصنف من الناس يحسب الدنيا (مائدة طعام وفرصة متاع) ،

          قال تعالى: ( والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم ) (محمد:12) .

          وهل انتهاكات حقوق الإنسان كلها إلا من إنسان في مركز القرار بيده القوة والسلطان، أسير لأهوائه، وشهواته، ولذاته، ومصالحه المتركزة في نفسه الأمارة بالسوء؟ فكيف يتغلب على ذلك، والأساس الفكري الذي يؤمن به يعلمه أن الدنيا هـي كل شيء، وأنها ميدانه الوحيد، فيغترف من شهواتها ولذاتها بكلتا يديه، حلالا وحراما؛ ليحقق لنفسه مرادها، ويسابق الليل والنهار من أجل ذلك من قبل أن يدركه الموت؟

          وهكذا فإن هـذا الأساس الفكري (يوجد الباعث) على انتهاك حقوق الإنسان كنتيجة طبيعية، ويكون من العبث بعد ذلك أن تتحدث النظرية عن حقوق الإنسان، وهي تسهم في إيجاد الباعث على انتهاكها، وهل هـذا إلا الجهل والتناقض؟ [ ص: 100 ]

          آثار الأساس الفكري الإسلامي في تفعيل الحقوق والحريات

          أما الأساس الفكري لنظام الحقوق والحريات في الشريعة الإسلامية فهو العقيدة الإسلامية، وهي عقيدة نتيجتها الطبيعية (انعدام الباعث) على انتهاك حقوق الإنسان، و (إيجاد الحافز) لاحترامها؛ طمعا في رضوان الله، وخوفا من عقابه.

          فالإنسان بموجب هـذه العقيدة مخلوق لخالق عظيم هـو الله تعالى، خلقه وكرمه وفضله تفضيلا:

          ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) (الإسراء:70) .

          وبناء على هـذا التكريم والتفضيل منحه ضمن شريعته حقوقا هـي (منح إلهية) يحرم مصادرتها أو الاعتداء عليها أو انتهاكها، وأعلمـه أنه لم يخلقه عبثا وإنما هـنالك رجوع وجزاء:

          ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هـو رب العرش الكريم ) (المؤمنون:115-116) ،

          وأعلمه أنه صائر إلى إحدى نتيجتين: ربح الأبد في جنات النعيم، أو خسارة الأبد في نيران الجحيم:

          ( إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار [ ص: 101 ] لفي جحيم ) (الانفطار: 13-14) ، وكل هـذا مبني على حسن العمل: ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) (هود:7) ،

          وحذره أن تغره الحياة الدنيا ولذاتها وشهواتها التي من أجلها ينتهك حقوق الناس فيبغي، أو يظلم، أو يعتدي؛ جلبا للمال والشهوة والجاه والسلطان، فكله نعيم زائل ليس وراءه إلا الندامة، ولا يساوي شيئا عند تحقق الجزاء:

          ( أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون ) (الشعراء:205-207) .

          وفي مثل هـذا الجو الناشيء من عقـيدة الإيمان بالله واليوم الآخر وبقية أركان الإيمان، يحذر الإنسان أشد الحذر من انتهاك حقوق الإنسان بالظلم، والبغي، والعدوان، والإفساد في الأرض، فيتقي ويتورع.

          وهذا الاعتقاد -وله تفاصيله المؤثرة في صياغة النفس الإنسانية- له أثره العظيم في سلوك الفرد وأصحاب القرار؛ لأنه يولد (امتناعا ذاتيا) عن انتهاك حقوق الإنسان، حيث إنه (يعدم الباعث) على الانتهاك، ويقيم في النفس (واعظا دائما) يكفه عن الانتهاك، ويقيم في النفس أيضا (محكمة دائمة) ، يحاكم بها نفسه قبل محكمة القضاء وقبل محكمة الآخرة. [ ص: 102 ] وكل هـذه الآثار العظمى متعذر على القانون الوضعي بأساسه الفكري أن يحصل على شيء منها، فهو محروم منها جميعا بما يعود على حقوق الإنسان بأعظم الخسارة.

          وأيضا فإن فهم هـذا الأساس الفكري لنظام الحقوق والحريات في الإسلام يجعل الفرد يتمتع بتلك الحقوق على أنها (منح إلهية) وفقا لشريعة الله، ويجعل الدولة في النظام الإسلامي تحرص على تمكين الأفراد من التمتع بها حرصهم عليها أو يزيد؛ لأنها ما قامت إلا لتمكينهم من أن يحيوا الحياة الإسلامية التي من مقوماتها تمكينهم من التمتع بتلك الحقوق والحريات، بل دفعهم إلى مباشرتها واستعمالها، فضلا عن حمايتها من كل انتهاك؛ لأنها جزء من الشريعة، ودين واجب الاتباع، وليست مجرد إعلانات لحقوق الإنسان.

          وثمرة ذلك عظيمة الأهمية؛ إذ يصبح الفرد والدولة يسيران في اتجاه واحد بشأن الحرص على الحقوق والحريات، بخلاف النظرية الوضعية التي تجعل الفرد والسلطة في اتجاهين متعاكسين، فالسلطة تنزع إلى الإطلاق، والأفراد ينزعون إلى تقييدها، وهي حالة صراع مرير بينهما. [ ص: 103 ] ففي ظل الأساس الفكري الإسلامي هـذا يتقبل الفرد بنفس راضية كل الضوابط والتنظيمات التي قررتها الشريعة الإسلامية على تلك الحقوق والحريات، والسلطة تتقبل بنفس راضية أيضا كل الضوابط والقيود على سلطاتها لمصلحة حقوق الإنسان؛ لأن الفرد والسلطة يؤمنان بعقيدة واحدة انبثقت من شريعتها تلك الحقوق والحريات، ويؤمنان بإله واحد هـو الذي منح تلك الحقوق والحريات.

          وبهذا وفق النظام الإسلامي بين النزعة الفردية والنزعة الجماعية توفيقا انفرد به؛ وذلك عن طريق توحيد الغاية للفرد والدولة، فجعل غاية الفرد هـي نفسها غاية السلطة، وهدف السلطة هـو نفسه هـدف الفرد، وهو تنفيذ الشريعة التي هـي القانون الإسلامي، بما في ذلك الحقوق والحريات؛ ابتغاء مرضاة الله، وطمعا في السعادة الأخروية.

          ومن ثم فإن شخصية الفرد لا يمكن أن تفنى في الدولة في النظام الإسلامي، وإنما تقوم بإزائها، وتقف معها، ويكون بينهما تساند من الجانبين، فإذا كان على الفرد أن يعين الدولة ويعمل على بقائها وصلاحها، وهو ما عبر عنه الفقهاء بتقديم الطاعة والنصرة، فإن على الدولة أن تحقق شخصية الفرد بصفة بارزة، بحيث تمكنه من التمتع بكامل حقوقه وحرياته. [ ص: 104 ]

          ثانيا: الآثار العظمى لنظام الأخلاق الإسلامية في الحقوق والحريات

          وهذا هـو النظام الثاني ضمن المنظومة الثلاثية، التي تشكل منهجية تفعيل حقوق الإنسان، وهو ينتج من الآثار ما لا يغني عنه سواه البتة؛ إذ يوصل إلى سيادة نوع من الخصال الخلقية، ونمط من السلوك الذي يتعامل به الفرد والجماعة وأشخاص السلطات الحاكمة، يسهم في صيانة مبدأ المشروعية وحماية حقوق الإنسان وحرياته من الانتهاك، عن طريق (بناء الذات) ؛ بناء أخلاقيا إيجابيا تجاه حقوق الإنسان، ومتنافرا مع انتهاكها تنافرا طبيعيا في صورة طبع وسجية، وبذلك (ينعدم الباعث) على انتهاك حقوق الإنسان (ويوجد الحافز) لاحترامها.

          فهذا النظام غايته الأساسية أن يوجد وينمي الخصال الخلقية الإسلامية في القلب؛ لتظهر آثارها في السلوك في صورة فعل، أو قول، أو ميل، أو قرار، ويستأصل من القلب الصفات الخلقية الذميمة ويجتثها؛ لئلا ينتج عنها العمل القبيح والسلوك الذميم والقرار الضار المنتهك لحقوق الإنسان، فملاك ذلك كله حال القلب من جهة خصاله الخلقية التي يحتويها. وغرض النظام الأخلاقي الإسلامي إيجاد [ ص: 105 ] الحسن منها، واجتثاث الخبيث منها، فهي كالجذور التي يتشكل حال الثمر بشكلها حسنا وخبثا،

          قال تعالى: ( والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا ) (الأعراف:58) ،

          وقال أيضا: ( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) (الحج:46) .

          ومن هـنا كان إصلاح النفس من الداخل هـو الإصلاح،

          قال سبحانه وتعالى : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد:11) ،

          ( وقال صلى الله عليه وسلم : ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ) [3] . فكل صفة تظهر في القلب يظهر أثرها على الجوارح [4] صورة سلوك؛ عمل أو قول أو قرار، وما من انتهاك لحقوق الإنسان إلا وهو ناشئ من أخلاق خبيثة، لم يكن للنظام الأخلاقي الإسلامي سبيل إليها لإصلاحها، فكل القرارات التي تم بها تدمير حقوق الإنسان عالميا ناشئة من الإرادة الخبيثة. [ ص: 106 ] " وما يتم اليوم من قتل وتشريد وحصار وتجويع للشعوب مداره كله على الإرادة الخبيثة، وكذلك ما يصدر من السلطات الحاكمة في الدول المختلفة تجاه شعوبها من انتهاك حقوق الإنسان، وكذلك ما يحصل من انتهاك حقوق الإنسان من الأفراد تجاه بعضهم بعضا.

          ومن هـنا يبدو أنه بدون نظام الأخلاق الإسلامية يتعذر صيانة مبدأ المشروعية وحماية حقوق الإنسان.

          والإسلام قدم في ذلك قائمتين مفصلتين أشد التفصيل، في الأخلاق المطلوبة شرعا، والأخلاق المحظورة شرعا [5] ؛ وجعل الأخلاق المطلوبة: منها ما هـو واجب، ومنها ما هـو مندوب. وجعل الأخلاق المرفوضة شرعا: منها ما هـو حرام، ومنها ما هـو مكروه. وبذلك جعلها قانونا يسري على الجميع، وجعل خرق الواجب أو المحرم منها يستتبع الجزاء، وربطها بالإيمان وجودا وعدما؛ لكي يضمن لها السيادة في المجتمع والدولة، ورتب عليها الجزاء في الآخرة، وقدم الوسائل العملية التي تنقلها من النظرية إلى التطبيق؛ هـي وسائل اكتساب الأخلاق وتقويمها، وجعل من الأخلاق روحا تسري في جميع القوانين وفي جميع [ ص: 107 ] نشاطات السلطات الحاكمة وأصحاب القرار، وهذا هـو الطريق لتفعيل حقوق الإنسان وحمايتها من الانتهاك.

          والسؤال الآن: هـل يمتلك القانون الدولي شيئا من هـذه المنهجية؟ وهل يمتلك نظام الدولة القانونية بالصيغة الوضعية شيئا منها؟ وإذا كان الجواب المؤكد بالنفي، فكيف إذن يمكن تفعيل حقوق الإنسان وحمايتها؟ وهل يغني عن ذلك تعداد حقوق الإنسان والإشادة بها، أو حتى تنظيم أجهزة الدولة بطريقة حسنة؟

          وعلى ذلك فإن نظام الدولة القانونية بالصـيغة الوضعية -التي لا يحفل أساسها الفكري العلماني بشيء مما ذكرناه- مهما كان قد روعي فيها تنظيم أجهزة الدولة تنظيما مناسبا ليحصل به الخضوع للقانون، والتقليل من انتهاكات حقوق الإنسان من السلطات الحاكمة قدر الإمكان تبقى عاجزة عجزا تاما عن حل المعضلة الأهم بل معضلة المعضلات، التي تكمن في (حال البشر) الذين يتألف منهم كيان هـذه الأجهزة من جهة صفاتهم وأخلاقهم، التي تؤثر تأثيرا بالغا فيما يصدر عنهم من سلوك، أو فعل، أو قانون، أو قرار، فما دام هـؤلاء بعيدين عن النظام الأخلاقي الإسلامي فإن حسن التركيب العضوي للدولة وتنظيم أجهزتها لا يمكن أن يأتي بالمعجزات. [ ص: 108 ] فلكي يكون البشر الذين يتألف منهم كيان أجهزة الدولة التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، وغيرها، وكل من له دور في قانون، أو قرار إداري، أو عمل مادي، وكل من يكون عمله له صلة بمبدأ المشروعية وعدم انتهاك حقوق الإنسان، وكذلك المواطنون العاديون... لكي يكون كل هـؤلاء الذين ذكرناهم صادقين مخلصين، أمناء أوفياء، عدولا، يحبون الحق، ويعشقون العدالة، ويدورون مع الحق حيثما دار، حافظين لحقوق الناس، حريصين على حقوقهم وحرياتهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم، متجنبين الكذب، والغدر، والخيانة، والرشوة، والعبودية للشهوة والنـزوة، والخضوع لمطالب النفس الأمارة بالسوء، التي من أجلها ينتهكون حقوق الإنسان يحتاج الأمر إلى أن يكونوا على درجة كبيرة من الرسوخ في الأخلاق، وإلا كانت حقوق الإنسان عرضة للانتهاك في كل حين، ولا سبيل إلى ذلك إلا بنظام الأخلاق الإسلامي.

          ومن هـنا تكون حماية حقوق الإنسان وصونها من الانتهاك في ظل الدولة القانونية بالصيغة الوضعية القائمة على أساس العلمانية أماني يتمناها المتمنون، وكتابات يسطرها المنظرون، وليس معهم من منهجية تفعيلها شيء. [ ص: 109 ]

          ثالثا: الآثار العظمى لنظام العبادات الإسلامية في الحقوق

          وهذا هـو النظام الثالث ضمن المنظومة الثلاثية التي تشكل منهجية تفعيل حقوق الإنسان في النظام الإسلامي، فالإسلام يقيم نظام المجتمع والدولة على أساس: الفرد العابد، والمجتمع العابد، والحاكم العابد. وقد جاء الإسلام بنظام تفصيلي للعبادات -ليس هـنا مكان شرحها- جعل بعضها فريضة كأركان الإسلام وغيرها، ألزم الإنسان بها إلزاما، وأجزل له الأجر والثواب، وعاقب على تركها بأشد العقاب، وجعل بعضها الآخر نافلة رغب فيها وأثاب عليها، وجعلها ميدانا للاستكثار والتنافس بين الناس؛ أكرمهم أتقاهم، وأتقاهم أحسنهم أداء للفرائض، وأكثرهم أداء للنوافل، وأحذرهم عن محارم الله وانتهاك حقوق الناس؛ تعظيما لها وامتناعا عن قربانها، وأكثرهم علما وعملا بأحكام الإسلام [6] .

          والحق أن حياة البشر لا تستقيم، والتظالم بين الناس لا ينتهي، وانتهاك حقوق الإنسان في الأرض عامة لا يتوقف بحيث تقوم لهم حياة سوية تحمى فيها حقوق الناس وحرياتهم، إلا إذا ارتبط البشر [ ص: 110 ] بخالقهم ارتباط الطاعة والخضوع، والتلقي منه وتطبيق شرعه في حياتهم، مجتمعا ودولة، فمن أجل ذلك أرسل الله رسله، ومن أجله أنزل كتبه،

          قال تعالى: ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) (الحديد:25) .

          ولا تتحقق للإنسان -فردا أو حاكما- استقامته التامة وسعادته أيضا إلا بمعرفة الله وعبادته التي تفعل فعلها في النفس، فتصفيها من الخبث، وتسمو بها، وتزكيها، وتطيبها، وتصلح الإرادة وتنقيها من الأهواء الفاسدة، وبذلك يصلح القرار، وهل انتهاكات حقوق الإنسان إلا بقرارات من إرادات خبيثة فاسدة؟ وكذلك تضبط تفاعله مع الناس بميزان طاعة الله تعالى وابتغاء رضوانه.

          ومعلوم أن الله تعالى غني عن عبادة العباد: ( وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ) (إبراهيم:8) .

          ولكن الحكمة الدنيوية من تشريع العبادات في الإسلام هـي مصلحة الإنسان نفسه، وسعادة حياته؛ عن طريق ربط الإنسان بخالقه عز وجل بالصورة الدائمة المستمرة، بما يفضي إلى الارتقاء بالإنسان إلى الكمال المقدور له في الأعمال والأقوال والتروك، وحسن الإرادة [ ص: 111 ] وحسن القرار، ذلك الكمال الذي جاءت به نصوص الكتاب والسنة، والذي لا يحصل عليه الإنسان إلا بممارسة العبادة الحقة.

          وعلى ذلك فالممارسة لمفردات نظام العبادات في الإسلام عظيمة جدا في نتائجها وآثارها على حقوق الإنسان على صعيد الفرد والجماعة والدولة؛ ذلك أن ممارسة العبادات والطاعات وأفعال البر والخير تزكي النفس، وتحيي القلب والضمير، وتنير البصيرة، وتصلح الإرادة، فتكون إرادة خيرة دائما، وذلك عائد على حقوق الإنسان بأعظم النتائج.

          وبعكسها تماما ترك العبادات والطاعات وأفعال البر، وما ينجم عن ذلك من فعل الشر، وانطلاق النفس آسرة صاحبها بشهواتها ورغباتها، من غير مقاومة متمثلة بعبادة تنشئ سموا وتزكية، أمارة إياه بالسوء ما دام يحقق لها شهوة أو متاعا، فيسهل انغماسه في الشر والمعصية ويستكثر منه، كل ذلك يدنس النفس، ويميت القلب والضمير، ويعمي البصيرة، ويفسد الإرادة، وما تكالب الأمم على أمة الإسلام في الزمن الحاضر وانتهاك حقوق الإنسان لها قتلا، وتشريدا، وتجويعا، ومحاصرة، بشكل علني صريح لا نظير له في [ ص: 112 ] التأريخ إلا بسبب قلوب ميتة، وضمائر خربة، ونفوس مدنسة، وبصيرة عمياء، وإرادات فاسدة.

          وقد أعلمنا خالق النفس الإنسانية ومودعها خصائصها بهاتين الحقيقتين: حقيقة آثار العبادة، وحقيقة آثار تركها،

          فقال تعالى في الأولى: ( إن الإنسان خلق هـلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هـم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم ) (المعارج:19-25) ،

          ففرق بين نفوس العابدين الزاكية ونفوس التاركين المهيأة للشر والجاهزة له،

          وقال أيضا: ( وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) (العنكبوت:45) ؛

          وقال تعالى في آثار ترك العبادة وخبث النفس بسبب ذلك: ( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ) (مريم:59) ،

          فرتب على ترك العبادة الانسياق في الشهوات والغي.

          فما ظنك بالمجتمع والدولة وقد سرت فيهما روح العبادة والطاعة لله تعالى طاعة تامة، وصارت صفة للجميع، وجزءا من النظام العام يعمل به الجميع؟ [ ص: 113 ] وما ظنك بأجهزة الدولة من تشريعية وتنفيذية وقضائية وغيرها، إذا كان الماسكون بزمامها والمباشرون لأعمالها كلهم أو جلهم على هـذه الشاكلة -بل الواجب شرعا أحاسنهم- تسري فيهم جميعا روح العبادة وثمراتها؟ وماذا يكون حال مبدأ سيادة القانون -قانون الشريعة- في مثل هـذا النظام؟ وما حال مبدأ المشروعية وخضوع الدولة للقانون في ظله؟ وما حال حقوق الإنسان في ظل ذلك كله؟

          وإذا علمت أن مفهوم العبادة في الإسلام يتسع ليشمل الانصياع لقانون الشريعة، وكف النفس عن مخالفته، ذلك الانصياع الحاصل من الفرد أو من السلطات الحاكمة في الإسلام؛ من تشريعية وتنفيذية وقضائية وغيرها، فيكون ذلك كله عبادة لله تعالى، فكم سيكون الحرص عليه؟ وكم سيعود ذلك على حقوق الإنسان بالنفع الكبير، حماية وصونا لها، وحذرا بالغا من انتهاكها، بشكل فريد؟

          فمن أين للدولة القانونية بالصيغة الوضعية في فقه القانون الدستوري بنظام تربوي كنظام العبادات هـذا، يقدم لها كل هـذه الثمرات والنتائج العظمى فـي ميدان حقوق الإنسـان، يفعل فعله، أو يسد مسده؟ [ ص: 114 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية