الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          المطلب الثاني

          خصائص أحكام حقوق الإنسان في النظام الإسلامي

          ومنهجية التفعيل

          خصائص أحكام حقوق الإنسان في الإسلام هـي نفسها خصائص الشريعة الإسلامية؛ لأن حقوق الإنسان جزء منها، وهي على سبيل التعداد مستخلصة من الأدلة الكلية والتفصيلية في الشريعة، والاستقراء لنصوص الكتاب والسنة، والنظر في مقاصد الشريعة، وتتمثل في عشر خصائص هـي:

          الشمول لكل جوانب الحياة، والتكامل، والصفة الدينية، والأصالة والاستقلال، والمرونة، وأنها مثالية وواقعية في نفس الوقت، والتوافق مع الفطرة، وحتمية تحقيقها للمصالح الإنسانية، وابتناؤها على ثنائية المسئولية وثنائية الجزاء، وصفة العموم في الزمان والمكان.

          وسنقتصر هـنا على ذكر آثار بعض منها بصورة موجزة؛ لارتباطها بمنهجية تفعيل حقوق الإنسان بدرجة أساسية؛ وهي: الصفة الدينية لأحكام حقوق الإنسان، وتقرير مبدأ ثنائية المسئولية وثنائية الجزاء لحماية حقوق الإنسان، واتصاف الحقوق والحريات بأنها منح إلهية، وصفة الرابطة بين الأفراد والسلطات الحاكمة. مع [ ص: 115 ] بيان النتائج المترتبة على كل ذلك في مجال تفعيل حقوق الإنسان وحمايتها. ثم نشير إشارة سريعة إلى بعض الخصائص الأخرى؛ استكمالا للخصائص بقدر ارتباطها، بقصد المقارنة ومن غير دخول في التفاصيل.

          أولا: الصفة الدينية لأحكام حقوق الإنسان في النظام الإسلامي ونتائجها

          إن أحكام الإسلام بوجه عام -وحقوق الإنسان جزء منها- قائمة على أساس من هـداية الله تعالى، وعلى الإقرار بحاجة الإنسان وحاجة العقل البشري إلى هـذه الهداية، فهي مؤسسة على الوحي الإلهي؛ كتابا وسنة، منهما تستمد أحكامها، وعليهما تشيد بنيانها. وهذه الصفة الدينية لها نتائج على درجة كبيرة من الأهمية في المجالات كافة، ومنها مجال حقوق الإنسان.

          نتائج الصفة الدينية (الإسلامية)

          فابتناء أحكام الإسلام ومنها أحكام نظام حقوق الإنسان على الكتاب والسنة وما استمد منهما من قواعد وأحكام، يشكل: ضمانة مؤكدة لكمالها وخلوها من النقائص والأخطاء، ويضمن لها قوة الإلزام وحسن الالتزام، وتحقق الطاعة الاختيارية لها، واتصافها بالحل [ ص: 116 ] والحرمة، وتنظيم الرابطة بين السلطة والأفراد على أساس ديني. ونبين ذلك فيما يلي:

          1 - الكمال والخلو من النقائص

          ذلك أن ابتناء أحكام حقوق الإنسان في الإسلام على الوحي الإلهي يجعل منها أحكاما محققة للعدل والرحمة، والمصلحة والحكمة، ومبرأة من النقائص كالظلم، والخطأ، والهوى، والمحاباة، والنسيان، والباطل بوجه عام، ونحو ذلك من الصفات التي لا يستطيع البشر -في أنظمتهم البشرية- أن ينجوا أو يتخلصوا منها حين يستقلون بتشريعات من عند أنفسهم، بمعزل عن هـداية الوحي الإلهي،

          قال تعالى في وصف تشريعه: ( صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون ) (البقرة: 138) ،

          وقال في نفي الخطأ والنسيان عن تشريعه: ( لا يضل ربي ولا ينسى ) (طـه:52) ،

          وقال: ( وما كان ربك نسيا ) (مريم:64) ،

          وقال في نفي الظلم وتحقق العدل في تشريعاته: ( وما الله يريد ظلما للعباد ) (غافر:31) ،

          وقال: ( وما ربك بظلام للعبيد ) (فصلت:45) ، [ ص: 117 ] وقال تعالى في المقارنة: ( ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ) (الفرقان: 33) ،

          وقال تعالى مبينا أن الحياة في صورتها المثلى إنما هـي في منهاجه وشريعته: ( إن هـذا القرآن يهدي للتي هـي أقوم ) (الإسراء:9) ،

          وقال: ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) (الأنفال:24) .

          وعلى ذلك فلا يتصور في أنظمة الإسلام -ومنها نظام الحقوق والحريات- أن يداخلها أو يتلبس بها شيء من النقائص التي عددناها، والتي تقترن بالأنظمة البشرية بوجه عام، ومنها نظام حقوق الإنسان؛ نظرا لقصور العقل البشري عن بلوغ الكمال، ووقوعه في الخطأ والتيه في تقدير المصالح التي هـي بذاتها مبنية على عدد كبير من المتغيرات الظاهرة والخفية، فضلا عن الهوى الذي يصد عن الرشاد والهدى، كما هـو حال البشرية اليوم، التي أضحت حقلا للتجارب البائسة بين الأنظمة الشرقية والغربية المتعارضة أشد التعارض بشأن الحق في حقوق الإنسان وحرياته الأساسية وغيرها، والتي لم يجد الإنسان في أي منهما سعادته التي يسعى إليها، بل وجد فيها الكثير من البؤس والشقاء. [ ص: 118 ]

          2- قوة الإلزام في تشريعات الإسلام ومنها أحكام حقوق الإنسان

          فقوة الإلزام هـذه مصدرها صفتها الدينية ومصدرها التشريعي؛ حيث إن ابتناءها على الوحي الإلهي يجعلها أقوى إلزاما للفرد والسلطة والمجتمع الذي يؤمن بها ويقوم على أساسها، نظرا لصدورها من الله تعالى خالق البشر ومالكهم ومجازيهم على أعمالهم، وذلك بخلاف التشريعات البشرية التي ليست لها هـذه الصفة.

          3 - حسن الالتزام أمام تشريعات الإسلام

          وأما حسن الالتزام من قبل الأفراد والسلطة بأنظمة الإسلام عند تطبيقها، ومنها نظام حقوق الإنسـان وحرياته الأساسية، فأساسه ما لهذه الأنظمة والتشريعات المبنية على الوحي الإلهي من الهيبة والقدسية والاحترام، مما تفتقر إلى مثله التشريعات البشرية، ومنها تشريعات حقوق الإنسان، وبسبب هـذه الصفة الدينية فإن الأفراد والسلطات الحاكمة يعظمونها، ليس لمجرد أنها تنظم حياتهم وتحقق مصالحهم وإنما لأنها جزء من عقيدتهم ودينهم، والمسلم غيور على دينه، حريص عليه، معظم له،

          قال تعالى: ( ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) (الحج:32) . [ ص: 119 ] ولهذا السبب فإن المسلم يلتزم التزاما عميقا وحقيقيا بتشريعات الإسلام، ومنها حقوق الإنسان، ولا يحاول الخروج عليها حتى مع سنوح الفرصة أمامه لهذا الخروج، وهذا عائد على حقوق الإنسان بأعظم النتائج، وهذا بخلاف الأنظمة البشرية التي ينقصها هـذا القدر من الهيبة والقدسية والاحترام، الذي هـو الضمانة الحقيقية لحسن الالتزام. ولا شك أن ثمرة أي تشريع لا يكفي لأن تتحقق أن يكون التشريع حسنا في ذاته، بل لا بد من حسن التزام الناس به أفرادا وسلطة؛ لما له في نفوسهم من قدسية واحترام.

          4 - الطاعة الاختيارية والخضوع التلقائي

          ونظرا لما تقدم، فإن أحكام الإسلام، وحقوق الإنسان جزء منها، وبسبب الصفة الدينية هـذه، تطاع طاعة اختيارية؛ أي: طاعة تلقائية منبعثة من داخل النفس، لأن هـذه الطاعة تسليم لشرع الله، وهو شرط الإيمان، لا إيمان بدونه،

          قال تعالى: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) (النساء:65) ،

          والمؤمن حريص على إيمانه، ولذلك تنشأ عنده الطاعة الاختيارية والانقياد الذاتي والخضوع التلقائي. [ ص: 120 ] فالمؤمنون -أفرادا وسلطات حاكمة- يطيعون أنظمة الإسلام، ويختارون الخضوع التلقائي لها، ليس لأن سيف القضاء مسلط على رءوسهم، أو الرقابة تلوي أعناقهم، كما هـو الحال في الأنظمة البشرية الشرقية والغربية؛ إذ يطيعها الناس بسبب الرقابة الخارجية والضبط الاجتماعي، ولئلا يقعوا تحت طائلة القضاء أو العقاب، وتقل طاعتهم أو تنعدم كلما سنحت الفرصة للإفلات من ذلك، بخلاف الطاعة الاختيارية التي بها يتحقق شرط الإيمان، ويتسابق المسلم إلى تقديمها لنيل رضوان الله؛ وطمعا في حسن الجزاء في الآخرة.

          ولذلك يتعاطى الناس في مجتمع الإسلام الحقوق بينهم بطاعة تلقائية للتشريع، وكثير منها لا يرفع أصلا للقضاء. وقد قدم لنا التأريخ أمثلة فريدة في ذلك، فقد ولي عمر رضي الله عنه القضاء في عهد أبي بكر رضي الله عنه فبقي سنتيـن لا يأتيه متخاصمان، وما كان ذلك ليحصل لولا الطاعة الاختيارية التلقائية لتشريعات الإسلام. بينما تشكو الأنظمة البشرية من تفلت الكثيرين من طاعة القانون والنظام بمختلف السبل والوسائل، فتضطر إلى إقرارها عن طريق الضبط الخارجي والعقوبة كوسيلة وحيدة، وقد تعجز على الرغم من ذلك عن إقرارها في المجتمع؛ لافتقارها إلى ما ذكرنا، وهو الطاعة الاختيارية. [ ص: 121 ]

          5 - اتصاف الأحكام الشرعية بالحل والحرمة

          وأيضا فإن الصفة الدينية لأنظمة الإسلام، ومنها نظام حقوق الإنسان، تجعل أحكامها مبنية على مبدأ الحلال والحرام، وهو مبدأ أقوى أثرا وأكثر فاعلية من مبدأ الجائز والممنوع في الأنظمة البشرية؛ لأن وصف الشيء بالحل والحرمة مرتبط بالجزاء الأخروي، فيفضي إلى أقصى درجة من الطاعة والالتزام؛ ظاهرا وباطنا، من قبل الأفراد والسلطات الحاكمة، وذلك عائد على حقوق الإنسان بأحسن النتائج، ومثل هـذا لا وجود له في الأنظمة البشرية بوجه عام.

          6 - تنظيم العلاقة بين السلطات الحاكمة والأفراد على أساس رابطة الأخوة

          ومن نتائج الصفة الدينية أيضا أن الرابطة بين السلطات الحاكمة والأفراد هـي رابطة دينية، ناشئة عن العقيدة الإسلامية، وهي رابطة الأخوة في الله،

          قال تعالى: ( إنما المؤمنون إخوة ) (الحجرات:10) .

          وهي رابطة ينتج عنها أمران:

          الأول: عدم انتهاك السلطة لحقوق الأفراد.

          والثاني: محبتهم القلبية وتقديم كل أنواع الضمان اللازمة للعيش الكريم، والسعي في إسعادهم؛ لأن الأخوة تقتضي المحبة والنصرة [ ص: 122 ] والإعانة على سبيل الوجوب، وكل هـذا أعلى من رابطة المواطنة والحقوق الناشئة منها.

          أما غير المسلمين من الرعية؛ فالشريعة نظمت الرابطة بين السلطة الحاكمة في الإسلام وبينهم على أساس رابطة (البر والقسط) ،

          قال تعالى: ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) (الممتحنة:8) ،

          وهذه الرابطة أعلى وأقوى أثرا في رعاية حقوقهم من رابطة المواطنة المجردة. قال الفقيه ابن حزم : «إن من كان في الذمة -أهل الذمة- وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك؛ صونا لمن هـو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة» [1] . وهذا مبني على رابطة البر والقسط، فأي مستوى رفيع هـذا الذي بلغه النظام الإسـلامي في حماية الحـقوق والحريات لمن يخالفونه في العقيدة؟ إن على النظم السياسية المعاصرة أن تتعلم هـذا الدرس من النظام الإسلامي. [ ص: 123 ] ومعنى ما تقدم أن رابطة (الأخوة) ورابطة (البر والقسط) لهما ثمرات في ميدان حقوق الإنسان أعلى بكثير من تلك التي تقدمها رابطة (المواطنة) .

          وهكذا يظهر بوضوح أن الصفة الدينية لأنظمة الإسلام، ومنها نظام الحقوق والحريات، ينتج عنها مزايا كبيرة وثمرات عظيمة، وهي مزايا خاصة بتشريعات الإسلام وحدها، بخلاف المناهج البشرية المؤسسة على العلمانية الغربية أو الشرقية، فكلها ليس معها في هـذا الميدان إلا الإفلاس التام، والخواء الكامل؛ لاستحالتها بالنسبة للقانون، وهذا أحد الأسباب المهمة في الإخفاق في ميدان حقوق الإنسان.

          ثانيا: تقرير مبدأ ثنائية المسئولية [2]

          ويدخل في منهجية تفعيل حقوق الإنسان الذي تنفرد به الدولة القانونية بالصيغة الإسلامية مبدأ ثنائية المسئولية، وهو مبدأ لا يعرفه الفكر القانوني ولا القانون الوضعي، وخلاصته: أن المجتمع -أفرادا وسلطة- يجد نفسه في النظام الإسلامي أمام مسئوليتين اثنتين، فكل مسلم، سواء أكان فردا عاديا أم كان ضمن السلطات الحاكمة، مسئول عن تنفيذ القانون الإسلامي، بما يتضمن من أحكام حقوق الإنسان وغيرها، على نفسه أولا، وحمل غيره على تنفيذ القانون [ ص: 124 ] الإسلامي ثانيا، فليس لأحد في الدولة القانونية بالصيغة الإسلامية أن ينفذ ما عليه من القانون الإسلامي، ثم لا يهمه أمر الآخرين بعد ذلك في تنفيذهم أو عدم تنفيذهم للقانون الإسلامي، بل هـو مسئول عن حمل غيره على هـذا التنفيذ.

          وقد قرر هـذا المبدأ -ثنائية المسئولية- القرآن الكريم،

          بقوله تعالى: ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) (التوبة:71) ،

          وقوله تعالى: ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ) (الحج:41) ،

          وكذلك جميع النصوص القرآنية الأخرى الدالة على تكليف المسلم؛ فردا وسلطة، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك قررت هـذا المبدأ السنة النبوية ( في قولـه صلى الله عليه وسلم : من رأى منـكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) [3] .

          وهذا الأصل؛ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي يفيد ثنائية المسئولية أصل عظيم جدا، يؤدي إلى أقصى درجة من تنفيذ [ ص: 125 ] القانون الإسلامي، ويسهم في خضوع الدولة للقانون، وترسيخ حماية حقوق الإنسان في الدولة؛ إذ يجعل كل فرد في المجتمع قواما على تنفيذ القانون، حارسا لمبدأ المشروعية، مسهما في إرساء نظام الدولة القانونية الخاضعة لقانون الشريعة.

          وقد نشأ بناء على هـذا الأصل نظام الحسبة في الإسلام، الذي قال عنه ابن خلدون : «هي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» . وقال عنها أبو يعلى : «هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله» . فهي في أصلها واجب عام على المسلمين جميعا؛ أفرادا وسلطة،

          يدل على ذلك قوله تعالى: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) (آل عمران:110) .

          ثالثا: ثنائية الجزاء في القانون الإسلامي [4]

          وهذا الأصل له دوره الكبير في منهجية تفعيل حقوق الإنسان وكل الأحكام الشرعية الأخرى، وهو يتضمن مسئولية الفرد والسلطات الحاكمة أمام الله تعالى، وما يترتب على ذلك من الجزاء الأخروي، فالنظام الإسلامي لكي يضمن أعلى درجة من الخضوع [ ص: 126 ] للقانون الإسلامي، بما يتضمن من حقوق الأفراد وحرياتهم وغيرها، يقرر لكل قاعدة قانونية جزائين اثنين؛ لكي يضمن عدم انتهاكها أو الخروج عليها؛

          جزاء دنيوي: يتمثل في العقوبات الشرعية للفرد والسلطة عند الخروج على القانون الإسلامي. وجزاء أخروي: يتمثل في العقاب الأليم في نيران الجحيم، الذي توعدت به نصوص القرآن والسنة كل خارج على أحكام القانون الإسلامي.

          ولا شك أن القاعدة القانونية المقترنة بجزائين اثنين تصادف خضوعا وطاعة لها من الأفراد والسلطة أكبر بكثير من تلك المقترنة بجزاء واحد هـو الجزاء الدنيوي فقط الذي لا يمتلك القانون سواه؛ لأن القانون لا يقدر أن يواعد الناس بجزاء في الآخرة.

          ومبدأ ثنائية الجزاء هـذا الذي تضمنته القاعدة القانونية الإسلامية عائد على حقوق الإنسان من حيث حمايتها وصونها بأعظم النتائج التي يتعذر على القانون الوضعي الحصول على مثلها.

          ويشكل هـذا المبدأ -ثنائية الجزاء- مع المبدأ السابق -ثنائية المسئولية- نوعا فريدا من التنظيم للمسئولية والجزاء، مفقودا في القانون، موجودا في الشريعة، وهذا التنظيم للمسئولية والجزاء يشكل جزءا مهما من منهجية تفعيل حقوق الإنسان لا وجود لها في الدولة القانونية بالصيغة الوضعية. [ ص: 127 ] تلك هـي منهجية تفعيل حقوق الإنسان في الدولة القانونية بالصيغة الإسلامية، وبها يمكن نقل حقوق الإنسان من النظرية إلى التطبيق، ومن الإمكان إلى الفعل.

          وواضح أن الدولة القانونية بالصيغة الوضعية لا تمتلك من هـذه المنهجية شيئا على الإطلاق، ولذلك اكتفت بتعداد حقوق الإنسان والإشادة بها، ومحاولة تنظيم الشكل الخارجي لأجهزة الدولة، تنظيما يقلل من تركيز السلطة الذي يقود إلى الاستبداد والطغيان.

          وكل هـذا لا يمكن من حصـول الإنسان على حقوقه وحرياته ما دامت منهجية التفعيل وآلياته الحقيقية المؤثرة والفعالة والمنتجة غائبة في الفكر القانوني والقانون الوضعي.

          والآن وقد انتهينا من الكلام في هـذه المنهجية المتألفة من المنظومة الثلاثية من الأحكام التي شرحناها في المبحث الثاني من هـذا الفصل، ثم من خصائص أحكام حقوق الإنسان التي شرحنا منها حتى الآن ما له صلة أساسية وجوهرية بمنهجية تفعيل حقوق الإنسان، نرى من المناسب أن نستكمل الكلام في خصائص حقوق الإنسان في الشريعة استكمالا لبحث الخصائص. [ ص: 128 ]

          رابعا: الحقوق والحريات منح إلهية [5]

          حقوق الأفراد وحرياتهم في النظام الإسلامي ليست حقوقا طبيعية، وأنما هـي منح إلهية، تستمد من الشريعة الإسلامية، وتستند إلى العقيدة الإسلامية، فالله تعالى خلق الإنسان وبهذا الخلق منحه حق الحياة، وكرم الإنسان وفضله، وبناء على ذلك منحه حقوقا وحريات ثابتة في شريعته.

          وقد أشار القرآن الكريم إلى كون الحقوق والحريات (منحا إلهية) ،

          فذكر حق الملكية مثلا بوصفه منحة إلهية في قوله تعالى: ( أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون ) (يس:71) ،

          ( وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ) (النور: 33) .

          وأشار إلى حق التكريم بوصفه منحة إلهية بقوله تعالى: ( ولقد كرمنا بني آدم ) (الإسراء:70) .

          وأشار إلى حق الحياة بوصفه منحة إلهية بقوله تعالى: ( قل هـو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ) (الملك:23) . [ ص: 129 ] وتكييف النظام الإسلامي للحقوق والحريات على أنها منح إلهية يترتب عليه جملة نتائج؛ منها:

          أنها تتمتع بقدر كبير من الهيبة والقدسية والاحترام، مما يشكل ضمانة لعدم السطو عليها ومصـادرتها من قبل السلطات الحاكمة؛ إذ لا يستطيع الحاكم أو الأفراد قبل بعضهم بعضا السطو على تلك الحقوق والحريات ومصادرتها إلا إذا استباح لنفسـه الخروج على شرع الله، وبذلك يفقد الأساس الشرعي لاستمراره في السلطة.

          كما أن تكييفها على أنها منح إلهية يكسبها صفة دينية، ويجعل احترامها اختياريا لا قسريا، احتراما ينبعث من داخل النفس، ويقوم على الإيمان بالله الذي شرع هـذه الحقوق والحريات، وفي هـذا ضمان لتطبيقها وعدم الخروج عليها حتى مع القدرة على هـذا الخروج.

          ومنها أنها غير قابلة بطبيعتها -باعتبارها منحة إلهية- للإلغاء والنسخ؛ لأن نسخ أو إلغاء أي حق من تلك الحقوق يحتاج إلى وحي ينزل بالنسخ، ولا وحي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

          ومنها أيضا أنها تكون خالية من الإفراط والتفريط؛ الإفراط في حقوق الأفراد على حساب مصلحة الجماعة، أو التفريط في حقوقهم وحرياتهم لمصلحة السلطة؛ لأن المانح لهذه الحقوق هـو الله تعالى [ ص: 130 ] بتشريع منه، لا الأفراد حتى يغالوا فيها، ولا الدولة حتى تزيد في سلطانها على حساب الأفراد.

          ومنها أن كونها منحا إلهية يستلزم تمكين الناس من التمتع بها، ورفع المعوقات من أمامها، وهذا واجب على الدولة؛ لأن الحاكم منصب من أجل تنفيذ الشرع بما في ذلك حقوق الناس وحرياتهم الممنوحة لهم من الله، وعلى ذلك فلا يجوز شرعا أن تؤخذ أجور على إقامة هـذا الواجب؛ لأنه ليس (معاوضة) .

          ومن هـنا فلا مكان (لرسوم القضاء) في الدولة الإسلامية من أجل إقامة العدل بين الناس أو بينهم وبين السلطات الحاكمة، وبذلك تزول المعوقات أمام الأفراد في اللجوء إلى القضاء في حال انتهاك حقوقهم وحرياتهم؛ لاستردادها والتعويض عنها، وهذا باب واسع يشمل كل انتهاكات حقوق الإنسان، وقد طبقت المحاكم في الدولة الإسلامية هـذا المبدأ، ذلك أنه لا قيمة لأن يقرر للإنسان حق التقاضي كواحد من حقوق الإنسان إذا كان لا يملك رسوم القضاء أصلا.

          ومنها أن حقوق الإنسان شرعت كاملة ابتداء من غير حاجة إلى التطور الطويل الذي مرت به حقوق الإنسان في القانون الوضعي، التي بدأت حقوقا فردية مقدسة، ثم انتهت إلى وضع بعض [ ص: 131 ] القيود عليها وإقرار بعض الحقوق الاجتماعية. وسبب كمالها وعدم النقص فيها أنها جزء من الشريعة، ومن خصائص الشريعة الكمال؛ لاتصافها بنفس صفات مشرعها وهو الله تعالى.

          خامسا: الشمول والعموم في الحقوق والحريات

          نقصد بالشمول: شمول نظام الحقوق والحريات لكل أنواع حقوق الإنسان؛ سواء ما يسمى منها بالحقوق والحريات التقليدية، أو ما يسمى بالحقوق الاجتماعية، أو الاقتصادية، وكذلك نقصد به استغراق واستيعاب كل ما يجب للإنسان من حقوق، ابتداء من قبل وجوده في الحياة، وذلك باختيار الزوجة التي تصلح أما له، ثم حقوقه جنينا، ثم رضيعا، ثم صبيا غير مميز، ثم صبيا مميزا، ثم بالغا، ثم شيخا، ثم هـرما مردودا إلى أرذل العمر، ثم ميتا. فكل هـذه المراحل مشمولة بحقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية، بخلاف النظرية الوضعية لحقوق الإنسان، التي لا تتسم بمثل هـذا الشمول.

          ونقصد بالعموم: أن حقوق الإنسان ثابتة في الشريعة الإسلامية لكل رعايا الدولة الإسلامية، ومبنية على مبدأ المساواة، دون تمييز بينهم بسبب اللون أو الجنس أو اللغة أو حتى العقيدة. وكذلك هـي عامة لكل بني آدم حسب التفصيل الذي جاءت به الشريعة في تنظيم العلاقة مع الأمم الأخرى في حالات السلم أو الحرب. [ ص: 132 ]

          سادسا: الوسطية والاعتدال في الحقوق والحريات

          اتسمت حقوق الإنسان وحرياته الأسـاسية بالتطرف معها أو ضدها دائما؛ فمن عدم الاعتراف بها في الدولة القديمة، إلى تمجيدها وتقديسها على حساب مصلحة الجماعة في الفكر الغربي الرأسمالي، إلى مصادرتها بدعوى مصلحة الجماعة في الفكر الماركسي.

          أما في النظام الإسلامي فإنها تتصف بالوسطية والاعتدال، معترفا بها، ومحترمة، ومحمية للفرد بما يحقق مصلحته، مع وضع القيود والضوابط عليها لمصلحة الجماعة.

          وبهذا ابتعد النظام الإسلامي عن الإفراط في حقوق الأفراد على حساب الجماعة، أو التفريط في حقوقهم لحسابها؛ ذلك أن حقوق الأفراد إذا طغت على حساب سلطة الدولة والجماعة حصلت الفوضى، وسلطة الدولة إذا طغت على حقوق الأفراد فذلك هـو الاستبداد، وإذن فلا بد من ضمانة لعدم الطغيان من الجانبين، ولا بد من حكم عدل وميزان ضابط، وتلك هـي الشريعة التي تقرر ما يكون للأفراد وما حدود مصلحة الجماعة، وتجعل هـذا الذي تقرره ليس مجرد قانون بل عقيدة ودينا واجب الاتباع. [ ص: 133 ] وسبب قدرة الشريعة على وضع الحدود بدقة فائقة أن الله شرعها بعلمه، وأنها نازلة من العليم الحكيم الخبير. والأمثلة على ذلك كثيرة، منها:

          حق الملكية والقيود الواردة عليها من حيث نشأتها، واستهلاكها، وما يجب فيها من حق الجماعة ممثلا في الزكاة والنفقات الشرعية، وما يجب فيها في الأوقات الطارئة لمصلحة الجماعة أيضا. وحرية الرأي والقيود عليها. والحرية الشخصية وتقييدها بالتقوى، بخلاف الحرية الشخصية في الغرب التي اتخذت منحى الإباحية، التي أورثت وباء «الأيدز» الذي يهلك الحرث والنسل مع حماية القانون لها بشكلها الإباحي، فصار الحق هـنا (حق الحرية الشخصية) مفسدة يحميها القانون، بينما يعرف الحق بأنه مصلحة يحميها القانون. وحق الانتخاب وتقييده بانتخاب الكفء الأمين دون غيره. وحرية التجمع وتقييدها بالهدف المشروع النبيل من التجمع، إلى غير ذلك مما لا مجال لشرحه وتفصيله هـنا. وكل ذلك يظهر الوسطية والاعتدال في الحقوق والحريات، من غير إفراط ولا تفريط ومن غير تطرف مبني على الهوى والجهل، كما هـو الحال في المناهج البشرية. [ ص: 134 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية