الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      رابعا: في الحقل الاقتصادي والمالي:

      أ- الأحكام الاقتصادية والمالية:

      تعد أحكام الملكية والإنتاج والعمل والأجور والمال والنقد والضرائب والاستهلاك والاستيراد والتصدير من الأحكام، الأساسية، التي تنظم الحقل الاقتصادي في الإسلام، إضافة إلى الأحكام، التي تحدد للدولة مساحات تدخلها السلطاني في الحياة الاقتصادية، ومن ضمنها الشؤون الرقابية والمحاسبية.

      إن القوانين الاقتصادية تعمل على المحافظة على أدوات الإنتاج من أبنية ومنشآت ووسائل مادية أخرى، وتمنع من جهة أخرى إنتاج السلع المحرمة مثل الخمر وأفلام الجنس والمخدرات وغيرها من الخبائث ( ويحرم عليهم [ ص: 130 ] الخبائث ) (الأعراف:157). كما تمنع التبادل التجاري لسلع كهذه، فضلا عن منع التبادل بوجه عام بأساليب الغش والرشوة وشراء الذمم والتزوير وحرق الأسعار ونحو ذلك.

      وبخصوص الملكية، فثمة ملكية خاصة، وملكية عامة، وملكية مشتركة، ولكل شكل من هذه الأشكال أحكامه المقررة شرعا وقانونا.

      ففي مجال الملكية حرم التملك عن طريق الغصب والسرقة والتحايل والاستيلاء والتزوير، سواء كان ذلك منصبا على أملاك الأفراد أو أملاك الدولة أو الملكيات المشتركة. وفي قانون الملكية العامة لا يجوز للأفراد تملك بعض العقارات كدور العبادة أو الأراضي الموقوفة أو أراضي "الحمى" أو الثروات الطبيعية العامة كالأنهار والبحار والبحيرات أو ما تنشئه الدولة للنفع العام كالطرق والجسور والموانئ والسدود والمطارات وغيرها.

      كما يمكن تحويل الملكية الخاصة إلى ملكية عامة عند وجود نفع عام، مع تقديم التعويض المناسب [1] ، وهو ما يجري تحت عنوان "قانون الاستملاك".

      أما الأحكام المتعلقة بعنصر الإنتاج الأرض، فقد طالب الإسلام بإحياء الأرض بالزراعة أو البناء أو إقامة المنشآت: ( من أحيا أرضا ميتة فهي له ) [2] . وقد قرر الفقه أن من حاز ولم يعمر على مدى ثلاث سنوات فإن الأرض [ ص: 131 ] تستعاد منه [3] . وللأرض حرمتها من أي اعتداء، وقد منع القانون الإسلامي أي تجاوز عليها، سواء كانت أرضا زراعية أو عقارا.

      وعلى صعيـد الاستـهلاك فقـد وضعت الأحـكام الإسـلامية شـروطا على المنتجات الغذائية والملابس والأدوية والمواد والآلات الصناعية وغيرها تتعلق بالجودة وطبيعة المكونات وطرق الإعداد والخزن، وما يتعلق بالجوانب الصحية، فضلا عن إمكانية وضع تسعيرة معينة للبعض منها للحيلولة دون المغالاة في الأسعار.

      كما يمكن للدولة أن تصدر التعليمات المناسبة، التي تؤكد ترشيد الاستهلاك لاسيما في الظروف الاستثنائية كالحروب والكوارث والجفاف ونحوها، حيث يقتضي الأمر التقشف. وفي التجربة الإسلامية نجد أن الحكومة الإسلامية قد عمدت إلى التقنين الاستهلاكي في عام الرمادة حين عم القحط والجدب والجفاف [4] .

      كما أن تبادل السلع الاستهلاكية لابد أن ينظم بقوانين الاستيراد والتصدير، وتوضع المواد القانونية في هذا الخصوص بما يحمي المستهلك من جهة، ولا يضر بالمصلحة الوطنية من جهة أخرى.

      ويمـكن للـدولـة التدخـل في الحيـاة الاقتصـادية والتجـارية عـبر قـوانـين أو تعليمات تعمل على ضبط السلوك المالي والتجاري، ومنع الممارسات [ ص: 132 ] الضارة في التبادلات والعمليات التجارية كالغش والتزوير والتدليس والاحتكار والضرر والغبن والبخش [5] ، وشراء المسروق والتطفيف في الميزان والرشوة، فضلا عن الممارسات الاقتصادية المنحرفة، التي لا تراعي القيم والفضائل الأخلاقية.

      أما بالنسبة للأجور التي تعطى للعمال أو الربح، الذي يوزع على العناصر المشـتركة في عمـلية الإنتـاج فتخضـع لقوانين كقانون العمل، الذي ينظم حقوق العمال وأجورهم وعلاقاتهم برب العمل، إضافة إلى وضع القواعد الخاصة بتأهيلهم.

      وتهتم القوانين الإسلامية بحقوق العمال، فإذا كان الإسلام يأخذ بمبدأ التراضي بين العامل ورب العمل، سواء كان رب العمل دولة أو قطاعا خاصا، إلا أنه لا يترك لرب العمل التحكم في العامل من حيث السلامة والسكن والرعاية الصحية، أو تحديد أوقات العمل أو الإجازات أو الأجور، فالدولة من حقها التدخل قانونا في تحقيق العدالة والكفاية في الأجور مع تثبيت أسعار السوق حتى لا تتآكل الأجور، وذلك باعتماد سلم متدرج للأجور يواكب تضخم الأسعار [6] ، علما أن ثمة أعمال ممنوعة، كإنتاج الخمور وتجارة [ ص: 133 ] المخدرات، وفتح صالات للقمار، أو احـتراف الدعارة والمتاجرة في الأعراض أو امتهان السحر والشعوذة أو غيرها من الأعمال المذمومة.

      أما بالنسبة للضرائب، فمنها ما هو ثابت ومقنن كالزكاة: ( وآتوا الزكاة ) (البقرة:110)، ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) (التوبة:103)، ومنها ما يخضع إلى تقديرات السلطة الحاكمة وبحسب الظروف والمتغيرات.

      ويمكن لقانون الضرائب الإسلامي أن يضع مقادير ونسبا للضرائب، سواء كانت الضرائب على الدخل أو المؤسسات أو الأعمال الإنتاجية أو غيرها. كما يمكن وضع الجزاءات، التي تترتب على حالات التهرب من دفع الضرائب المقررة قانونا أو التحايل على دفعها.

      من جهة أخرى، من حق الدولة أن تفرض رسوما على الانتفاع بالخدمات العامة، التي توفرها للناس كخدمات المياه والكهرباء والمواصلات والاتصالات وغيرها [7] .

      ومن وظائف الدولة الإسلامية وضع قانون للنقد من منطلق المفهوم الإسلامي للنقد، أي بوصفه أداة قياسية لتحديد قيمة السلعة وكونه وسيطا بين الإنتاج والاستهلاك وغرضه تسهيل عملية التداول، من دون اعتباره أداة مستقلة لتنمية نفسه بنفسه. وهنا يطرح منع الربا، وقد يوضع قانون خاص للبنوك والمعاملات اللاربوية. [ ص: 134 ]

      ومن الطبيعي في سياق قانون النقد أن يحدد سعر صرف رسمي، وتمنع السوق السوداء، وعمليات تبييض الأموال، وغير ذلك مما يقتضيه مطلب الحفاظ على سلامة الأنشطة والتبادلات النقدية، داخليا وخارجيا.

      وفي إطار السلوك المالي للأفراد يمكن التحدث عن حق الدولة في ممارسة الرقابة العامة على الأموال، ومنع أي سلوك مالي يضر بالجماعة كالتصرف السفيه بالمال ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ) (النساء:5) أو تبديده أو كنزه من دون استخدام أو استثمار، انطلاقا من مفهوم الاستخلاف المالي، الذي تتحدد فعالياته وفقا للقيود والضوابط، التي يضعها المستخلف تعالى.

      ب- التربية الاقتصادية والمالية:

      تهتم التربية الإسلامية بجملة من القيم والمفاهيم والأحكام والاتجاهات، التي تعمل على زرعها وتعميقها في عقل ووجدان الأفراد والجماعة، وذلك لإيجاد الأرضية السلوكية المناسبة والإطار الاجتماعي، الذي يسهل عمليات تطبيق الأحكام والقوانين الاقتصادية والمالية، التي أشرنا إليها.

      ومن المقومات العامة لهذه التربية نشير إلى ما يأتي:

      1- ترسيخ قيمة العمل الإنتاجي:

      إن العمل ضرورة من ضرورات الحياة، وهو فريضة: ( طلب الحلال فريضة على كل مسلم ) [8] . وقد عدت التربية الإسلامية الكسل والتعطل منقصة تمس بالكرامة، فقد جاء في السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم حين يسأل عن [ ص: 135 ] الشخص إذا أعجبه مظهره، فإن قيل له: إنه ليست له حرفة ولا عمل سقط من عينه [9] ، فـ ( الله يحب المؤمن المحترف ) [10] .

      كما ربطت التربية الإسلامية العمل بمفهوم الاستخلاف، فالله تعالى حين جعل الإنسان خليفة في الأرض ترتبت على هذه الخلافة مسؤولية العمارة: ( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ) (هود:61)، أي جعلكم عمارها بالزرع والتماس الرزق [11] ، وتحقيق العمران والمدنية، وبداهة لا تعمير ولا مدنية من دون عمل وإنتاج.

      ومن هنا يبرز التعاضد بين التربية الإسلامية، التي تحث على العمل والإنتاج ونبذ الكسل والتعطل، والقانون الإسلامي، الذي ينظم الملكية والعمل والأنشطة الاقتصادية المختلفة.

      2- الالتزام بالوقت:

      حين يعد الوقت الذي يقدمه العامل أو الموظف في أثناء أدائه الواجب من أبرز مؤشرات الجهد الإنتاجي، فالتربية على احترام الوقت والالتزام به ستعزز من تقييد العمال والموظفين العموميين بالحدود الزمنية المطلوبة وبما يخدم في النهاية عملية الإنتاج ومشروع التنمية. [ ص: 136 ]

      3- إعلاء قيمة الإتقان:

      لا يكفي أن يعمل الإنسان ويشارك في الإنتاج من دون أن يسأل عن نوع ومستوى ما ينتج. لذلك لابد أن يتصف عمله بالدقة والإتقان لكي يعطي لإنتاجه أو ما يشترك في صنعه قيمة تصب في خدمة العملية الإنتاجية وتقدمها.

      وهذا ما توجه إليه التربية الإسلامية انطلاقا من قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه ) [12] . فالإتقان هو العمل الحسن البعيد عن الغش أو التمويه أو التزوير. وهو سلوك يخدم الإنتاج الحقيقي ويترجم الإسهام الفعال في رفع الإنتاجية وتحقيق التنمية.

      ومما لاشك فيه أن غرس هذه القيمة في وجدان المسلم سيولد الحرص على أن يكون الإنتاج مطابقا للمواصفات ومعايير الجودة، وملتزما بالتعليمات، التي تقرر منع الغش أو التزوير أو الرداءة أو نحو ذلك من المعايب.

      4- ترشيد الاستهلاك:

      تحث التـربية الإسـلامية على ضرورة تجنـب الإسـراف والتبذير والإنفاق بلا معنى، سواء على صعيد الفرد أو الجماعة، حتى الإسراف في الماء في حال الوضوء ولو كان "على نهر جار" [13] ، و ( إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ) (الإسراء:27). ثم إن الاستهلاك الزائد حـين يتم في حالة قلـة المـوارد [ ص: 137 ] إنما يتم على حسـاب طـوائف المجتمـع. والحقيقة أنه "ما متع غني إلا بما جاع به فقير"، فضلا عما يحمله الاستهلاك في طياته من سلبيات، خاصة في حالة الضيق حيث يقل المنتج، لذا فالسلوك المقتصد الرشيد يصير من الضرورات اللازمة على مستوى حياة الفرد والجماعة، ومن مسؤولية التربية التذكير بأنه في حالة الضنك العام لابد أن يبتعد الأفراد عن مظاهر الإسراف والبذخ والإنفاق الزائد ( ما آمن بي من بات شبعانا وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به ) [14] ، وأن أي جنوح نحو الإسراف في ظل مثل هذا الوضع إنما يتم على حساب احتياجات الآخرين "ما من نعمة موفورة إلا وبجانبها حق مضيع".

      والتذكير التربوي لابد أن يكون مقرونا بغرس عادات الاقتصاد في المأكل والملبس واستهلاك الطاقة والتعود على الانضباط وتجنب الفاقد في كل ما كان للناس به حاجة، أو كان للإسراف فيه مضرة تمس العموم.

      ولاشك في أن التربية على هذا النحو يمكنها أن تعضد ما تصدره الدولة من قوانين أو تعليمات تتصل بترشيد الاستهلاك، سواء كان ذلك يخص الطعام أو الماء أو الكهرباء. وبوسع التربية الإسلامية بما تتضمنه من إرشادات أن تتكامل مع القانون أو التعليمات الحكومية الداعية إلى الاقتصاد في الاستهلاك.

      5- التربية النوعية للعامل والفلاح والتاجر:

      يشكل كل من العامل والفلاح والتاجر والمالك أعمدة الإنتاج. وقد اهتم الإسلام بتربية هذه العناصر بما ينسجم مع أحكامه وقوانينه الاقتصادية والمالية. [ ص: 138 ]

      فالعامل هو أحد العناصر الأساسية في العملية الإنتاجية، والتربية الإسلامية تؤكد على قيمة العمل والعمال، وفي الحديث: إن ( الله يحب المؤمن المحترف ) [15] ، وقد كرم الله يد العامل بقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن هذه يد يحبها الله ورسوله ) [16] ، بل عـد العمل جهادا حتى لو كان من أجل إعاشة الفرد نفسه، كما كرم الله العمل اليدوي بوجه خاص.

      لذا لابد من إشعار العامل بأنه عضو حيوي في الجسد الاجتماعي، ولابد من تحذيره من سلوكيات التعطل والتواكل والكسل، وتحذيره من الأعمال السلبية كالتسول والسحر والتنجيم والأعمال الطفيلية غير المنتجة، فضلا عن التحذير من أي عمل أو كسب ممنوع: ( إن الله إذا حرم على قوم شيئا، حرم عليهم ثمنه ) [17] .

      كما تهتم التربية الإسلامية بتوعية العامل على أن حقوقه القانونية لا تبرر له الانسياق وراء ما قد تثيره بعض القوى المخربة في الوسط العمالي كالدعوة إلى الإضرابات من دون مبرر، خاصة إذا ما كانت هناك نقابة منتخبة يمكنها متابعة قضايا العمال ومشاكلهم مع جهات العمل.

      والحقيقة أن حق الإضراب، الذي تمنحه الديمقراطيات الغربية ناجم عن أن المنظـم الرئيـس للعـلاقة بين العـامـل ورب العمـل هـو الرأسمالي، الذي قد [ ص: 139 ] لا يتوانى عن إهدار الحقوق، بينما ظروف العمل في المجتمع الإسلامي تظل في كل الأحوال محكومة بالأحكام والضوابط الشرعية المقننة.

      أما بخصوص تربية الفلاح فقد أكدت التوجيهات القرآنية والنبوية على قيمة العمل الزراعي، كما في قوله تعالى: ( فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ) (الملك:15)، وفي قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يغرس مسلم غرسا ولا يزرع زرعا، فيأكل منه إنسان، ولا دابة، ولا شيء، إلا كانت له صدقة ) [18] .

      والتربية الإسلامية تحبب للمسلم الزراعة، وتعد العمل الزراعي بأنه يمثل قيمة مطلقة حتى أنه ( إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها، فليفعل ) [19] ، لهذا دعت هذه التربية إلى محو أي اتجاه سلبي نحو العمل الزراعي لا بسبب أهمية الزراعة على الصعيد المعيشي فحسب، بل بما تنطوي عليه من أهمية اجتماعية بوصفها تمثل أحد الأسس الرئيسة، التي تقوم عليها مصالح الجماعة وكيانها العام، ذلك أن اختلال التوازن بين الأفواه، التي تأكل ومعدل الإنتاج هو أمر يدفع بالضرورة إلى استيراد القوت من الآخرين.

      من هنا فتوجيه المواطن- خاصة ابن الريف- إلى التشبث بالأرض واستثارة قيمه الدينية ووعيه السياسي لإدراك الأهمية الكبيرة للاكتفاء الذاتي أمر مطلوب. ولتحفيز روح المشاركة في العمل الزراعي يمكن للتربية أن تتجاوز في [ ص: 140 ] خطابها الفلاح الماكث في الأرض إلى من ترك الفلاحة، فتستنهضه للهجرة المعاكسة، أي من المدينة إلى الريف، كما تشجع المواطنين عامة على التطوع في المعسكرات الصيفية لاستصلاح الأراضي أو استزراعها أو المشاركة في مواسم الحصاد ونحو ذلك.

      كما تعد القدوة القيادية في هذا الخصوص من عوامل التشجيع على هذا اللون من المشاركات.

      إن غرس حب الزراعة وإعطاء العمل الزراعي بعدا دينيا من شأنه أن يعمـق الرغبة بعدم ترك الأرض أو تحـويلها من أرض زراعية إلى أرض عقارية أو تجارية خلافا للقوانين المتبعة، الأمر الذي سيعزز من مشروع الدولة في اتجاهها نحو تعظيم الزراعة والعمل الزراعي.

      أما بخصوص تربية التاجر والمالك ورجل الأعمال، فإن التربية الإسلامية تبدأ بتأكيد مبادئ: أن المال مال الله، وأن الإنسان مستخلف ويتوجب عليه أن يحسن هذا الاستخلاف، فلا يجمد المال ولا يعبث به، وأن يلتزم بالضوابط والقيود التي أوردها الشرع في هذا الخصوص، مما يعني أنه لابد أن يتفقه بالقيود والضوابط الشرعية الواردة بشأن المال وحق الملكية، فيميز بين ما يجوز تملكه ملكية خاصة وما هو داخل في دائرة الملكية العامة، ويدرك أن ملكية الأرض والمـوارد الطبيعية مشـروطـة باستمـرارية الاستثـمار والرعـاية، وفي حالة العجز أو الإهمال فعليه التنازل عنها إلى مستثمر آخر. ومن هنا يربى الإسلام على [ ص: 141 ] مبدأ الاستثمار المتواصل: ( من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يزرعها فليزرعها أخاه ) [20] .

      كما يجب أن لا تشكل حرية التصرف في الملكية اعتداء أو إضرارا بحقوق أو حريات الآخرين وذلك وفقا لقاعدة: "لا ضرر ولا ضرار". وتحث التربية الإسلامية على تجنب التعسف في استعمال الحق. كما تنهى عن اللجوء إلى الرشوة من أجل اقتطاع حق (الغير) دون وجه حق، فقد ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي ... ) [21] .

      وكذلك تنهى عن اكتناز المال وتجميده: ( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ) (التوبة:34)، فضلا عن نبذها للتبذير والإسراف: ( ولا تبذر تبذيرا * إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا ) (الإسراء:26-27)، ولا تسرف وإن كنت "على نهر جار" [22] .

      6- آداب التجارة وبناء السلوك التجاري:

      التاجر كصـاحب المال تعد تصرفاته وأنشطته جزءا من حركة الاقتصاد في المجتمع. وتعنى التربية الإسلامية بتكوين السلوك التجاري وفقا للقيم [ ص: 142 ] والضوابط الأخلاقية كالصدق والأمانة وعدم الغش والمنافسة الشريفة والوفاء بالعهد ونحو ذلك.

      فالصـدق المطـلـوب يشـمـل وصف السلعة وعدم ادعاء سعر تكلفة أعـلى من السـعر الحقيـقي، فـ ( التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء ) [23] .

      والأمانة وعدم الغش تشملان أساليب عرض السلع وعدم التلاعب في مكونات المنتج كما في إضافة الماء إلى اللبن أو خلط الصناعي بالطبيعي، فـ"من غشنا فليس منا" [24] . كما أن من مقتضيات الأمانة وعدم الغش عدم حجب الحقائق وتجنب الكذب والتزوير. فـ ( إن أطيب الكسب كسب التجار، الذين إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا باعوا لم يطروا، وإذا كان عليهم لم يمطلوا، وإذا كان لهم لم يعسروا ) [25] .

      ومن الأخلاقيات المطلوبة في السلوك التجاري أن ( لا يبيع الرجل على بيع أخيه ) [26] ، و ( لا يسم المسلم على سوم أخيه ) [27] . [ ص: 143 ]

      وقد ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيـع الحصاة، وعن بيع الغرر ) [28] ، أي بيـع مالم يكن في اليد، كما نهى عن "البخش"، أي المزايدة الوهمية لإيقاع الآخرين، كذلك شراء المسروق: ( من اشترى سرقة، وهو يعلم أنها سرقة، فقد شرك في عارها وإثمها ) [29] ، و"المطل" الذي يعني هدر حقوق الآخرين بالتسويف وعدم الوفاء بالالتزامات في مواعيدها، ناهيك عن تحريم الربا.

      ومن تعاليم السوق تحريم التطفيف في الميزان: ( وأوفوا الكيل والميزان بالقسط ) (الأنعام:152)، ( ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) (الشعراء:183)، [30] ( ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون * ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون * ليوم عظيم * يوم يقوم الناس لرب العالمين ) (المطففين:1-6).

      وفي إطار سلوكيات البيع والشراء أكدت التربية الإسلامية على وجوب حسن التعامل والتساهل ما أمكن ( رحم الله رجلا سمحا، إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى ) [31] .

      أما على صعيد الدين، فقد نبه الإسلام إلى مبدأ الكتابة من جهة ( يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ... ) [ ص: 144 ] (البقرة:282)، ثم التسامح مع المعسر عند حلول موعد الإيفاء. وكان توجيهه: ( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ) (البقرة:280). ولا شك في أن هذا المنهج من شأنه أن يحول دون الكثير من النزاعات.

      كما لعن المحتكر، الذي يسعى للتحكم في الأسعار عبر شراء معظم المنتج، أو إتلاف قسم منه بقصد الإبقاء على ارتفاع الأسعار، أو حجب الحاجات الضرورية، التي يحتاجها الناس لبيعها بسعر أعلى في أوقات أخرى. إن ( من احتكر حكرة يريد أن يغالي بها على المسلمين فهو خاطئ ) [32] .

      وقد نبهت التعاليم الإسلامية على الابتعاد عن الأعمال الطفيلية كالتوسط، الذي لا مبرر له والذي يثقل الوظيفة التداولية على حساب المستهلك ( إياكم والقسامة، قالوا: وما القسامة يا رسول الله؟، قال: "الرجل يكون على الفئام من الناس فيأخذ من حظ هذا وحظ هذا ) [33] . ونبهت أيضا على تجنب الأنشطة، التي لا هم لها سوى الربح السريع عبر الغلاء في الأسعار من دون مبرر، أو غير ذلك من المسالك المجحفة.

      ومـن أخـلاقـيـات السـوق صيانـة حـقـوق العمـال، سـواء عـلى مستـوى الإنصاف في الأجر أو سرعة دفعه: ( أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه ) [34] . [ ص: 145 ]

      وإذا كانت القوانين والتعليمات الإسلامية تعطي للسلطة حق التدخل لإيقاف السـلوكيات التجـارية السيئة أو الحيلولة دون ممارسة الأنشطة الضارة أو الفاسدة فإن البداية تظل في كل الأحوال بالتربية، التي تمثل الضابط الأكثر فاعلية في تحقيق الالتزام بالقوانين والتعليمات.

      7- التوعية الضرائبية:

      من الضرائب ما هو مقرر شريعة كالزكاة، ومنها ما يخضع إلى تقديرات السلطة بحسب الظروف الاقتصادية والمالية العامة. والتربية الإسلامية معنية بتوعية المسلم على وجوب دفع الضرائب، سواء كان مرجعها أحكام نصية كالزكاة أو مقررات سلطانية كالجمارك والمكوس ونحوهما.

      وتربية المسلم بهذا الخصوص تقوم على نقطتين:

      الأولى: التـوعية بأن الضـريبة الثـابتة نـصـا وشريعة هي فريضة دينية شأنها شأن الصلاة والصوم والحج، وتمثل تجسيدا للعلاقة العبادية بين العبد وربه قبل أن تكون فريضة قانونية ملزمة ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) (التوبة:103).

      الثانية: إن دفع الضرائب الثابتة أو المتغيرة يمثل وجها من وجوه المشاركة العامة، ودعما لمشاريع النظام الإسلامي التنموية، فضلا عن كونه أحد المداخل، التي تحقق التكافل بين أفراد المجتمع.

      ومما لاشك فيه أن مثل هذه التوعية من شأنها مساعدة السلطة على تنفيذ القوانين الواردة في هذا الخصوص. [ ص: 146 ]

      8- التوعية بالحق الرقابي للجماعة على مال الفرد:

      للدولة الحق في التدخل في الحياة الاقتصادية بما تقتضيه المصالح العامة، ومن ذلك إمكانية أن تحجز على السفهاء، الذين يسرفون في أموالهم ويبعثرونها على نحو غير طبيعي ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ) (النساء:5) فإنفاق الشخص أمواله على نحو غير معقول أو حرفها في مواضع لا تشي إلا عن سفه أو خلل هو ما يبرر التدخل لمنعه.

      وضمن تطويع المالك للحق الرقابي تعويده على الاستجابة لما تصدره السلطة من قرارات كالإيعاز للامتناع عن إيداع الأموال في بعض البنوك الأجنبية أو طلب سحبها، أو الإعراض عن استيراد أو تصدير أنواع محددة من السلع والحاجات، أو غير ذلك من القرارات، التي تقتضيها ضرورات سوق المال والعمل والإنتاج والأعمال.

      9- التوعية بالمفهوم الإسلامي للنقد:

      النقد في منظوره الإسلامي أداة قياسية لتحديد قيمة السلع، وهو وسيط بين الإنتاج والاستهلاك لتسهيل عمليات التداول. وبهذا لا يمكن أن يكون أداة مستقلة لتنمية نفسه بنفسه، كما هو في حالة الربا أو بيع العملات في السوق السوداء، فالاستثمار المشروع للنقد هو حين يتم عبر المشاريع والأنشطة المنتجة أو من خلال توظيفه في أنشطة البنوك أو المؤسسات الاقتصادية أو المالية اللاربوية. [ ص: 147 ]

      ومن مقتضيات الطاعة السياسية وحماية الأمن المالي والاقتصادي أن يكون سعر الصرف الرسمي هو الطريق المشروع لتبديل العملات.

      وهذا ما تثقف به التربية الإسلامية.

      تعليق:

      إن العلاقة بين التربية الإسلامية والقوانين الإسلامية المتصلة بالمال والملكية والاقتصاد والأمن المعيشي جديرة بأن توفر عناصر الترابط والتعاضد والتبادل والتكامل على النحو، الذي يساعد على إيجاد التكيف والالتزام بالتعليمات والضوابط، التي تحكم العلاقات الاقتصادية والمالية في الدولة والمجتمع.

      لقد فطر الإنسان على حب المال، وهذا الحب إذا ما طغى فمن شأنه أن يولد نزعات الطمع والجشع، ويدفع إلى سلوكيات الاحتكار والغش والمغالاة في الأسعار وغيرها من السلوكيات النفعية، التي لا يمكن للقانون أن يروضها على النحو المحكم مهما بلغ من الشدة مالم تكن ثمة موجهات تربوية تتعامل مع الضمير الإنساني وتخاطب أعماقه، ولا أعمق من الضمير الديني، الذي يتصل بالله وبعالم المصير.

      فبتكوين هذا الضمير وتقويته عن طريق التنشئة والتربية فلربما يمكن السيطرة على نزعة الحب المتطرف للمال، وجعل سلوكيات التملك والأنشطة الكسبية متناغمة ومنضبطة مع الأحكام والضوابط الشرعية، وبما ينسجم مع النظام الاقتصادي والمالي، الذي يقدمه الإسلام . [ ص: 148 ]

      وفي الحقيقة، أن التربية الإسلامية وهي تعلم السلوكيات والضوابط المتصلة بالشؤون المالية والحقوقية والاقتصادية ووفقا للفلسفة الإسلامية والمقررات والأهداف الشرعية، فإنه يمكن في ظلها دعم القوانين الإسلامية في هذا الخصوص بحيث يتكامل عمل التربية مع عمل القانون، وبما يعزز في النهاية مشروع الإسلام في الاقتصاد والتنمية العام.

      التالي السابق


      الخدمات العلمية