الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      سادسا: في الحقل العسكري والأمني:

      أ- الأحكام العسكرية والأمنية:

      إن الإسلام، قرآنا وسنة وفقها، وضع جملة من الأحكام، التي تنظم حالات الحرب والسلم وسلوكيات القتال بين المسلمين وغيرهم والتي يمكن تناول خطوطها الرئيسة فيما يأتي:

      - الحرب دفاعا:

      لم تشرع الحرب في الإسلام إلا للدفاع ومواجهة حالات العدوان: ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) (البقرة:190). وهذا يعني أن الحرب المشروعة هي تلك الحرب القائمة على الدفع، وأن إعلان الحرب وفقا للقانون العسكري الإسـلامي لا يتـم إلا ردا على عـدوان أو تـهـديد خارجي أو بغي داخلي، ولا يمكن أن تشن بدافع التسلط أو استعمار الآخرين مادام (الآخر) لم يعتد أو لم يخطط لعدوان: ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ) (الممتحنة:8)، لأن المبدأ هو: أن ( لا إكراه ) في نشر قيم الدين.

      ومع نهي القرآن الكريم عن الاعتداء فقد عقب الفقهاء على هذا النهي بالقول: "بأنه دليل على أنه من الأنواع المحكمة غير القابلة للنسخ، لأنه فيه إخبار بعدم محبة الله للاعتداء. والإخبار لا يدخله النسخ" [1] . [ ص: 167 ]

      وهذا لا ينفي ضرورة بناء جيش قوي وإعداده العدة اللازمة على الصعيد المادي والعسكري: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) (الأنفال:60). فالإعداد العسكري والسياسة السلمية لا يتناقضان.

      - استثناءات الحرب الدفاعية:

      استثناء من الحرب الدفاعية يجـوز القانون العسكري الإسلامي، القتال "جهادا" حتى إن لم يكن ثمة عدوان قائم على المسلمين.

      وهذا لا يتم إلا في حالات ثلاث:

      الأولى: إذا كان ثمة تخطيط لعدوان مرتقب من قبل (الآخر). ففي ظل حالة كهذه يمكن للمسلمين أن يبادروا إلى شن الحرب لمنع الخصم من العدوان (الهجوم الدفاعي).

      الثانية: إذا كان ثمة عهد أو ميثاق مع (الآخر)، ثم نقض هذا (الآخر) العهد أو الميثاق، فإنه في هذه الحالة يجوز شن الحرب عليه تحوطا واستباقا.

      الثالثـة: حـالة الاستنقـاذ، الـتي تجـري تلبية لنـداء المسـلمين المظلومين، أو إنقـاذا للمستـضـعفين من غـير المسلمـين ممـن لا حيلة لهم في دفع الظلم أو القهر الواقع عليهم: ( وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا ) (النساء:75).

      فالحرب الهجومية في كل هذه الحالات تعد حربا مشروعة. [ ص: 168 ]

      - الممنوعات في القتال:

      يقرر الإسلام جملة من الأحكام الإنسانية والوصايا [2] ، التي تحدد للقتال شروطا وضوابط تفرض على القادة والجنود الالتزام بها، ومنها:

      - عدم الاعتداء على غير المحاربين من الرجال والنساء والأطفال: ( اغزوا ولا تغلوا, ولا تغدروا, ولا تمثلوا, ولا تقتلوا وليدا ) [3] ، ( وانطلقوا باسم الله، وبالله، وعلى ملة رسول الله، ولا تقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلا، ولا صغيرا، ولا امرأة، ... وأصلحوا وأحسنوا، إن الله يحب المحسنين ) [4] .

      - عدم التجاوز على أماكن العبادة أو الاعتداء على رجال الدين المنقطعين للعبادة وكل مسالم لم يشترك في القتال.

      - عدم جواز التمثيل بجثث الأعداء [5] : ( لا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصوامع ) [6] .

      - عدم استخدام سياسة الأرض المحروقة، التي قد تتمثل بحرق الأشـجار وإتلاف المزروعات وقتل الحيـوانات وهـدم المدن والعـمارات وتسـميم المياه [ ص: 169 ] ونحو ذلك: "... لا تعزقن نخلا، ولا تحرقنها، ولا تعقروا بهيمة، ولا شجرة تثمر، ولا تهدموا بيعة، ولا تقتلوا الولدان ولا الشيوخ ولا النساء، وستجدون أقواما حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له..." [7] .

      منح الأمان للرسل والدبلوماسيين وعدم قتلهم أو إيذائهم.

      - حقوق الأسرى:

      منذ لحظة وقوع المحارب في الأسر تترتب له حقوق إنسانية تبدأ بعدم جواز قتله أو تعذيبه، ويتقرر بشأنه خياران: المن عليه بإطلاق سراحه من دون مقابل أو افتدائه بعدد مماثل أو أكثر من أسرى المسلمين أو بمال يؤدى عنه وذلك عملا بقوله تعالى: ( حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء ) (محمد:4).

      وإذا كانت هناك بعض الآراء، التي تجوز قتل الأسير أو استرقاقه أو سبي النساء والصبيان فإنه في ظل المتغيرات الثقافية والدولية الحديثة من الضروري والمصلحة الإعراض عن تلك الآراء والأخذ بالرأي الإسلامي، الذي ينسجم مع المقررات الحديثة، التي هي في الحقيقة أقرب إلى جوهر الحقيقة الشرعية: ( استوصوا بالأسارى خيرا ) [8] . [ ص: 170 ]

      - الوفاء بالعهود والمواثيق:

      حين يتفق المسلمون مع الأعداء ويعقدون معهم معاهدة أو ميثاقا فإن عليهم الوفاء بما تعاهدوا أو اتفقوا عليه: ( وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ) (الإسراء:34).

      والالتزام بالعهد والتقيد بمقتضياته يعد من الواجبات، التي لا مناص منها: ( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ) (النحل:91). ولكن مع ذلك فإن العدو إذا ما أخل بالعهد فذلك يعد من الغدر والخيانة، التي تجعل المسلمين في حل مما عاهدوا عليه: ( ... إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين ) (التوبة:4).

      -أما الأحكام الإسلامية المتصلة بالأمن العام فأولها تحريم التعامل مع العدو، والمحاسبة على ما يعد تخابرا أو تعاونا معه، وحظر إفشاء الأسرار الوطنية، وتحمل مسؤولية تعمد بث الشائعات الضارة بالدولة والمجتمع. وقد تصاغ هذه الأحكام ضمن القوانين أو تدرج كتعليمات عامة تقرر بموجبها العقوبة المناسبة لكل فعل ممنوع.

      ب- التربية العسكرية:

      في ضوء المبادئ والقيم والأحكام العسكرية، التي قررها الإسلام يمكن رسم خطوط عامة للتربية العسكرية الإسلامية تقوم على ما يأتي: [ ص: 171 ]

      1- التوعية بمفهوم الجهاد وتعليم أحكامه:

      يمثل مفهوم الجهاد جوهر العسكرية الإسلامية. والتربية الإسلامية تعلم المعنى الحقيقي للجهاد بوصفه يتمحور حول فكرة الدفاع عن الإنسان والدين والوطن، سواء كان دفاعا في مواجهة الغزاة الخارجيين أو البغاة المتمردين والخارجين على القانون والنظام العام.

      والجهاد في كل الأحوال لا يعني العدوان، بل أساسه الدفاع والتحصين والصد والحفاظ على الكيان والأمن العام.

      وحتى الجهاد الهجومي لا يقوم في جوهره إلا على مبدأ الدفاع عن حرية الإنسان وكرامته واختياره، أو إحباطا لتخطيط مبيت للهجوم، أو ردا على نقض عهود مبرمة، أو دفاعا عن مستضعفين مظلومين، إذا ما توافرت شروط ذلك الدفاع.

      وهو في كل الأحـوال يقوم على فلسـفـة إعـلاء كلمة الله وإحقـاق الحـق والدفـاع عن الإنسـان وحـريته وكرامتـه، ولا يسـتهدف المغانم المادية أو المكاسب الدنيوية أو السيطرة أو إذلال الآخرين، فضلا عن أن يكون في خدمة حاكم أو تعبيرا عن نوازع توسعية: ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله عز وجل ) [9] . [ ص: 172 ]

      2- التدريب والرياضة والأخذ بأسباب القوة:

      إن تعلم فنون القتال والدوام على التدريب واكتساب القوة الجسدية والمهارات التقنية مطلوب للجندي المسلم، وعلى مختلف مدارج التطور التدريبي، تحقيقا لمطلب القوة، الذي يمكن من خلاله مواجهة الأعداء المعتدين: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) (الأنفال:60).

      3- التربية على الطاعة والضبط العسكري:

      من أهم مقتضيات التربية العسكرية الإسلامية الأخذ بسلوكية الطاعة، طاعة القيادة والالتزام بأوامرها والتقيد بالخطط، التي ترسمها، وكذلك الالتزام بالضـبـط العسـكري، الذي يمنع الانفراد أو التهور أو أي سـلوك عسـكري أو قتالي يخالف ما هو مقرر أو مرسوم.

      4- تنمية الروح المعنوية عند الأفراد، والحصانة ضد الحرب النفسية:

      تقوم التربية العسكرية الإسلامية على غرس قيمة الشجاعة والانتصار عـلى الخـوف وتقـوية خصـلـة الصبر على المكاره: ( اصبروا وصابروا ) (آل عمران :200)، ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ) (الأنفال:65)، والثبات عند المواجهة: ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا ) (الأنفال:45)، والثقة بالنفس، وعدم الضعف أمام الحرب النفسية، والإيمان بالنصر: ( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) (محمد:7). [ ص: 173 ]

      وقد حذر القرآن الكريم من التولي يوم الزحف، يقول الله تعالى:

      ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار * ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ) (الأنفال:15- 16).

      5- غرس روح التضحية والتشبع بثقافة الاستشهاد:

      تهتم التربية الإسلامية بقيمة التضحية، التي تعني تقديم أقصى ما يملكه المسلم ويستطيعه من أجل الواجب العظيم والهدف المقدس.

      ومن مقتضيات التضحية: المرابطة: ( رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها ) [10] ، و ( من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيا في سبيل الله بخير فقد غزا ) [11] .

      ويعد نيل الشهادة قمة التضحية. وقد عظم الله الشهيد وخصه بكرامات، منها خصوصية الحياة مع الموت: ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) (آل عمران :169). وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يربي على حب الشهادة في سبيل الله: ( ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا، وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل: عشر مرات لما يرى من الكرامة ) [12] . [ ص: 174 ]

      - التربية الأمنية:

      لابد من تربية الإنسان المسلم على الحس الأمني، سواء في وقت الحرب أو في السلم. وهذه التربية تقوم على البرنامج الآتي:

      - تعريف المواطن بالعدو، طبيعته، تاريخه، أهدافه، أساليبه الصراعية، ويعـد التعـليم والإعـلام وخـطاب المسـاجد من القنوات، التي يمكنها التثقيف بذلك.

      - تكوين الحس الأمني على أساس مبادئ السرية والحذر والاحتياط وعدم ترداد الشائعات والحفاظ على أسرار البلاد والمجتمع بحيث يدرك المواطن متى يتكلم ومتى يتكتم ومتى يسأل ومتى يمتنع عن الإجابة، وكيف يقضي حاجاته بكتمان: ( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ) (الأنفال:27)

      - عدم إشاعة الخوف والإحباط، وإحياء الأمل وعدم تضخيم العدو: ( لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ) (النور:57).

      - التدريب على حفظ الأمن العام عن طريق الإخبار والاستخبار إزاء أية ظاهرة مشبوهة أو غير عادية بخاصة في أوقات الحرب أو الصراع، فضلا عن التطوع في مجالات الحراسة والمرابطة وغيرها. [ ص: 175 ]

      - التربية على الإيمان بقيمة السلام والتعايش:

      إن ثمة مبادئ تنظم علاقات المسلمين بغيرهم منها: مبدأ الاعتراف بـ(الآخر) والإقرار بوجوده السياسي طالما كان في حال سلمية مع المسلمين. فالنبي صلى الله عليه وسلم اعترف بالمختلفين وجلس معهم على الصعيد السياسي، وتعامل معهم على الصعيـد الدبلوماسي، وذلك يعني إيمانه بالتعايش، الذي لا يقوم إلا على أساس السلام: ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ) (الأنفال:61)، ( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ) (البقرة:208)، ( فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ) (النساء:90).

      أما في حالة النزاع فلابد من اعتماد مبدأ الحوار، الذي نص عليه ميثاق الأمم المتحدة في مادته الثانية، وهو ما اعتمدته الرؤية الإسلامية المتجددة في تنظيم العلاقة مع (الآخر)، وإبقاء الحرب حلا اضطراريا دون جعلها- في كل الأحوال- وسيلة للاستعلاء أو التوسع ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ) (القصص:83).

      تعليق:

      إن تربية الجيش على الفقه الحربي، الذي يتبنى مبدأ التعايش ولا يبيح الحرب إلا دفاعا، عدا ما يستثنى من ذلك على نحو ما بيناه، إنما يقدم صورة متحضرة للعقيدة العسكرية، التي لا تؤمن بالقهر والعدوان. [ ص: 176 ]

      إن تـربـية القـيادات السـياسـية والعسـكـريـة عـلى هـذا المنـهـج سـيـعـزز من أخلاقيات الحرب كعدم الاعتداء أو المبادرة في العدوان، والتزام الممنوعات في أثناء القتال كاسـتثناء النسـاء والأطفال والشـيوخ ورجال الدين وغيرهم من غير المقاتلين من فعاليات المواجهة، فضلا عن عدم التجاوز على أماكن العبادة واحترام جثث الأعداء، ومنح الأسرى حقوقهم، وإعطاء الأمان للرسل والدبلوماسيين، وتجنب سياسة الأرض المحروقة، التي لا تتورع أكثر جيوش العالم من اللجوء إليها خلافا للقوانين الإنسانية.

      ومن مبادئ التربية العسكرية الإسلامية الوفاء بالعهود وعدم خرقها. والتربية على هذا المبدأ من شأنها أن تعزز القانون الدولي الإسلامي وتجعل أحكامه محل احترام.

      وإذا كان القتال دفـاعا أمـرا مشـروعا بوصفـه يستهـدف حماية الوجود أو الاستنقاذ المبرر، فالتربية الإسلامية تؤكد على واجبات الطاعة والضبط والصبر والتحمل والالتزام، فضلا عن تأكيدها على فريضة الجهاد وإعلائها قيمة الشهادة.

      وعلى الصعيد الاجتماعي العام تعمل التربية الإسلامية على تقوية الحس الأمني لدى الناس عموما لاسيما في أوقات الحرب والصراع، ويتمثل ذلك بالتأكيد على سلوكيات السرية والحذر والاحتياط والإخبار والاستخبار. ولعل وسائل الإعلام هي من أهم الأدوات، التي تؤدي دورا مهما في تعميق وعي المواطن بحقيقة العدو وأساليب الحرب النفسية والدعوة [ ص: 177 ] إلى المشاركة في إحباط الأنشطة المضادة وتطبيق إجراءاتها بالشكل، الذي يخدم الأهداف الأمنية.

      من هنا تتعاضد وتتكامل التربية مع القانون في المجالين العسكري والأمني.

      التالي السابق


      الخدمات العلمية