الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      سابعا: في الحقل البيئي:

      البيئة هي كل ما يحيط بحياة الإنسان من تربة وماء وهواء وكائنات نباتية وحيوانية ومنشآت وتجمعات سكانية، وأن أي تلف أو إفساد بهذه العناصر من شأنه أن يؤدي إلى إحداث خلل أو تعطيل في النظام الحيوي ونوعية الحياة.

      من هنا تبرز أهمية البيئة وخطورتها.

      والحقيقة أن المسـألة البيئية أضحت اليوم من قضايا العصر، لاسـيما بعد تمادي الإنسـان في إطلاق السـموم والملوثات في الأرض والهواء والمياه، وما ظاهرة ثقب الأوزون إلا نتيجة لتصاعد الحرارة الناتجة عن أدخنة المعامل وما تفرزه الأجهزة الحديثة من إشعاعات.

      كما صار الموضوع البيئي محلا لما يطلق عليه بـ"علم البيئة Ecology"، والإسلام اهتم بهذا الموضوع، وقد عبر القرآن الكريم عن ظاهرة الفساد البيئي، يقول الله تعالى: ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ) (الروم:41). ولعل مضمون هذه الآيـة يتطـابق مع الـرأي العلمي والقـانـوني الخـاص بظـاهـرة [ ص: 178 ] التـلـوث "Pollution" [1] . كما أن الإفساد البيئي يعد من المحرمات، وقد عمل فقهاء الإسلام على توجيه السلوك بما ينسجم مع مطلب الحماية ومواجهة الإشكاليات البيئية.

      أ- الأحكام البيئية:

      هناك من النصوص القرآنية والنبوية ما يتصل بالشأن البيئي. وفي الفقه الإسلامي عدد من القواعد والأحكام كقاعدة: "لا ضرر ولا ضرار"، و"درء المفاسد مقدم على جلب المنافع"، و"الضرر يزال" وغيرها مما يمكن اعتماده للحيلولة دون التلاعب في الوسط البيئي أو الإضرار فيه [2] .

      والحقيقة أن الانتفاع بالبيئة ومواردها هو حق طبيعي أباحه الله للإنسان مثلما حق الانتفاع بالملكية الخاصة حق مشروع، إلا أنه في الحالتين لا ينبغي أن يؤدي هذا الحق أو ذاك إلى الإضرار بالآخرين، فمن يستخدم المبيدات الكيميائية بإفراط مثلا لحماية أو تنمية محصولاته أو يشغل مصنعا يصدر أصواتا مزعجة، أو ينفث غازات سامة لابد من منعه أو إلزامه باتخاذ التدابير، التي تكفل عدم الإضرار أو الإفساد، فالانتفاع بالملكية أو البيئة أمر مشروع شريطة عدم التعسف أو الجور أو الإسراف.

      وقد كان من سلطات "المحتسب"، الذي عرفته الخبرة الحكومية الإسلامية وضع الضوابط وإصدار الأوامر المانعة لكل ما يؤدي إلى تلويث [ ص: 179 ] البيئة أو يخل بنظام الأسواق والطرقات والبناء وتوزيع الأماكن المهنية كالحدادة والصباغة والنفخ في النار، أو تحديد مواضع المنشآت الصناعية بما لا يفسد حياة السكان والبيئة.

      وتعد النظافة البلدية والقواعد الصحية الخاصة بالمدن والشوارع والمطاعم والفنادق غيرها مما يتصل بالشأن البيئي، لذا لابد من تقنينها ووضع التعليمات الخاصة بها وفرض الجزاءات المناسبة لكل من يخالفها. والنظافة المأمور بها تشمل الجانب الوقائي المتمثل بالابتعاد عن النجاسات والقاذورات والحيوانات الناقلة للأمراض ونحو ذلك.

      وقد قسم الفقهاء الأضرار الناتجة عن التلوث إلى أضرار قائمة وأخرى مستجدة. ففي الأضرار القائمة قضوا بوجوب إيقاف الأنشطة المسببة للتلوث كأدخنة الأفران والحمامات والطواحين، أو التلوث الناتج عن بعض المرافق كالآبار والمراحيض أو التلوث الصوتي المنبعث عن الضوضاء والأصوات الصارخة وسن العقوبات المناسبة لهذه المخالفات، التي تلحق أضرارا في صحة الإنسان وحياته.

      أما بالنسبة للأضرار المستجدة فيمكن للقانون البيئي الإسلامي أن يستعير من أحكام القانون المدني الإسلامي والقانون العقابي ما ينظم شؤون البيئة ويحميها من أية أضرار، سواء في البر أو البحر أو الجو.

      والفقه الإسلامي حين يؤكد حظر التعسف في استعمال الحق فإنه يحمل المسـؤولية ويضع الضمان عن أي فعـل بيئي ضار كاتخـاذ مصنـع للحـديـد [ ص: 180 ] أو طاحونة أو فرن أو مصهرة إلى جانب منزل الجار، أو عند اتخاذ بيدر للحبوب قريبا من دار الجار، الذي يؤذيه غبار التذرية، أو ينشئ بناء مرتفعا قريبا من بيدر جاره بحيث يسد عنه الريح أو يعطل له عمله، أو يقيم مطبخا في سوق القماشين أو الخياطين فيلوث الملابس والأنسجة [3] . وهذا ما تبنته الدولة العثمانية في أحد قوانينها الصادر عام 1869م.

      وفي قانون البيئة الإسلامي ثمة اهتمام بالكائنات الحية وحمايتها، فالإسلام حرم إجاعة الحيوان أو إرهـاقه أو حبسه أو تحميله فوق ما يحتمل، بل حرم قتل الحيـوان أو إتلاف الـزرع حتى في أثناء الحروب: "... لا تعزقن نخلا، ولا تحرقنها، ولا تعقروا بهيمة، ولا شجرة تثمر... " [4] . كما نهى عن الصيد العابث أو المسرف باعتبار أن الصيد، الذي يفوق القدرات التعويضية من شأنه أن يؤدي إلى انقراض الحيوانات لاسيما النادرة منها [5] .

      كما أن فقهاء المسـلمين قـد فصلوا في ما يتوجب على مالك الدواب أو الطيور من نفقة ورعاية، ووضعوا إلزامات قانونية بهذا الخصوص شهدتها الخبرة الإسلامية في حقل التطبيق[6] . [ ص: 181 ]

      من هنا فصدور قانون لتحريم الصيد في ظروف ومناسبات معينة سيكون ترجمة لتلك الأحكام الفقهية والتعاليم المتصلة بها.

      والحقيقة أن سياسة الحكومة الإسلامية منذ تأسيسها كانت تعمل بهذا الاتجاه، فالرسول صلى الله عليه وسلم أقام منطقة حرام في المدينة أطلق عليها "الحمى"، وهي لحماية الكائنات الحية النباتية والبرية والغابات، ولعل الحمى المذكور لا يزال قائما في شبه الجزيرة العربية حتى اليوم، وهو على أنواع:

      1- حمى يمنع الرعي.

      2- حمى يقصر الرعي على فصول معينة.

      3- حمى مقصورة على أجناس معينة وأعداد محددة من الماشية.

      4- حمى لتربية النحل، ويمنع فيها الرعي في أثناء نمو الأزهار [7] .

      واستطرادا، يمكن لقانون البيئة الإسلامي أن يتضمن نصوصا تمنع قتل الحيوانات البرية النادرة، وتحظر قطع الأخشاب من الغابات أو تضع قيودا على ذلك، كما تمنع تدمير التربة الزراعية واستنزاف المياه الجوفية، فضلا عن إمكانية إصدار التعليمات والأوامر، التي يمكن بموجبها منع قطف الأزهار، أو ما من شأنه تشويه البيئة أو سلبها الجمال المطلوب. [ ص: 182 ]

      وفي مجال حماية الآثار، كأحد المظاهر البيئية الثمينة، يمكن وضع النصـوص القـانونية، الـتي تمنـع التجاوز عليها أو المتاجرة فيها أو تهريبها خارج البلاد.

      وأخيرا، يمكن للفقه المؤصل بالنصوص والمقاصد الشرعية استنباط ما هو ضروري لحماية البيئة، كما يمكن الاستئناس بما هو ضروري أو مفيد مما تتضمنه القوانين البيئية المعاصرة [8] .

      ويمكن أن يأخذ البعد القانوني لحماية البيئة أفقا دوليا وذلك عبر توقيع الاتفاقيات الدولية الخاصة، التي تهم بعض الدول أو مجموعة كبيرة منها.

      ب- التربية البيئية:

      اعتمدت التربية الإسلامية على الصعيد البيئي على عدد من المبادئ والتوجيهات، من أهمها:

      1- مبدأ التعاطف مع البيئة ونفي الصراع:

      تنطـلق التـربية الإسـلامية من مبدأ التعاطف مع البيئة وعدم التعامل معهـا بنظرة صـراعيـة، وتجنب مسلك الإيذاء الجائر، سواء كانت البيئة نباتية أو حيوانية أو مادية، قال تعالى: ( كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) (البقرة:60). [ ص: 183 ]

      والتعاطـف مع البيئة يقوم على الحماية والرعاية والإنماء، فمع الزرع مثلا لا يكتفى بعدم قطعه أو حرقه بل بدوام العناية به: ( ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة ) [9] ، و ( من نصب شجرة، فصبر على حفظها والقيام عليها حتى تثمر، كان له في كل شيء يصاب من ثمرتها صدقة عند الله عز وجل ) [10] .

      بل أن تنمية الزرع بشكل دائم ينبغي أن يكون سلوكا لا يتوقف حتى قيام الساعة: ( إن قامت على أحدكم القيامة وفي يده فسيلة، فليغرسها ) [11] .

      أما على الصعيد الحيواني، فالحيوان جزء من البيئة، وقد أوصت التعاليم الإسلامية بالرفق به ورعايته، فالله سخر الحيوان لخدمة الإنسان، وهو عنصر من عناصر عيشه وزينته، لذلك طالبت التعاليم بأن لا يؤذى ولا يحمل فوق طاقته، وفي حالة الأم اللبون نهت عن ضرع لبنها إلا بالقدر، الذي لا يضر بالوليد.

      كما نهت عن الصيد حين يكون عبثا أو إسرافا، لاسـيما حين يؤدي إلى انقراض النوع، قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قتل عصفورا عبثا، عج إلى الله عز وجل يوم القيامة، يقول: يا رب, إن فلانا قتلني عبثا، ولم يقتلني لمنفعة ) [12] . وقال صلى الله عليه وسلم : ( أفلا تتقي الله في هذه البهيمة، التي ملكك الله إياها؟ فإنه شكى إلي أنك تجيعه وتدئبه ) [13] . [ ص: 184 ]

      إن الحماية والرعاية والتنمية الدائمة للكائنات الحية تمثل فعلا إيجابيا تقتضيه رسالة الاستخلاف والتسخير والتعمير: ( ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ) (لقمان:20).

      لقد امتد التعاطف النبوي حتى إلى الجمادات، فقد كان صلى الله عليه وسلم يقول عن جبله المحبوب أحد: ( جبل يحبنا ونحبه ) [14] . وكان صلى الله عليه وسلم ( إذا خطب ، يستند إلى جذع نخلة من سواري المسجد، فلما صنع له المنبر فاستوى عليه، اضطربت تلك السارية كحنين الناقة، حتى سمعها أهل المسجد، حتى نزل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتنقها، فسكنت ) [15] .

      إن التعاطف المطلوب مع البيئة لابد أن يشمل الشواهد الآثارية، التي تنطوي على قيمة تاريخية أو ثقافية، بخاصة حين تجسد الآثار تاريخ الإسلام وحضارته. من هنا تشكل التربية الآثارية لونا آخر من ألوان التربية البيئية.

      2- الاعتدال في الاستخدام وعدم الإسراف:

      خلق الله تعالى كل شيء بقدر: ( صنع الله الذي أتقن كل شيء ) (النمل:88)، ومن هنا فالتلاعب بهذه الصناعة حتى لو بدا مفيدا هو في النهاية يمثل عبثا أو فسادا.. فقد جاء في تقارير الأمم المتحدة أن (80%) من الحيوانات والنباتات، التي تعـيش في المنـاطق المعتدلة في آسيا ودول الجنوب باتت [ ص: 185 ] مهددة بالانقراض، وأن (90%) من الكائنات الحية تعرضت للانقراض نتيجة الاستنزاف البشري..كما تفاقمت ظاهرة التصحر؛ لأسباب عدة.

      ومن هنا فالمبادئ التربوية الأساسية للتعامل مع البيئة تؤكد على منهج الاعتدال في استخدام عناصرها وعدم الاستغلال الجائر أو الإسراف، الذي من شأنه إحداث الخلل في النظام وتجاوز ما يصطلح عليه في الأدب البيئي بـ"الحمولة البيئية"، أي الحد الأقصى لقدرات البيئة.

      لقد نهى الله تعالى في كتابه عن التبذير: ( إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ) (الإسراء:27)، ومنع النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسراف ولو كان في حال الوضوء "على نهر جار" [16] ، فالاعتدال إذن شرط من شروط المحافظة على التوازن البيئي المطلوب: ( والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون * وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين * وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ) (الحجر:19- 21).

      ومن الجدير بالذكر أن التربية الصحية الإسلامية، بوصفها أحد عناصر التربية البيئية، تعتمد المنهج الوقائي وهي تؤكد على النظافة الشاملة للجسد والملبس والمواد والمسكن والشوارع والأمكنة العامة: ( وثيابك فطهر ) (المدثر:4)، و ( إن الله طيب يحـب الطيب، نظيـف يحـب النظـافة ) [17] . [ ص: 186 ]

      ومن التربية الصحية غرس العادات الصحية، والحث على تجنب الممارسات الخاطئة والمضرة كإلقاء الأوساخ في الطرقات أو التغوط أو التبول في غير الأماكن المعدة لذلك. وقد جاء في الحديث الشريف: ( اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل ) [18] .

      كما نهت التعاليم الإسلامية عن تناول المأكولات أو المشروبات الخبيثة أو الضارة كالخمر ولحم الخنزير ونحوها: ( ويحرم عليهم الخبائث ) (الأعراف:157)، إضـافة إلى النـهي عـن تربيـة الكلاب ومعاشرتها من غير ما ضرورة، نظرا لما تنقله هذه الحيوانات من طفيليات وأمراض، ناهيك عن التحريم المطلق للتعامل مع الخنازير.

      وتلتقي التربية البيئة الإسلامية بالتربية الجمالية، التي تحث على العناية بالحدائق وعدم إيذاء الزروع أو قطف الزهور، وتدعو إلى المحافظة على جماليات المدينة وإماطة الأذى عن الطريق وإزالة ما يشوه الشوارع والأمكنة، يقول صلى الله عليه وسلم : ( وتميط الأذى عن الطريق صدقة ) [19] ، فضلا عن منع إقامة المنشآت في غير أماكنها المحددة لها والتي من شأنها تشويه المدينة وتجاوز تخطيطها الحضري المرسوم.

      وفي مجال التربية الآثارية يمكن الحث على حماية الآثار وصيانتها كجزء من التربية البيئية، وربط ذلك بالتاريخ الوطني أو الديني أو الإنساني، واعتبار أي مساس بهذه الثروة المعنوية والمادية مساس بالذات والتراث. [ ص: 187 ]

      ولا شك في أن الآثار، وبخاصة الإسلامية منها تشكل أحد معالم الحضارة الإسلامية، التي يجب المحافظة عليها وعدم التجاوز على مفرداتها بوصفها تعبيرا حيا عن المعاني والذكريات والخصوصية والمعالم الحية للهوية.

      تعليق:

      في الوقت الذي اعتمدت فيه النظم المعاصرة على إصدار القوانين لمعالجة إشكاليات البيئة، نجد الإسلام بهذا الخصوص قد بدأ بغرس القيم والاتجاهات الإيجابية نحو البيئة بجوانبها المختلفة، النباتية والحيوانية والمادية، مع تنمية الوعي وبناء الضمـير البيئي، الذي من شأنه أن يشـكل قـاعـدة للالتزام بالقـوانين وما يتصل بها من تعليمات بحيث تصبح فكرة الرقابة والصيانة والوقاية وعدم الإيذاء والإسراف مدركات حية في وجدان المسلم وضميره، الأمر الذي يولد التآزر والتعاضد والتبادل والتكامل بين التربية والقانون على هذا الصعيد.

      والحقيقة أن المسؤولية البيئية هي محصلة الاستجابات الدالة على معرفة الفرد ووعيه بالبيئة وأنظمتها ومشكلاتها واهتمامه الحساس بضرورة المحافظة عليها، والتعاطف مع مكوناتها، وقيامه بالأعمال اللازمة لصيانتها ورعايتها وعلاج مشكلاتها [20] ، والتزام الشروط السليمة للتعامل معها. وهذا بحد ذاته يشكل دعما وتعضيدا للقانون البيئي وما ينبثق عنه من تعليمات. [ ص: 188 ]

      التالي السابق


      الخدمات العلمية