الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      1- احترام القانون الإسلامي والانقياد إلى أحكامه:

      إن ارتباط القانون بالتربية يساعد كثيرا على جعل القانون موضع احترام ويسهل القبول به والانقياد إلى أحكامه، بصرف النظر عما إذا كان هناك ضغط أو حضور للسلطة أو لم يكن. فالتربية التي تنتج إقناعا بشرعية القانون تؤدي بالضرورة إلى توفير الرضا بما يعززه، بخاصة إذا ما كانت مصادر ذلك القانون دينية.

      لهذا كان القانون الإسلامي يأخذ بعدا قدسيا، الأمر الذي يساعد على تطبيقه دونما عناء، ذلك أن من يؤمن بالقانون الإسلامي لا يفكر عادة بالتهرب من استحقاقاته "ولقد رأينا في عصر النبوة كيف يأتي المؤمن ليسلم نفسه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم طائعا مختارا لتنفيذ عقوبة الشرع على جريمة اقترفها خفية لم تضبطه فيها شرطه ولا أحد قدم شكوى ضده، وإنما هو الذي حملته قدماه [ ص: 189 ] بدافع من إيمانه وحده ليطالب بإلحاح أن يقام عليه حد الله ليلقى ربه يوم القيامة طاهرا" [1] .

      وإذا كان الاقتناع بالتشريع المبني على إدراك فائدته الاجتماعية قد يمنحه فاعلية ما، فإن الإيمان الروحي به هو من العوامل الحاسمة في القبول بأحكامه والخضوع إلى مقرراته.

      فتعالوا لنقارن بين تجربتين قانونيتين كان موضوعهما تحريم الخمر، الأولى حديثة شهدتها أمريكا في العام 1919م حين أصدر الكونجرس قانونا حرمت بموجبه صناعة الخمور وبيعها وتصديرها واستيرادها ونقلها وحيازتها. وفرضت بحق المخالفين عقوبات صارمة، فضلا عن الدعم الذي قدم لهذا القانون إعلاميا، فماذا كانت النتيجة؟

      الواقع أن تطبيق هذا القانون قد لاقى فشلا ذريعا ولم يستطع مشرعوه إقناع الناس وحملهم على الالتزام بمقرراته، الأمر الذي اضطرت معه السلطات بعد سنوات قليلة إلى التراجع عنه وإلغائه.

      أما التجربة الثانية فهي التي شهدها الصدر الأول للإسلام حين تقرر دينيا تحريم الخمر، حيث استطاع المشرع عبر مبدأ التدرج أن يوفر الاستجابة الاجتماعية لذلك القرار وفي شكله النهائي من دون صعوبات تذكر.

      وهذا يفيد بأن العملية التشريعية لكي تكون ناجحة أو أكثر نجاحا لابد أن ترتبط بالتربية، لاسيما إذا ما كان مصدر التوجيه التربوي يملك القوة المعنوية [ ص: 190 ] والتأثير الروحي على الناس، فالانفعال بالتوجيه وفاعلية المتلقي يتوقفان على مدى الإيمان بالمصدر المذكور، وأي ضعف في جانب المصدر أو في إيمان المتلقي من شأنه أن يؤدي إلى إخفاق في الالتزام أو في حسن التطبيق [2] .

      ومن أمثلة الانقياد لأحكام القانون القائم على التربية في صعيدها الإسلامي موضوع الوفاء بالالتزامات المالية، فإذا كان الكثير من المكلفين بدفع الضرائب في ظل النظم الوضعية يتهرب من دفعها بأساليب الكذب والتحايل وغير ذلك من الأساليب، تجد دافع الضرائب المسلم يدفع ما عليه طواعية وبأريحية، ذلك أنه يتعامل مع ضريبة مفروضة شرعا - زكاة أو نحوها- قبل أن تكون مفروضة قانونا.

      ومن الأمثلة الأخرى، أداء الخدمة العسكرية، حيث تضع الكثير من الدول عقوبات على من يتخلف عن الالتحاق بها، ومع ذلك يتهرب الكثيرون بطرق مختلفة عن أدائها. أما الإنسان المؤمن فيؤدي واجبه في الخدمة العسكرية الإسلامية طواعية وربما باندفاع نظرا لكون الخدمة في هذا الإطار تمثل فريضة يتوق إلى أدائها الكبار والصغار، بل حتى بعض النساء ممن يدفعهن الإيمان إلى طلب المشاركة والإسهام بالجهد الحربي. وفي التجربة التاريخية للإسلام كان الرجل وابنه يتنافسان على الالتحاق بالجيش حتى يقترع الاثنان حول أيهما يخرج للجهاد وأيهما يبقى لمباشرة شؤون البيت والأسرة [3] . [ ص: 191 ]

      إذن فالالتزام النابع من الذات، سواء بدفع الزكاة أو الالتحاق بالخدمة العسكرية أو الإسهام بأنشطة التكافل الاجتماعي أو غير ذلك، إنما يساعد كثيرا على احترام القانون وتسهيل تطبيقاته، وبهذا يتجلى أثر الترابط بين التربية والقانون.

      التالي السابق


      الخدمات العلمية