الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                632 633 ص: حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا الحماني ، قال: نا خالد بن عبد الله ، عن سهيل ، عن الزهري ، عن عروة ، عن أسماء بنت عميس، قالت: "قلت: يا رسول الله، إن فاطمة ابنة أبي حبيش استحيضت منذ كذا وكذا فلم تصل، فقال: [ ص: 331 ] سبحان الله، هذا من الشيطان، لتجلس في مركن، ، فإذا رأت صفرة فوق الماء فلتغتسل للظهر والعصر غسلا واحدا، ثم تغتسل للمغرب والعشاء غسلا واحدا، وتتوضأ فيما بين ذلك".

                                                فقوله: "فيما بين ذلك" يحتمل: تتوضأ لما يكون بها من الأحداث التي يوجب بها نقض الطهارات، ويحتمل: تتوضأ للصبح، فليس فيه دليل على خلاف ما تقدمه من حديث شعبة 5 وسفيان. .

                                                قالوا: فهذه الآثار قد رويت عن النبي -عليه السلام- كما ذكرنا في جمع الظهر والعصر بغسل واحد، فبهذا نأخذ، وهي أولى من الآثار الأول التي فيها ذكر الأمر بالغسل لكل صلاة؛ لأنه قد روي ما يدل على أن هذا هو ناسخ لذلك، فذكروا ما:

                                                حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا الوهبي، قال: حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "إن سهلة بنت سهيل بن عمرو ، استحيضت، ، وإن النبي -عليه السلام- كان يأمرها بالغسل عند كل صلاة، فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع الظهر والعصر في غسل واحد، والمغرب والعشاء في غسل واحد، وتغتسل للصبح". .

                                                قالوا: فدل ذلك على أن هذا الحكم ناسخ للحكم الذي في الآثار الأول، لأنه إنما أمر به بعد ذلك، فصار القول به أولى من القول بالآثار الأول.

                                                التالي السابق


                                                ش: حديث أسماء بنت عميس من جملة ما احتجت به أهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه من ثلاث اغتسالات: غسل للظهر والعصر، وغسل للمغرب والعشاء، وغسل للصبح.

                                                ورجال إسناده ثقات، إلا أن يحيى بن عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني فيه كلام كثير؛ ضعفه ناس ووثقه آخرون، ونسبته إلى حمان - بكسر الحاء المهملة وتشديد الميم - قبيلة من تميم.

                                                [ ص: 332 ] وأخرجه أبو داود: نا وهب بن بقية، قال: نا خالد ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن الزهري ... إلى آخره نحوه سواء، إلا أن في لفظه: "فإذا رأت صفارة" وزيادة قوله: "وتغتسل للفجر غسلا"، وبعده قوله: "وتتوضأ فيما بين ذلك" كما في رواية الطحاوي .

                                                وأخرجه الطبراني في "الكبير": عن محمود بن محمد الواسطي ، عن وهب بن بقية، قال: نا خالد ... والباقي مثل رواية أبي داود سواء.

                                                وأخرجه [الدارقطني] في "سننه": نا محمد بن مخلد، نا محمد بن عبد الواحد بن مسلم الصيرفي، ثنا علي بن عاصم ، عن سهيل بن أبي صالح، أخبرني الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن أسماء بنت عميس، قالت: "قلت: يا رسول الله، فاطمة بنت أبي حبيش لم تصل منذ كذا وكذا، قال: سبحان الله، إنما ذلك عرق - فذكر كلمة بعدها - أيام أقرائها، ثم تغتسل وتصلي، وتؤخر من الظهر وتعجل من العصر وتغتسل لهما غسلا واحدا، وتؤخر من المغرب وتعجل من العشاء وتغتسل لهما غسلا وتصلي" وهذا ليس في روايته: "وتغتسل للفجر" مثل رواية الطحاوي، ولا فيها: "وتتوضأ فيما بين ذلك" كما هو في رواية الطحاوي ، وأبي داود .

                                                قوله: "منذ كذا وكذا" منذ: مبني على الضم، كما أن "منذ" مبني على السكون، وكل منهما يكون حرف جر فيجر ما بعده، ويجري مجرى "في" ولا يدخل - حينئذ - إلا على زمان أنت فيه تقول: "ما رأيته منذ الليلة" وتكون اسما فترفع ما بعده على التاريخ أو على التوقيت، فنقول في التاريخ: "ما رأيته منذ يوم الجمعة" أي: أول انقطاع الرؤية يوم الجمعة، وفي التوقيت: "ما رأيته منذ سنة" أي: أمد ذلك سنة.

                                                [ ص: 333 ] و: "كذا" عبارة عن العهد المبهم.

                                                قوله: "سبحان الله" تعجب واستبعاد لفعلها ذلك.

                                                قوله: "هذا من الشيطان" له معنيان:

                                                الأول: مجازي، وهو أنه أنساها أيام حيضها حتى حصل لها تلبس في أمر دينها ووقت طهرها وصلاتها.

                                                والثاني: حقيقي؛ بمعنى أنه ضربها حتى فتق منها عرق الاستحاضة.

                                                قوله: "في مركن" بكسر الميم وهي الإجانة.

                                                ويستفاد منه حكمان:

                                                الأول: وجوب تكرار الغسل كما تقدم قبل هذا.

                                                والثاني: فيه حجة من اعتبر التمييز باللون؛ لأن رؤيتها الصفرة دليل على انقطاع دم الحيض.

                                                قوله: "فقوله له فيما بين ذلك... " إلى آخره كأنه جواب عن سؤال مقدر، تقريره أن يقال: إن حديث أسماء بنت عميس الذي احتججتم به مخالف لأحاديث شعبة والثوري وابن عيينة التي احتججتم بها أولا من وجهين:

                                                الأول: أنه ليس فيها "وتتوضأ فيما بين ذلك".

                                                والثاني: فيها "وتغتسل للفجر"، وليس هذا في حديث أسماء بنت عميس.

                                                فأجاب عنه بقوله: "وتتوضأ فيما بين ذلك، يحتمل أن يكون المراد أنها تتوضأ لما يكون بها من الأحداث التي يوجب بها نقض الطهارات" يعني: إذا أرادت أن تصلي فيما بين الصلوات صلاة أخرى تتوضأ ولا تكتفي بالاغتسال؛ لأنه للفرائض المختصة بالأوقات الخمس، ويحتمل أن يكون المراد: أنها تتوضأ لصلاة الصبح، فعلى كلا التقديرين، ليس فيه دليل على خلاف ما تقدمه من حديث شعبة الذي رواه عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه، عن عائشة: "أن امرأة استحيضت". ولا من

                                                [ ص: 334 ] حديث سفيان وسفيان، وأراد بالأول: سفيان الثوري، وحديثه: عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن القاسم بن محمد ، عن زينب ابنة جحش.

                                                وبالثاني: سفيان بن عيينة، وحديثه: عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه: "أن امرأة استحيضت... " الحديث.

                                                قوله: "فهذه الآثار" أراد بها الآثار التي رواها شعبة وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والزهري ، عن عروة .

                                                قوله: "فبهذا نأخذ" أي: "بما في هذه الآثار، وهذا حكايته عن أهل المقالة الثانية، ثم بين وجه الأخذ بهذه الآثار بقوله: "وهي أولى من الآثار الأول" وهي التي احتجت بها أهل المقالة الأولى التي فيها وجوب الغسل لكل صلاة من الصلوات الخمس؛ وذلك لأنه قد روي عن النبي -عليه السلام- ما يدل على أن هذا ناسخ لتلك الآثار.

                                                ثم أشار إلى الحديث الناسخ لتلك الأحاديث بقوله: "فذكروا ما حدثنا ابن أبي داود.. " إلى آخره، وهو حديث سهلة بنت سهيل.

                                                ثم بين وجه النسخ بقوله: "لأنه إنما أمر به بعد ذلك" أي: لأن النبي -عليه السلام- أمر بما في حديث سهلة بنت سهيل بعد أن أمر بما في الأحاديث الأول، ولا شك أن مثل هذا نسخ؛ لأن النسخ هو رفع الحكم الأول، فلما أمر أولا بالاغتسال لكل صلاة من الصلوات الخمس، ثم أمر بعد ذلك أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل واحد، وبين المغرب والعشاء بغسل واحد، وتصلي الصبح بغسل واحد؛ دل أن هذا رفع حكم الأول.

                                                ورجال هذا الحديث ثقات.

                                                والوهبي هو أحمد بن خالد بن محمد، أحد مشايخ البخاري، نسبه إلى والد عبد الله بن وهب.

                                                [ ص: 335 ] وأخرجه أبو داود: ثنا عبد العزيز بن يحيى، قال: حدثني محمد بن سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها-: "أن سهلة بنت سهيل استحيضت، فأتت النبي -عليه السلام- فأمرها أن تغتسل عند كل صلاة، فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل، والمغرب والعشاء بغسل، وتغتسل للصبح".

                                                قوله: "فلما جهدها" بكسر الهاء، أي فلما شق عليها الاغتسال، من: جهده الشيء - بكسر الهاء - جهدا - بالفتح - والجهد - بالضم - الطاقة، وقيل: هما لغتان في الوسع والطاقة.




                                                الخدمات العلمية