الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما القائلون بقدم العالم فقولهم يستلزم امتناع حدوث حادث، فإن القديم إما واجب بنفسه أو لازم للواجب بنفسه، ولوازم الواجب لا تكون محدثة ولا مستلزمة لمحدث، فالحوادث ليست من لوازمه، وما لا يكون من لوازمه يتوقف وجوده على حدوث سبب حادث، فإذا كان القديم الواجب بنفسه، أو اللازم للواجب، لا يصدر عنه حادث - امتنع حدوث الحوادث، وهذا حقيقة قولهم، فإنهم يزعمون أن العالم له علة قديمة موجبة له، وهو لازم لعلته، وعلته عندهم مستلزمة لمعلولها ومعلول معلولها، فيمتنع أن يحدث شيء في الوجود، إذ الحادث المعين يكون لازما للقديم بالضرورة واتفاق العقلاء.

وإذا قالوا: "يجوز أن يحدث عن الواجب بنفسه حادث بواسطة" قيل: الكلام في تلك الواسطة كالكلام في الأول، فإنها إن كانت قديمة لازمة له لزم قدم المعلولات كلها، وإن كانت حادثة فلا بد لها من سبب حادث.

وإذا قالوا: "كل حادث مشروط بحادث قبله لا إلى أول".

قيل لهم: فليست أعيان الحوادث من لوازم الواجب بنفسه، وإذا كان النوع من لوازم الواجب امتنع وجود الواجب بنفسه بدون النوع، ونوع الحوادث ممكن بنفسه ليس فيه واجب بنفسه، فيكون نوع الحوادث صادرا عن الواجب بنفسه، فلا يجب قدم شيء معين من أجزاء العالم، لا الفلك ولا غيره، وهو نقيض قولهم.

[ ص: 152 ] وإذا قالوا: "نوع الحوادث لازم لجرم الفلك والنفس، وهذان لازمان للعقل، وهو لازم للواجب بنفسه".

قيل لهم: فذاته مستلزمة لنوع الحوادث، سواء كان بوسط أو بغير وسط، والذات القديمة المستلزمة لمعلولها لا يحدث عنها شيء، لا بوسط ولا بغير وسط، سواء كان الحادث نوعا أو شخصا ؛ لأن النوع الحادث يمتنع مقارنته لها، كما تمتنع مقارنة الشخص الحادث لها ؛ لأن النوع الحادث إنما يوجد شيئا فشيئا، والمقارن لها قديم معها لا يوجد شيئا فشيئا، فبطل أن تكون الحوادث صادرة عن علة تامة مستلزمة لنوعها المقترن بعضه ببعض أو شخص منها، فبطل أن يكون العالم صادرا عن علة موجبة له، كما بطل وجوبه بنفسه، وهو المطلوب.

ومما يبين ذلك: أن القديم يستلزم قدم موجبه، أو وجوبه بنفسه، فإن القديم إما واجب بنفسه وإما واجب بغيره، إذ الممكن الذي لا موجب له لا يكون موجودا، فضلا عن أن يكون قديما، بالضرورة واتفاق العقلاء، وإذا كان واجبا بغيره فلا بد أن يكون الموجب له قديما، بالضرورة واتفاق العقلاء، وإذا كان واجبا بغيره فلا بد أن يكون الموجب له قديما، ولا يكون موجبا له حتى تكون شروط الإيجاب قديمة أيضا، فيمتنع أن يكون موجب القديم أو شرط من شروط الإيجاب حادثا ؛ لأن الموجب المقتضي للفاعل المؤثر يمتنع أن يتأخر عن موجبه [ ص: 153 ] الذي هو مقتضاه وأثره، وهذا معلوم بالضرورة، ومتفق عليه بين العقلاء.

وإذا كان كذلك فيمتنع أن يكون جميع العالم واجبا بنفسه، إذ لو كان كذلك لم يكن في الموجودات ما هو حادث، لأن الحادث كان معدوما، وهو مفتقر إلى محدث يحدثه، فضلا عن أن يكون واجبا بنفسه.

فثبت أن في العالم ما ليس بواجب، والواجب بغيره لا بد له من موجب تام مستلزم لموجبه، والموجب التام لا يتأخر عنه شيء من موجبه ومقتضاه، فيمتنع صدور الحوادث عن موجب تام، كما يمتنع أن تكون هي واجبة بنفسها، وإذا لم تكن واجبة ولا صادرة عن علة موجبة فلا بد لها من فاعل ليس موجبا بذاته، وإذا كان غاية ما يقولون: إن العالم صادر عن علة موجبة بنفسها بغير واسطة أو بوسائط لازمة لتلك العلة، فعلى هذا التقدير: يمتنع حدوث الحوادث عنه، فإن لم يكن للحوادث فاعل غيره، وإلا لزم حدوثها بلا محدث، وهذا معلوم الفساد بالضرورة.

فتبين أن للحوادث محدثا ليس هو مستلزما لموجبه ومقتضاه، فامتنع أن يكون محدث الحوادث علة مستلزمة لمعلولها، أو أن يكون شيئا من [ ص: 154 ] معلولاتها، وهم يقولون: إن العالم صادر عن علة مستلزمة لمعلولها، وكل ما سواها معلول لها، وهذا مما تبين بطلانه بالضرورة.

التالي السابق


الخدمات العلمية