الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وبالجملة فهذه بحوث لفظية سمعية، لا عقلية، وليس هذا موضعها.

وأما قيام الأكوان به على التعاقب، وقيام ما أحالوا قيامه به، فهم يفرقون بين ما جوزوه ومنعوه بما يفرق به مثبتة الصفات بين ما وصفوه به وبين ما منعوه، فكما أنهم يصفونه بصفات الكمال فلا يلزمهم أن يصفوه بغيرها، فكذلك هؤلاء يقولون، فإن صح الفرق وإلا كانوا متناقضين.

ومن المعلوم أن الله تعالى لما وصف بالسمع والبصر - كما دلت عليه النصوص - ألزمت النفاة لأهل الإثبات إدراك الشم والذوق واللمس، فمن الناس من طرد القياس، ومنهم من فرق بين الثلاثة والاثنين، ومنهم من فرق بين إدراك اللمس، وإدراك الشم والذوق، لكون النصوص أثبتت الثلاثة دون الاثنين.

فإذا قال المعتزلة البصريون والقاضي أبو بكر وأبو المعالي وغيرهما ممن يصفه بالإدراكات الخمسة، لمن لم يصفه إلا باثنين أو ثلاثة: يلزمكم [ ص: 201 ] طرد القياس، لزمهم إما الفرق وإلا كانوا متناقضين، ولم يكن هذا دليلا على إبطال اتصافه بالسمع والبصر، كذلك إذا قال من جعل الإدراكات الخمسة تتعلق به، كما فعله هؤلاء ومن وافقهم، كالقاضي أبي يعلى ونحوه لمن أثبت الرؤية: يلزمكم أن تصفوه بتعلق السمع والشم والذوق واللمس به، كما قلتم في الرؤية، كانوا أيضا على طريقين: منهم من يذكر الفرق، ومنهم من يفرق بين اللمس وغيره، لمجيء النصوص بذلك دون غيره.

قال أبو المعالي في " إرشاده ": "فإن قيل: قد وصفتم الرب تعالى بكونه سميعا بصيرا، والسمع والبصر إدراكان، ثم ثبت شاهدا إدراكات سواهما: إدراك يتعلق بقبيل الطعوم، وإدراك يتعلق بقبيل الروائح، وإدراك يتعلق بالحرارة والبرودة واللين والخشونة، فهل تصفون الرب تعالى بأحكام هذه الإدراكات أم تقتصرون على وصفه بكونه سميعا بصيرا؟

قلنا: الصحيح المقطوع به عندنا: وجوب وصفه بأحكام الإدراك، إذ كل إدراك ينفيه ضد فهو آفة فما دل على وجوب [ ص: 202 ] وصفه بحكم السمع والبصر، فهو دال على وجوب وصفه بأحكام الإدراك، ثم يتقدس الرب تعالى عن كونه شاما ذائقا لامسا: فإن هذه الصفات منبئة عن ضروب من الاتصالات، والرب يتعالى عنها، وهي لا تنبئ عن حقائق الإدراكات، فإن الإنسان يقول: شممت تفاحة فلم أدرك ريحها، ولو كان الشم دالا على الإدراك لكان ذلك بمثابة قول القائل: أدركت ريحها، ولم أدركه، وكذلك القول في الذوق واللمس".

قلت: ولا يلزم من تناقض هؤلاء - إن كانوا متناقضين - نفي الرؤية التي تواترت بها النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقلت: وأما تعاقب الحوادث: فهم نفوه، بناء على امتناع حوادث لا أول لها، فإن صح هذا الفرق وإلا لزمهم طرد الجواز، كما طرده غيرهم ممن لا يمنع ذلك. [ ص: 203 ]

وأما حدوث القدرة والعلم فنفوهما ؛ لأن عدم ذلك يستلزم النقص، لعموم تعلق العلم والقدرة، بخلاف الإرادة والكلام، فإنه لا عموم لهما، فإنه سبحانه لا يتكلم إلا بالصدق، لا يتكلم بكل شيء، ولا يريد إلا ما يسبق علمه به، لا يريد كل شيء، بخلاف العلم والقدرة، فإنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير.

وهذا كما فرقت المعتزلة بين هذا وهذا، فقالوا: إن له إرادة حادثة وكلاما حادثا، ولم يقولوا: له عالمية حادثة وقادرية حادثة، فالسؤال على الفريقين جميعا. فإن صح الفرق، وإلا كانوا متناقضين. وقد أثبت غيرهم قيام علم بالموجود بعد وجوده، ولم يجعل ذلك عين العلم المتعلق به قبل وجوده، كما دل على ذلك ظاهر النصوص.

وقد أثبت ذلك من أهل الكلام والفلسفة طوائف، كأبي الحسين البصري وأبي البركات وغيرهم، وغير المتقدمين مثل هشام بن الحكم وأمثاله، ومثل جهم. والمفرق - إن صح فرقه - وإلا لزم تناقضه.

وقيام الأكوان به نفوه ؛ لأنها هي دليلهم على حدوث العالم كما استدلت بذلك المعتزلة، وهم يقولون: المتصف بالأكوان لا يخلو منها.

وهذا معلوم بالبديهة كما بينه الأستاذ أبو المعالي في أول كلامه، وقال: "نفرض الكلام في الأكوان ؛ فإن القول فيها يستند [ ص: 204 ] إلى الضرورة، فإذا كان من المعلوم بالضرورة: أن القابل للأكوان لا يخلو عنها، فلو وصفوه بالأكوان للزم أن لا يخلو عنها، وهم يقولون بامتناع تسلسل الحوادث، ويقولون: ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، كما يوافقهم على ذلك أبو المعالي وأمثاله، فإن كان هذا الفرق صحيحا بطل الإلزام وصح فرقهم، وإن لم يكن هذا الفرق صحيحا لم يكن في ذلك حجة للمنازع لهم، بل يقول القائل: كلاكما مخطئ، حيث قلتم بامتناع دوام الحوادث وتسلسلها.

ومعلوم أن هذا كلام متين لا جواب عنه، فإن فرقهم بين الأكوان وغيرها هو العلم الضروري من الجميع بأن القابل للأكوان لا يخلو منها، فما قبل الحركة والسكون لم يخل من أحدهما، فهذا هو محيصهم عما ألزمهم به، فإن كانت الأكوان كغيرها في أن القابل للشيء لا يخلو عنه ضده فقد ثبت تناقضهم إذا كان قابلا لها، وإن لم تكن مثل غيرها - كما تقوله المعتزلة - صح فرقهم. وهم يدعون أنه ليس قابلا لها، كما قد وافقهم على ذلك المعتزلة والأشعرية.

فإذا قال المعترض عليهم: يجب على أصلهم أن يكون قابلا لها، لأنهم يصفونه بكونه متحيزا، وكل متحيز جسم وجرم، قيل: هذا كما تقوله المعتزلة للأشعرية: يلزمكم إذا قلتم إن له حياة وعلما وقدرة: أن يكون متحيزا، لأنه لا يعقل قيام هذه الصفات إلا بمتحيز، ويقولون: [ ص: 205 ] إنه لا يعقل موصوف بالعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة إلا ما هو جسم ؛ فإذا وصفتموه بهذه الصفات لزمكم أن يكون جسما.

فإذا قال هؤلاء للمعتزلة: قد اتفقنا نحن وأنتم على أنه حي عليم قدير، وليس بمتحيز ولا جسم، فإذا عقلنا موجودا حيا عليما قديرا ليس بجسم عقلنا حياة وعلما وقدرة لا تقوم بجسم، قالوا: وأنتم وافقتمونا على أنه حي عليم قدير، وإثبات حي عليم قدير بلا حياة ولا علم ولا قدرة مكابرة للعقل واللغة والشرع.

قالت الكرامية لهؤلاء: قد اتفقنا نحن وأنتم على أنه موصوف بالحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك من الصفات، مع اتفاقنا نحن وأنتم على أنه لا يتصف بالأكوان، فهكذا إذا جوزنا عليه أن يسمع أصوات عباده حين يدعونه، ويراهم بعد أن يخلقهم، ويغضب عليهم إذا عصوه، ويحب العبد إذا تقرب إليه بالنوافل، ويكلم موسى حين أتى الوادي، ويحاسب خلقه يوم القيامة، ونحو ذلك مما دلت عليه النصوص، لم يلزمنا مع ذلك أن نجوز عليه حدوث الأكوان.

ومن تدبر كلام هؤلاء الطوائف - بعضهم مع بعض - تبين له أنهم لا يعتصمون فيما يخالفون به الكتاب والسنة إلا بحجة جدلية يسلمها بعضهم لبعض، وآخر منتهاهم: حجة يحتجون بها في إثبات حدوث العالم لقيام أكوان به أو الأعراض، ونحو ذلك من الحجج التي هي [ ص: 206 ] أصل الكلام المحدث، الذي ذمه السلف والأئمة وقالوا: إنه جهل، وإن حكم أهله "أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام" ولكن من عرف حقائق ما انتهى إليه هؤلاء الفضلاء الأذكياء ازداد بصيرة وعلما ويقينا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وبأن ما يعارضون به الكتاب والسنة من كلامهم الذي يسمونه عقليات: هي من هذا الجنس الذي لا ينفق إلا بما فيه من الألفاظ المجملة المشتبهة، مع من قلت معرفته بما جاء به الرسول وبطرق إثبات ذلك، ويتوهم أن بمثل هذا الكلام يثبت معرفة الله وصدق رسله، وأن الطعن في ذلك طعن فيما به يصير العبد مؤمنا، فيتعجل رد كثير مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لظنه أنه بهذا الرد يصير مصدقا للرسول في الباقي.

وإذا أنعم النظر تبين له أنه كلما ازداد تصديقا لمثل هذا الكلام ازداد نفاقا وردا لما جاء به الرسول، وكلما ازداد معرفة بحقيقة هذا الكلام وفساده ازداد إيمانا وعلما بحقيقة ما جاء به الرسول، ولهذا قال من قال من الأئمة: "قل أحد نظر في الكلام إلا تزندق وكان في قلبه غل على أهل الإسلام" بل قالوا: "علماء الكلام زنادقة".

ولهذا قيل: إن حقيقة ما صنفه هؤلاء في كتبهم من الكلام [ ص: 207 ] الباطل المحدث المخالف للشرع والعقل هو: ترتيب الأصول في تكذيب الرسول، ومخالفة صريح المعقول وصحيح المنقول، ولولا أن هؤلاء القوم جعلوا هذا علما مقولا ودينا مقبولا، يردون به نصوص الكتاب والسنة، ويقولون: إن هذا هو الحق الذي يجب قبوله، دون ما عارضه من النصوص الإلهية والأخبار النبوية، ويتبعهم على ذلك من طوائف أهل العلم والدين ما لا يحصيه إلا الله: لاعتقادهم أن هؤلاء أحذق منهم وأعظم تحقيقا، لم يكن بنا حاجة إلى كشف هذه المقالات، مع أن الكلام هنا لا يحتمل إلا الاختصار.

التالي السابق


الخدمات العلمية