الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما النزاع المعنوي فهو أنه: هل يعقل انقضاء ما يقدر أنه لا بداية له ولا ينتهي من جهة مبدئه أو لا؟ ولا ريب أن المستدل لم يذكر دليلا على امتناع انقضاء ذلك، لكن أخذ لفظ "ما لا يتناهى" ولفظ "ما لا يتناهى" فيه إجمال، فقد يعني به ما لا يتناهى في المستقبل من جهة آخره، فإذا قيل: "إن هذا ينقضي" كان [ ص: 371 ] ذلك جمعا بين النقيضين، وقد يعني به ما لا بداية له، وهو ينازع في إمكان ذلك، لأنه حينئذ يكون له نهاية بلا بداية، وكأنه يقول: ما له نهاية فلا بد له من بداية، ومنازعوه يقولون: هذا مسلم في الأشخاص، فكل شخص ينتهي فلا بد له من مبدأ، إذ لو لم يكن له مبدأ لكان قديما، وما وجب قدمه امتنع عدمه كما سيأتي، وينازعونه في النوع، ويقولون: يمكن أن يقال: إن الله لم يزل يفعل شيئا بعد شيء.

وسيأتي إن شاء الله كلام الرازي على إفساد هذه الحجة التي ذكرها ههنا على تناهي الحوادث بكلام لم يذكر عنه جوابا.

قال الرازي: وإن كان الجسم في الأزل ساكنا كان ذلك ممتنعا ؛ "لأن" السكون وجودي، وكل وجودي أزلي فإنه يمتنع زواله.

والمنازع نازعه في كون السكون وجوديا، ولم ينازعه في أن الوجود الأزلي يمتنع زواله، وقد قرر ذلك الرازي بأن القديم إما واجب بذاته أو ممكن يكون مؤثرة بذاته، سواء كان تأثيره بنفسه أو بشرط لازم [ ص: 372 ] له، ولا يحتاج إلى هذا، بل يقال: القديم إن كان واجبا بنفسه امتنع عدمه، وإن لم يكن كذلك فالمقتضى له - سواء سمى موجبا أو مختارا - إما أن يتوقف اقتضاؤه له على شرط محدث أو لا، والثاني ممتنع، فإن القديم لا يتوقف على شرط محدث، إذ لو توقف عليه لكان القديم مع المحدث أو بعده، وإذا لم يتوقف على شرط محدث لزم أن يكون قد وجد المقتضى التام المستلزم له في الأزل، وحينئذ فيجب دوامه بدوام المقتضى التام، ثم كون القديم لا يكون مقتضيه له اختيار: فيه كلام ونزاع ليس هذا موضعه، والمقصود هنا: أن منازعه نازعه في كون السكون وجوديا.

وقد احتج عليه الرازي بأن "تبدل حركة الجسم الواحد بالسكون وبالعكس، يقتضي كون أحدهما وجوديا ؛ لأن رفع العدم ثبوت، فيكون الآخر وجوديا ؛ لأن الحركة هي: الحصول في حيز مسبوقا بالحصول في الآخر، والسكون هو: الحصول في حيز مسبوقا بالحصول فيه، فاختلافهما إنما هو بالمسبوقية بالغير، وإنها وصف عرضي لا يمنع اتحاد الماهية، فيلزم كونهما وجوديين".

التالي السابق


الخدمات العلمية