الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإذا قيل بأن الحادث لم يزل ممكنا، وأن صحته وإمكانه أزليته، كان معناه أن ما كان مسبوقا بالعدم يمكن أن يكون أزليا، والأزلي لا يكون مسبوقا بالعدم، فكان معناه أن ما يجب أن يكون حادثا يمكن أن يكون قديما، وما يجب كونه مسبوقا بالعدم يجوز أن يكون أزليا غير مسبوق بالعدم، وهذا جمع بين النقيضين.

فإذا قيل: الحادث المعين إمكانه هل هو أزلي أو حادث؟

قيل: بل هو حادث، فإن كون الحادث المعين في الأزل ممتنع لذاته، وهذا الممتنع لا يكون قط، ولكن حدثت أسباب أوجبت إمكان حدوثه، فكان إمكان حدوثه ممكنا، كوجود الولد المشروط بوجود والده، فإن كونه ابن فلان يستلزم وجود فلان، ويمتنع أن يكون وجود ابن فلان موجودا قبل وجود فلان، والممتنع لذاته لا يكون مقدورا، وتجدد القادرية بتجدد إمكان المقدور ليس ممتنعا، فإن الجميع حاصل بمشيئة الرب وقدرته، وهو سبحانه بما يحدثه بمشيئته وقدرته يجعل المعدوم موجودا، فيجعل ما لم يكن ممكنا مقدورا يصير ممكنا مقدورا، وهذا مبسوط في موضع آخر.

والمقصود شرح مراد الأرموي، فإذا أراد بالفرق الفرق بين صحة [ ص: 215 ] الأزلية وأزلية الصحة، كان معنى كلامه: إن صح هذا الفرق بطل الدليل، فإنه يقول في الحوادث المقبولة ما يقال في الحوادث المنفصلة من الفرق بين صحة أزليتها وأزلية صحتها، لكن لو أراد بالفرق هذا لم يستقم قوله: "إن هذا الفرق إن صح أعني عن الدليل السابق" بل هذا الفرق إن صح بطل الدليل المذكور، فهذا يرجح أنه أراد بالفرق بين القادر والقابل، فيكون قد ذكر ثلاثة أجوبة، نقول إن صح الفرق بينهما بأن القابل يستلزم وجود المقبول في الأزل دون القادر، فهذا الفرق يغني عن الدليل، وإن لم يصح هذا الفرق انتقض الدليل بالقادر.

الوجه الثاني: أنه إن صح الفرق بين المقدور والمقبول بأن المقدور يجب تأخره عن القدرة، والمقبول لا يجب ذلك فيه، كان هذا وحده دليلا على وجوب حصول الحادث في الأزل إذا كان قابلا له، وحينئذ فلا حاجة إلى أن يستدل على ذلك بما ذكره من النسبة إن كان الفرق صحيحا، وإن لم يكن صحيحا صح النقض به.

الثالث: أن الدليل المذكور يوجب وجود المقدور في الأزل ؛ لأن القادرية على الشيئين نسبة بينهما، والنسبة بين الشيئين متوقفة عليهما، فإن صح الفرق بين المقدور والمقبول - مع أن الدليل يتناولهما جميعا وينفي [ ص: 216 ] الفرق - لزم بطلان الدليل، فيلزم بطلان مقدمة الدليل أو انتقاضه، وكلاهما مبطل له، وهذا بين.

قال الرازي: "الثالث قول الخليل: لا أحب الآفلين [ سورة الأنعام: 67] يدل على أن المتغير لا يكون إلها".

ولقائل أن يقول: إن كان الخليل صلى الله تعالى عليه وسلم احتج بالأفول على نفي كونه رب العالمين، لزم أنه لم يكن ينفي عنه حلول الحوادث ؛ لأن الأفول هو المغيب والاحتجاب باتفاق أهل التفسير واللغة، وهو مما يعلم من اللغة اضطرارا، وهو حين بزغ قال: "هذا ربي" فإذا كان من حين بزوغه إلى حال أفوله لم ينف عنه الربوبية دل على أنه لم يجعل حركته منافية لذلك، وإنما جعل المنافي الأفول، وإن كان الخليل صلى الله عليه وسلم إنما احتج بالأفول على أنه لا يصلح أن يتخذ ربا يشرك به، ويدعى من دون الله، فليس فيه تعرض لأفعال الله تعالى، فقصة الخليل إما أن تكون حجة عليهم، أو لا لهم ولا عليهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية