الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومضمون ما ذكروه دور في الاستدلال، فلا يكون استدلالا صحيحا، فإنه إذا قدر علل ومعلولات متعاقبة وأثبت امتناع ذلك، لأن الحادث لا يكون أزليا، لزم أن هذه العلل محدثة.

فيقال له: فلم لا يجوز أن يكون استناد الممكنات إلى علل محدثة، فلا بد أن يقول على طريقته: إن المحدث ممكن، والممكن يفتقر إلى علة، وعلته لا تكون محدثة، فيكون حقيقة كلامه: المحدث يفتقر إلى محدث، لأن المحدث يفتقر إلى محدث، إذ كان حقيقة ما يقوله: إن المحدث لا بد له من علة، لأنه ممكن فيفتقر إلى مرجح، ومرجحه لا يكون محدثا، لأن المحدث ممكن، لا بد له من علة.

وإن غير العبارة فقال: هذا الممكن لا بد له من علة، والعلة لا تكون ممكنة، لأن الممكن لا بد له من علة. كان قد قال: الممكن له علة، لأن الممكن له علة، وكل ذلك إثبات الشيء بنفسه. [ ص: 198 ]

والمقصود هنا أن ما ذكر من امتناع التسلسل في العلل يشمل ما إذا قدرت متعاقبة كما إذا قدرت مقترنة، وأنه حينئذ يكون الاجتماع معلولا للأفراد، وإذا كان كل من الأفراد ممكنا لا يوجد بنفسه والاجتماع معلولا لها، كان أولى أن يكون ممكنا لا يوجد بنفسه، ولا يوجد ممكن بممكن لا موجد له، فإن ما لم يوجد نفسه أولى أن لا يوجد غيره، فإذا لم يكن في الآحاد ما يوجد نفسه كان أولى أن لا يوجد غيره، لا الجملة ولا غيرها من الآحاد.

يبين هذا أن الممكن لا يوجد بنفسه بل لا يوجد إلا بغيره، فإذا قدر أن ثم ممكنات موجودة، سواء كانت عللا أو لم تكن، وسواء كانت متناهية أو غير متناهية، لم يكن فيها شيء وجد بنفسه، فإذا كان المجموع لا يوجد إلا بها، وليس فيها شيء موجود بنفسه، لم يكن في جميع ما ذكر ما يوجد بنفسه لا جملة ولا تفصيلا، وإذا وجد ما لا يوجد بنفسه لم يوجد إلا بغيره.

ألا ترى أنه لو قال: الحوادث لا توجد بنفسها، لم يكن فرق بين الحوادث التي لها نهاية والتي لا نهاية لها، بل كل من الحوادث التي لا تتناهى لا يوجد بنفسه، بل لا بد له من محدث.

والذهن إذا قدر ممكنات محصورة، ومحدثات محصورة، ليس لها [ ص: 199 ] محدث ولا مبدع، علم امتناع ذلك، فإذا قدرها تتناهى، لم تكن هذه الحال توجب استغناءها عن المحدث المبدع، وتجعلها غنية عن مبدع خارج عنها، بل كلما كثر ذلك كان أولى بالحاجة إلى المبدع، فما لا يوجد بنفسه إذا ضم إليه ما لا يوجد بنفسه مرات متناهية أو غير متناهية، كان ذلك مثل ضم المعدومات بعضها إلى بعض، وذلك لا يغني عنها شيئا، بل المعدومات لا تفتقر حال عدمها إلى فاعل، وأما هذه التي لا بد لها من فاعل، إذا كثرت، كان احتياجها إلى الفاعل أوكد وأقوى، وتسلسل الممكنات لا يخرجها عن طبيعة الإمكان الموجب لفقرها إلى المبدع، كما أن طبيعة الحدوث لا تخرج المحدثات عن طبيعة الحدوث الموجبة لفقرها إلى الفاعل.

التالي السابق


الخدمات العلمية