الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  صفحة جزء
                                                                  2676 - حدثنا محمد بن أحمد بن البراء ، ثنا عبد المنعم بن [ ص: 59 ] إدريس بن سنان ، عن أبيه ، عن وهب بن منبه ، عن جابر بن عبد الله ، وعبد الله بن عباس في قول الله عز وجل : إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ، قال : لما نزلت قال محمد صلى الله عليه وسلم : " يا جبريل نفسي قد نعيت " . قال جبريل عليه السلام : الآخرة خير لك من الأولى ، ولسوف يعطيك ربك فترضى . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا أن ينادي بالصلاة جامعة ، فاجتمع المهاجرون والأنصار إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم صعد المنبر ، فحمد الله عز وجل وأثنى عليه ، ثم خطب خطبة وجلت منها القلوب وبكت العيون ، ثم قال : " أيها الناس أي نبي كنت لكم ؟ " فقالوا : جزاك الله من نبي خيرا ؛ فلقد كنت بنا كالأب الرحيم ، وكالأخ الناصح المشفق ، أديت رسالات الله عز وجل وأبلغتنا وحيه ، ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ، فجزاك الله عنا أفضل ما جازى نبيا عن أمته . فقال لهم : " معاشر المسلمين ، أنا أنشدكم بالله وبحقي عليكم ، من كانت له قبلي مظلمة فليقم فليقتص مني . فلم يقم إليه أحد ، فناشدهم الثانية ، فلم يقم إليه أحد ، فناشدهم الثالثة : معاشر المسلمين أنشدكم بالله وبحقي عليكم من كانت له قبلي مظلمة فليقم فليقتص مني قبل القصاص في القيامة " . فقام من بين المسلمين شيخ كبير يقال له عكاشة ، فتخطى المسلمين حتى وقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : فداك أبي وأمي ، لولا أنك ناشدتنا مرة بعد أخرى ما كنت بالذي يقدم على شيء من هذا ، كنت معك في غزاة ، فلما فتح الله عز وجل علينا ونصر نبيه صلى الله عليه وسلم وكنا في الانصراف حاذت ناقتي ناقتك فنزلت عن الناقة ، ودنوت منك لأقبل [ ص: 60 ] فخذك ، فرفعت القضيب فضربت خاصرتي ، ولا أدري أكان عمدا منك ، أم أردت ضرب الناقة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعيذك بجلال الله أن يتعمدك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالضرب ، يا بلال انطلق إلى منزل فاطمة وائتني بالقضيب الممشوق " . فخرج بلال من المسجد ويده على أم رأسه ، وهو ينادي : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي القصاص من نفسه . فقرع الباب على فاطمة ، فقال : يا بنت رسول الله ناوليني القضيب الممشوق . فقالت فاطمة : يا بلال وما يصنع أبي بالقضيب وليس هذا يوم حج ولا يوم غزاة ؟ فقال : يا فاطمة ما أغفلك عما فيه أبوك ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يودع الدين ويفارق الدنيا ، ويعطي القصاص من نفسه . فقالت فاطمة رضي الله عنها : يا بلال ومن ذا الذي تطيب نفسه أن يقتص من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ يا بلال فقل للحسن والحسين يقومان إلى هذا الرجل فيقتص منهما ، ولا يدعانه يقتص من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فدخل بلال المسجد ، ودفع القضيب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم القضيب إلى عكاشة ، فلما نظر أبو بكر وعمر رضي الله عنهما إلى ذلك ، قاما فقالا : يا عكاشة هذان نحن بين يديك فاقتص منا ، ولا تقتص من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : " امض يا أبا بكر وأنت يا عمر ، فامض فقد عرف الله مكانكما ومقامكما " . فقام علي بن أبي طالب ، فقال : يا عكاشة أنا في الحياة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا تطيب نفسي أن يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذا ظهري وبطني ، اقتص مني بيدك واجلدني مئة ، ولا تقتص من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا علي اقعد فقد عرف الله عز وجل مقامك ونيتك " . وقام الحسن والحسين رضي الله عنهما فقالا : يا عكاشة أليس تعلم أنا سبطا رسول الله ؟ فالقصاص منا كالقصاص من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال لهما صلى الله عليه وسلم : " اقعدا يا قرة عيني ، لا نسي الله لكما هذا المقام " . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا عكاشة اضرب إن كنت ضاربا " . فقال : يا رسول الله ، ضربتني وأنا حاسر عن بطني . فكشف [ ص: 61 ] عن بطنه صلى الله عليه وسلم ، وصاح المسلمون بالبكاء ، وقالوا : أترى عكاشة ضارب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فلما نظر عكاشة إلى بياض بطن رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه القباطي ، لم يملك أن كب عليه وقبل بطنه ، وهو يقول : فداء لك أبي وأمي ، ومن تطيق نفسه أن يقتص منك ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " إما أن تضرب ، وإما أن تعفو " . فقال : قد عفوت عنك رجاء أن يعفو الله عني في القيامة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من أراد أن ينظر إلى رفيقي في الجنة فلينظر إلى هذا الشيخ " . فقام المسلمون ، فجعلوا يقبلون ما بين عيني عكاشة ، ويقولون : طوباك طوباك ، نلت الدرجات العلى ومرافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه ، فكان مريضا ثمانية عشر يوما يعوده الناس ، وكان صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين ، وبعث يوم الاثنين ، وقبض يوم الاثنين ، فلما كان في يوم الأحد ثقل في مرضه ، فأذن بلال بالأذان ، ثم وقف بالباب فنادى : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله ، الصلاة رحمك الله . فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت بلال ، فقالت فاطمة رضي الله عنها : يا بلال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم مشغول بنفسه . فدخل بلال المسجد ، فلما أسفر الصبح ، قال : والله لا أقيمها أو أستأذن سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم . فرجع فقام بالباب ونادى : السلام عليك يا رسول ورحمة الله وبركاته ، الصلاة يرحمك الله . فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت بلال ، فقال : " ادخل يا بلال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشغول بنفسه ، مر أبا بكر يصل بالناس " . فخرج ويده على أم رأسه ، وهو يقول : واغوثا بالله ، وانقطاع رجائه ، وانقطاع رجائه ، وانقصام ظهري ، ليتني لم تلدني أمي ، وإذ ولدتني لم أشهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا اليوم . ثم قال : يا أبا بكر ، ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تصلي بالناس . فتقدم أبو بكر رضي الله عنه للناس ، وكان رجلا رقيقا ، فلما نظر إلى خلوة المكان من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتمالك أن خر مغشيا عليه ، وصاح المسلمون بالبكاء ، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ضجيج الناس ، فقال : " ما هذه الضجة ؟ " ، قالوا : ضجة المسلمين لفقدك يا رسول الله . فدعا النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب [ ص: 62 ] وابن عباس رضي الله عنهما ، فاتكأ عليهما ، فخرج إلى المسجد ، فصلى بالناس ركعتين خفيفتين ، ثم أقبل بوجهه المليح عليهم ، فقال : " يا معشر المسلمين ، أستودعكم الله ، أنتم في رجاء الله وأمانه ، والله خلفتي عليكم ، معاشر المسلمين ، عليكم باتقاء الله وحفظ طاعته من بعدي ، فإني مفارق الدنيا ، هذا أول يوم من الآخرة ، وآخر يوم من أيام الدنيا " . فلما كان يوم الاثنين اشتد به الأمر ، وأوحى الله عز وجل إلى ملك الموت صلى الله عليه وسلم أن اهبط إلى حبيبي وصفيي محمد صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة ، وارفق به في قبض روحه ، فهبط ملك الموت صلى الله عليه وسلم ، فوقف بالباب شبه أعرابي ، ثم قال : السلام عليكم يا أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، أدخل ؟ فقالت عائشة رضي الله عنها لفاطمة : أجيبي الرجل . فقالت فاطمة : آجرك الله في ممشاك يا عبد الله ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشغول بنفسه . فدعا الثانية ، فقالت عائشة : يا فاطمة أجيبي الرجل . فقالت فاطمة : آجرك الله في ممشاك يا عبد الله ، إن رسول الله مشغول بنفسه . ثم دعا الثالثة : السلام عليكم يا أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، أأدخل ؟ فلابد من الدخول . فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت ملك الموت صلى الله عليه وسلم ، فقال : " يا فاطمة من بالباب ؟ " فقالت : يا رسول الله ، إن رجلا بالباب يستأذن في الدخول ، فأجبناه مرة بعد أخرى ، فنادى في الثالثة صوتا اقشعر منه جلدي ، وارتعدت فرائصي . فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : " يا فاطمة ، أتدرين من بالباب ؟ هذا هادم اللذات ، ومفرق الجماعات ، هذا مرمل الأزواج ، وموتم الأولاد ، هذا مخرب الدور ، وعامر القبور ، هذا ملك الموت صلى الله عليه وسلم ، ادخل رحمك الله يا ملك الموت " . فدخل ملك الموت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا ملك الموت ، جئتني زائرا أم قابضا ؟ " قال : جئتك زائرا وقابضا ، وأمرني الله عز وجل أن لا أدخل عليك إلا بإذنك ، ولا أقبض روحك إلا بإذنك ، فإن أذنت وإلا رجعت إلى ربي عز وجل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا ملك الموت ، أين خلفت حبيبي جبريل ؟ " قال : خلفته في السماء الدنيا والملائكة [ ص: 63 ] يعزونه فيك ، فما كان بأسرع أن أتاه جبريل عليه السلام ، فقعد عند رأسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا جبريل ، هذا الرحيل من الدنيا ، فبشرني ما لي عند الله " ؟ قال : أبشرك يا حبيب الله أني قد تركت أبواب السماء قد فتحت ، والملائكة قد قاموا صفوفا صفوفا بالتحية والريحان يحيون روحك يا محمد . فقال : " لوجه ربي الحمد ، وبشرني يا جبريل " . قال : أبشرك أن أبواب الجنان قد فتحت ، وأنهارها قد اطردت ، وأشجارها قد تدلت ، وحورها قد تزينت لقدوم روحك يا محمد . قال : " لوجه ربي الحمد ، فبشرني يا جبريل " . قال : أنت أول شافع وأول مشفع في القيامة . قال : " لوجه ربي الحمد " . قال جبريل : يا حبيبي ، عم تسألني ؟ قال : " أسألك عن غمي وهمي ، من لقراء القرآن من بعدي ؟ من لصوم شهر رمضان من بعدي ؟ من لحاج بيت الله الحرام من بعدي ؟ من لأمتي المصفاة من بعدي ؟ " قال : أبشر يا حبيب الله ، فإن الله عز وجل يقول : قد حرمت الجنة على جميع الأنبياء والأمم حتى تداخلها أنت وأمتك يا محمد . قال : " الآن طابت نفسي ، إذن يا ملك الموت فانته إلى ما أمرت " . فقال علي رضي الله عنه : يا رسول الله ، إذا أنت قبضت فمن يغسلك ؟ وفيم نكفنك ؟ ومن يصلى عليك ؟ ومن يدخل القبر ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا علي أما الغسل فاغسلني أنت ، والفضل بن عباس يصب عليك الماء ، وجبريل عليه السلام ثالثكما ، فإذا أنتم فرغتم من غسلي فكفنوني في ثلاثة أثواب جدد ، وجبريل عليه السلام يأتيني بحنوط من الجنة ، فإذا أنتم وضعتموني على السرير فضعوني في المسجد واخرجوا عني ، فإن أول من يصلي علي الرب عز وجل من فوق عرشه ، ثم جبريل عليه السلام ، ثم ميكائيل ، ثم إسرافيل عليهما السلام ، ثم الملائكة زمرا زمرا ، ثم ادخلوا ، فقوموا صفوفا لا يتقدم علي أحد " . فقالت فاطمة رضي الله تعالى عنها : اليوم الفراق ، فمتى ألقاك ؟ فقال لها : " يا بنية ، تلقينني يوم القيامة عند الحوض وأنا أسقي من يرد على الحوض من أمتي " . قالت : فإن لم ألقك يا رسول الله ؟ [ ص: 64 ] قال : " تلقيني عند الميزان وأنا أشفع لأمتي " . قالت : فإن لم ألقك يا رسول الله ؟ قال : " تلقيني عند الصراط وأنا أنادي ربي سلم أمتي من النار " . فدنا ملك الموت صلى الله عليه وسلم يعالج قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما بلغ الروح الركبتين ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أوه " . فلما بلغ الروح السرة نادى النبي صلى الله عليه وسلم : " واكرباه " . فقالت فاطمة عليها السلام : كربي يا أبتاه . فلما بلغ الروح إلى الثندؤة نادى النبي صلى الله عليه وسلم : " يا جبريل ، ما أشد مرارة الموت " . فولى جبريل عليه السلام وجهه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا جبريل ، كرهت النظر إلي ؟ " فقال جبريل صلى الله عليه وسلم : يا حبيبي ، ومن تطيق نفسه أن ينظر إليك وأنت تعالج سكرات الموت ؟ فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فغسله علي بن أبي طالب ، وابن عباس يصب عليه الماء ، وجبريل عليه السلام معهما ، وكفن بثلاثة أثواب جدد ، وحمل على سرير ، ثم أدخلوه المسجد ، ووضعوه في المسجد ، وخرج الناس عنه ، فأول من صلى عليه الرب تعالى من فوق عرشه ، ثم جبريل ، ثم ميكائيل ، ثم إسرافيل ، ثم الملائكة زمرا زمرا . قال علي رضي الله تعالى عنه : لقد سمعنا في المسجد همهمة ، ولم نر لهم شخصا ، فسمعنا هاتفا يهتف ويقول : ادخلوا رحمكم الله فصلوا على نبيكم صلى الله عليه وسلم . فدخلنا ، وقمنا صفوفا صفوفا كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكبرنا بتكبير جبريل عليه السلام ، وصلينا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاة جبريل عليه السلام ، ما تقدم منا أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودخل القبر أبو بكر الصديق ، وعلي بن أبي طالب ، وابن عباس رضي الله تعالى عنهم ، ودفن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما انصرف الناس قالت فاطمة لعلي رضي الله تعالى عنه : يا أبا الحسن ، دفنتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . قالت فاطمة رضي الله تعالى عنها : كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أما كان في صدوركم لرسول الله صلى الله عليه وسلم الرحمة ، أما كان معلم الخير ؟ قال : بلى يا فاطمة ، ولكن أمر الله الذي لا مرد له . فجعلت تبكي وتندب ، وهي تقول : يا أبتاه ، الآن انقطع جبريل عليه السلام ، وكان جبريل يأتينا بالوحي من السماء .

                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية