الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
واختلف السلف في تزويج الزانية ، فروي عن أبي بكر وعمر وابن عباس وابن مسعود وابن عمر ومجاهد وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير في آخرين من التابعين : " أن من زنى بامرأة أو زنى بها غيره فجائز له أن يتزوجها " . وروي عن علي وعائشة والبراء وإحدى الروايتين عن ابن مسعود : " أنهما لا يزالان زانيين ما اجتمعا " . وعن علي : " إذا زنى الرجل فرق بينه وبين امرأته ، وكذلك هي إذا زنت " . قال أبو بكر : فمن حظر نكاح الزانية تأول فيه هذه الآية ، وفقهاء الأمصار متفقون على جواز النكاح ، وأن الزنا لا يوجب تحريمها على الزوج ولا يوجب الفرقة بينهما . ولا يخلو قوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية من أحد وجهين : إما أن يكون خبرا وذلك حقيقته أو نهيا وتحريما ، ثم لا يخلو من أن يكون المراد بذكر النكاح هنا الوطء أو العقد ، وممتنع أن يحمل على معنى الخبر ، وإن كان ذلك حقيقة اللفظ ؛ لأنا وجدنا زانيا يتزوج غير زانية وزانية تتزوج غير الزاني ، فعلمنا أنه لم يرد مورد الخبر ، فثبت أنه أراد الحكم والنهي . فإذا كان كذلك فليس يخلو من أن يكون المراد الوطء أو العقد ، وحقيقة النكاح هو الوطء في اللغة لما قد بيناه في مواضع ، فوجب أن يكون محمولا عليه على ما روي عن ابن عباس ومن تابعه في أن المراد الجماع ، ولا يصرف إلى العقد إلا بدلالة ؛ لأنه مجاز ؛ ولأنه إذا ثبت أنه قد أريد به الحقيقة انتفى دخول المجاز فيه . وأيضا فلو كان المراد العقد لم يكن زنا المرأة أو الرجل موجبا للفرقة ؛ إذ كانا جميعا موصوفين بأنهما زانيان ؛ لأن الآية قد اقتضت إباحة نكاح الزاني للزانية ، فكان يجب أن يجوز للمرأة أن تتزوج الذي زنى بها قبل أن يتوبا وأن لا يكون زناهما في حال الزوجية يوجب الفرقة ، ولا نعلم أحدا يقول ذلك ، وكان يجب أن يجوز للزاني أن يتزوج مشركة وللمرأة الزانية أن تتزوج مشركا ، ولا خلاف في أن ذلك غير جائز وأن نكاح المشركات وتزويج المشركين محرم منسوخ ، فدل ذلك على أحد المعنيين : إما أن يكون المراد الجماع على ما روي عن ابن عباس ومن تابعه ، أو أن يكون حكم الآية منسوخا على ما روي عن سعيد بن المسيب . ومن الناس من يحتج في أن الزنا لا يبطل النكاح بما روى هارون بن رئاب عن عبيد الله بن عبيد ويرويه عبد الكريم الجزري عن أبي [ ص: 109 ] الزبير ، وكلاهما يرسله أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن امرأتي لا تمنع يد لامس ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالاستمتاع منها ، فيحمل ذلك على أنها لا تمنع أحدا ممن يريدها على الزنا .

وقد أنكر أهل العلم هذا التأويل ، قالوا : لو صح هذا الحديث كان معناه أن الرجل وصف امرأته بالخرق وضعف الرأي وتضييع ماله فهي لا تمنعه من طالب ولا تحفظه من سارق ، قالوا : وهذا أولى ؛ لأنه حقيقة اللفظ ، وحمله على الوطء كناية ومجاز ، وحمله على ما ذكرنا أولى وأشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم كما قال علي وعبد الله : إذا جاءكم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فظنوا به الذي هو أهدى والذي هو أهنأ والذي هو أتقى .

فإن قيل : قال الله تعالى : أو لامستم النساء فجعل الجماع لمسا . قيل له : إن الرجل لم يقل للنبي صلى الله عليه وسلم إنها لا تمنع لامسا ، وإنما قال يد لامس ، ولم يقل فرج لامس ، وقال الله تعالى : ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم ومعلوم أن المراد حقيقة اللمس باليد ، وقال جرير الخطفي يعاتب قوما :

ألستم لئاما إذ ترومون جارهم ولولا همو لم تمنعوا كف لامس

ومعلوم أنه لم يرد به الوطء وإنما أراد أنكم لا تدفعون عن أنفسكم الضيم ومنع أموالكم هؤلاء القوم ، فكيف ترومون جارهم بالظلم . ومن الناس من يقول إن تزويج الزانية وإمساكها على النكاح محظور منهي عنه ما دامت مقيمة على الزنا وإن لم يؤثر ذلك في إفساد النكاح ؛ لأن الله تعالى إنما أباح نكاح المحصنات من المؤمنات ومن أهل الكتاب بقوله : والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم يعني العفائف منهن ؛ ولأنها إذا كانت كذلك لا يؤمن أن تأتي بولد من الزنا فتلحقه به وتورثه ماله ، وإنما يحمل قول من رخص في ذلك على أنها تائبة غير مقيمة على الزنا ، ومن الدليل على أن زناها لا يوجب الفرقة أن الله تعالى حكم في القاذف لزوجته باللعان ثم بالتفريق بينهما ، فلو كان وجود الزنا منها يوجب الفرقة لوجب إيقاع الفرقة بقذفه إياها لاعترافه بما يوجب الفرقة ، ألا ترى أنه لو أقر أنها أخته من الرضاعة أو أن أباه قد كان وطئها لوقعت الفرقة بهذا القول ؟

فإن قيل : لما حكم الله تعالى بإيقاع الفرقة بعد اللعان دل ذلك على أن الزنا يوجب التحريم ، لولا ذلك لما وجبت الفرقة باللعان . قيل له : لو كان كما ذكرت لوجبت الفرقة بنفس القذف دون اللعان ، فلما لم تقع بالقذف دل على فساد ما ذكرت .

فإن قيل : إنما وقعت الفرقة باللعان ؛ لأنه صار بمنزلة الشهادة عليها بالزنا ، فلما حكم عليها بذلك حكم بوقوع الفرقة لأجل [ ص: 110 ] الزنا . قيل له : وهذا غلط أيضا ؛ لأن شهادة الزوج وحده عليها بالزنا لا توجب كونها زانية كما أن شهادتها عليه بالإكذاب لا توجب عليه الحكم بالكذب في قذفه إياها ؛ إذ ليست إحدى الشهادتين بأولى من الأخرى ، ولو كان الزوج محكوما له بقبول شهادته عليها بالزنا لوجب أن تحد حد الزنا ، فلما لم تحد بذلك دل على أنه غير محكوم عليها بالزنا بقول الزوج ، والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية