الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقوله تعالى : ليس على الأعمى حرج الآية . قال أبو بكر : قد اختلف السلف في تأويله وسبب نزوله ، فحدثنا جعفر بن محمد بن الحكم قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج قال : ( لما نزلت : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل قال المسلمون : إن الله تعالى قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل [ ص: 197 ] وإن الطعام من أفضل أموالنا ولا يحل لأحد أن يأكل عند أحد ؛ فكف الناس عن ذلك فأنزل الله تعالى : ليس على الأعمى حرج الآية ) . فهذا أحد التأويلات .

وحدثنا جعفر بن محمد ( بن الحكم ) قال : حدثنا جعفر بن محمد ( بن اليمان ) قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في هذه الآية قال : ( كان رجال زمنى وعميان وعرجان وأولو حاجة يستتبعهم رجال إلى بيوتهم فإن لم يجدوا لهم طعاما ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم ومن معهم ، فكره المستتبعون ذلك ، فنزلت : ليس عليكم جناح الآية ، وأحل لهم الطعام حيث وجدوه من ذلك ) .

فهذا تأويل ثاني . وحدثنا جعفر بن محمد ( بن الحكم ) قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا ابن مهدي عن ابن المبارك عن معمر قال : قلت للزهري : ما بال الأعمى والأعرج والمريض ذكروا ههنا ؟ فقال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة : ( أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم في بيوتهم وسلموا إليهم المفاتيح وقالوا : قد أحللنا لكم أن تأكلوا منها ، فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون : لا ندخلها وهم غيب ، فنزلت هذه الآية رخصة لهم ) .

فهذا تأويل ثالث .

وروي فيه تأويل رابع ، وهو ما روى سفيان عن قيس بن مسلم عن مقسم قال : ( كانوا يمتنعون أن يأكلوا مع الأعمى والمريض والأعرج ؛ لأنه لا ينال ما ينال الصحيح ، فنزلت هذه الآية ) وقد أنكر بعض أهل العلم هذا التأويل ؛ لأنه لم يقل : ليس عليكم حرج في مؤاكلة الأعمى وإنما أزال الحرج عن الأعمى ومن ذكر معه في الأكل ، فهذا في الأعمى إذا أكل من مال غيره على أحد الوجوه المذكورة عن السلف ، وإن كان تأويل مقسم محتملا على بعد في الكلام ، وتأويل ابن عباس ظاهر ؛ لأن قوله تعالى : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولم يكن هذا تجارة وامتنعوا من الأكل ، فأنزل الله إباحة ذلك .

وأما تأويل مجاهد فهو سائغ من وجهين :

أحدهما : أنه قد كانت العادة عندهم بذل الطعام لأقربائهم ومن معهم ، فكان جريان العادة به كالنطق به ، فأباح الله للأعمى ومن ذكر معه إذا استتبعوا أن يأكلوا من بيوت من اتبعوهم وبيوت آبائهم .

والثاني : أن ذلك فيمن كان به ضرورة إلى الطعام ، وقد كانت الضيافة واجبة في ذلك الزمان لأمثالهم ، فكان ذلك القدر مستحقا من مالهم لهؤلاء ؛ فلذلك أبيح لهم أن يأكلوا منه مقدار الحاجة بغير إذن . وقال قتادة : " إن أكلت من بيت صديقك بغير إذنه فلا بأس " ، لقوله : أو صديقكم .

وروي أن أعرابيا دخل على الحسن ، فرأى سفرة معلقة فأخذها وجعل يأكل منها ، فبكى [ ص: 198 ] الحسن ، فقيل له : ما يبكيك ؟ فقال : ذكرت بما صنع هذا إخوانا لي مضوا ؛ يعني أنهم كانوا ينبسطون في مثل ذلك ولا يستأذنون . وهذا أيضا على ما كانت العادة قد جرت به منهم في مثله .

وقوله تعالى : ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم يعني والله أعلم : من البيوت التي هم سكانها وهم عيال غيرهم فيها ، مثل أهل الرجل وولده وخادمه ومن يشتمل عليه منزله فيأكل من بيته ؛ ونسبها إليهم ؛ لأنهم سكانها وإن كانوا في عيال غيرهم وهو صاحب المنزل ؛ لأنه لا يجوز أن يكون المراد الإباحة للرجل أن يأكل من مال نفسه ؛ إذ كان ظاهر الخطاب وابتداؤه في إباحة الأكل للإنسان من مال غيره ؛ وقال الله : أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم فأباح الأكل من بيوت هؤلاء الأقرباء ذوي المحارم بجريان العادة ببذل الطعام لأمثالهم وفقد التمانع في أمثاله ، ولم يذكر الأكل في بيوت الأولاد ؛ لأن قوله تعالى : ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم قد أفاده ؛ لأن مال الرجل منسوب إلى أبيه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : أنت ومالك لأبيك وقال : إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه فكلوا من كسب أولادكم ، فاكتفى بذكر بيوت أنفسكم عن ذكر بيوت الأولاد ؛ إذ كانت منسوبة إلى الآباء .

وقوله تعالى : أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أو ما ملكتم مفاتحه قال : ( هو الرجل يؤاكل الرجل بصنعته ، يرخص له أن يأكل من ذلك الطعام والثمر ويشرب من ذلك اللبن ) .

وعن عكرمة في قوله : أو ما ملكتم مفاتحه قال : ( إذا ملك المفتاح فهو جائز ولا بأس أن يطعم الشيء اليسير ) .

وروى سعيد عن قتادة في قوله : ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج قال : كان الرجل لا يضيف أحدا ولا يأكل من بيت غيره تأثما من ذلك ، وكان أول من رخص الله له في ذلك ثم رخص للناس عامة ، فقال : ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم إلى قوله : أو ما ملكتم مفاتحه مما عندك يا ابن آدم ، أو صديقكم ، ولو دخلت على صديق فأكلت من طعامه بغير إذنه كان ذلك حلالا .

قال أبو بكر : وهذا أيضا مبني على ما جرت العادة بالإذن فيه فيكون المعتاد من ذلك كالمنطوق به ، وهو مثل ما تتصدق به المرأة من بيت زوجها بالكسرة ونحوها من غير استئذانها إياه ؛ لأنه متعارف أنهم لا يمنعون من مثله ، كالعبد المأذون والمكاتب يدعوان إلى طعامهما ويتصدقان باليسير مما في أيديهما فيجوز بغير إذن المولى .

وقوله : أو صديقكم [ ص: 199 ] روى الأعمش عن نافع عن ابن عمر قال : ( لقد رأيتني وما الرجل المسلم بأحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم ) . وروى عبد الله الرصافي عن محمد بن علي قال : " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرى أحدهم أنه أحق بالدينار والدرهم من أخيه " وروى إسحاق بن كثير قال : حدثنا الرصافي قال : " كنا عند أبي جعفر يوما فقال : هل يدخل أحدكم يده في كم أخيه فيأخذ ماله ؟ قلنا : لا ، قال : ما أنتم بإخوان " .

قال أبو بكر : قد دلت هذه الآية على أن من سرق من ذي رحم محرم أنه لا يقطع لإباحة الله لهم بهذه الآية الأكل من بيوتهم ودخولها من غير إذنهم فلا يكون ماله محرزا منهم .

فإن قيل : فينبغي أن لا يقطع إذا سرق من صديقه ؛ لأن ففي الآية إباحة الأكل من طعامه قيل له : من أراد سرقة ماله لا يكون صديقا له .

وقد قيل : إن هذه الآية منسوخة بقوله : لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وبقوله صلى الله عليه وسلم : لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه . قال أبو بكر : ليس في ذلك ما يوجب نسخه ؛ لأن هذه الآية فيمن ذكر فيها ، وقوله : لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم في سائر الناس غيرهم وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه .

وقوله تعالى ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا روى سعيد عن قتادة قال : " كان هذا الحي من كنانة بني خزيمة يرى أحدهم أنه محرم عليه أن يأكل ، وحده في الجاهلية حتى أن الرجل ليسوق الذود الحفل وهو جائع حتى يجد من يؤاكله ويشاربه ، فأنزل الله : ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا .

وروى الوليد بن مسلم قال : حدثنا وحشي بن حرب عن أبيه عن جده وحشي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : إنا نأكل ولا نشبع ، قال : فلعلكم تفترقون ؟ قالوا : نعم ، قال : فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه وقال ابن عباس : جميعا أو أشتاتا " المعنى : يأكل مع الفقير في بيته " . وقال أبو صالح : ( كان إذا نزل بهم ضيف تحرجوا أن يأكلوا إلا معه ) . وقيل : ( إن الرجل كان يخاف إن أكل مع غيره أن يزيد أكله على أكل صاحبه ، فامتنعوا لأجل ذلك من الاجتماع على الطعام ) .

قال أبو بكر : هذا تأويل محتمل ، وقد دل على هذا المعنى قوله : ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم فأباح لهم أن يخلطوا طعام اليتيم بطعامهم فيأكلوه جميعا ، ونحوه قوله : فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه فكان الورق لهم جميعا والطعام بينهم فاستجازوا أكله ، فكذلك قوله : ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا يجوز أن يكون [ ص: 200 ] مراده أن يأكلوا جميعا طعاما بينهم وهي المناهدة التي يفعلها الناس في الأسفار .

التالي السابق


الخدمات العلمية