الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ).

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 155 ] في النظم وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه تعالى لما أمر المؤمنين ببعض الأشياء ونهاهم عن بعضها وحذرهم من أن يكونوا مثل أهل الكتاب في التمرد والعصيان ، وذكر عقيبه ثواب المطيعين وعقاب الكافرين ، كان الغرض من كل هذه الآيات حمل المؤمنين المكلفين على الانقياد والطاعة ومنعهم عن التمرد والمعصية ، ثم إنه تعالى أردف ذلك بطريق آخر يقتضي حمل المؤمنين على الانقياد والطاعة فقال : ( كنتم خير أمة ) والمعنى أنكم كنتم في اللوح المحفوظ خير الأمم وأفضلهم ، فاللائق بهذا أن لا تبطلوا على أنفسكم هذه الفضيلة ، وأن لا تزيلوا عن أنفسكم هذه الخصلة المحمودة ، وأن تكونوا منقادين مطيعين في كل ما يتوجه عليكم من التكاليف .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن الله تعالى لما ذكر كمال حال الأشقياء وهو قوله : ( فأما الذين اسودت وجوههم ) وكمال حال السعداء وهو قوله : ( وأما الذين ابيضت وجوههم ) نبه على ما هو السبب لوعيد الأشقياء بقوله : ( وما الله يريد ظلما للعالمين ) يعني أنهم إنما استحقوا ذلك بأفعالهم القبيحة ، ثم نبه في هذه الآية على ما هو السبب لوعد السعداء بقوله : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) أي تلك السعادات والكمالات والكرامات إنما فازوا بها في الآخرة لأنهم كانوا في الدنيا ( خير أمة أخرجت للناس ) وفي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : لفظة ( كان ) قد تكون تامة وناقصة وزائدة على ما هو مشروح في النحو واختلف المفسرون في قوله : ( كنتم ) على وجوه . الأول : أن ( كان ) هاهنا تامة بمعنى الوقوع والحدوث وهو لا يحتاج إلى خبر ، والمعنى : حدثتم خير أمة ووجدتم وخلقتم خير أمة ، ويكون قوله : ( خير أمة ) بمعنى الحال وهذا قول جمع من المفسرين . الثاني : أن ( كان ) هاهنا ناقصة وفيه سؤال : وهو أن هذا يوهم أنهم كانوا موصوفين بهذه الصفة وأنهم ما بقوا الآن عليها .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عنه : أن قوله ( كان ) عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض على سبيل الإبهام ، ولا يدل ذلك على انقطاع طارئ بدليل قوله : ( استغفروا ربكم إنه كان غفارا ) [ نوح : 10 ] وقوله : ( وكان الله غفورا رحيما ) [ النساء : 100 ] إذا ثبت هذا فنقول : للمفسرين على هذا التقدير أقوال . أحدها : كنتم في علم الله خير أمة . وثانيها : كنتم في الأمم الذين كانوا قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة ، وهو كقوله : ( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) [ الفتح : 29 ] إلى قوله : ( ذلك مثلهم في التوراة ) [ الفتح : 29 ] فشدتهم على الكفار أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر . وثالثها : كنتم في اللوح المحفوظ موصوفين بأنكم خير أمة . ورابعها : كنتم منذ آمنتم خير أمة أخرجت للناس . وخامسها : قال أبو مسلم قوله : ( كنتم خير أمة ) تابع لقوله : ( وأما الذين ابيضت وجوههم ) والتقدير : أنه يقال لهم عند الخلود في الجنة : كنتم في دنياكم خير أمة فاستحقيتم ما أنتم فيه من الرحمة وبياض الوجه بسببه ، ويكون ما عرض بين أول القصة وآخرها كما لا يزال يعرض في القرآن من مثله . وسادسها : قال بعضهم : لو شاء الله تعالى لقال ( أنتم ) وكان هذا التشريف حاصلا لكلنا ولكن قوله : ( كنتم ) مخصوص بقوم معينين من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وهم السابقون الأولون ، ومن صنع مثل ما صنعوا . وسابعها : كنتم مذ آمنتم خير أمة تنبيها على أنهم كانوا موصوفين بهذه الصفة مذ كانوا .

                                                                                                                                                                                                                                            الاحتمال الثالث : أن يقال ( كان ) هاهنا زائدة ، وقال بعضهم قوله : ( كنتم خير أمة ) هو كقوله : ( واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم ) [ الأعراف : 86 ] وقال في موضع آخر : ( واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون ) [ الأنفال : 26 ] وإضمار كان وإظهارها سواء إلا أنها تذكر للتأكيد ووقوع الأمر لا محالة . قال ابن الأنباري : هذا القول ظاهر [ ص: 156 ] الاختلال ، لأن ( كان ) تلغى متوسطة ومؤخرة ، ولا تلغى متقدمة ، تقول العرب : عبد الله كان قائم ، وعبد الله قائم كان على أن كان ملغاة ، ولا يقولون : كان عبد الله قائم على إلغائها ، لأن سبيلهم أن يبدءوا بما تنصرف العناية إليه ، والملغى لا يكون في محل العناية ، وأيضا لا يجوز إلغاء الكون في الآية لانتصاب خبره ، وإذا عمل الكون في الخبر فنصبه لم يكن ملغى .

                                                                                                                                                                                                                                            الاحتمال الرابع : أن تكون ( كان ) بمعنى صار ، فقوله : ( كنتم خير أمة ) معناه صرتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ، أي صرتم خير أمة بسبب كونكم آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر ومؤمنين بالله .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم ) يعني كما أنكم اكتسبتم هذه الخيرية بسبب هذه الخصال ، فأهل الكتاب لو آمنوا لحصلت لهم أيضا صفة الخيرية والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية