الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم بين أن التمرد على الله تعالى والإعراض عن حكمه مما لا يليق بالعقلاء فقال : ( وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ) وفيه مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : الإسلام ، هو الاستسلام والانقياد والخضوع .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا ففي خضوع كل من في السماوات والأرض لله وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : وهو الأصح عندي أن كل ما سوى الله سبحانه ممكن لذاته ، وكل ممكن لذاته فإنه لا يوجد إلا بإيجاده ولا يعدم إلا بإعدامه ، فإذن كل ما سوى الله فهو منقاد خاضع لجلال الله في طرفي وجوده وعدمه ، وهذا هو نهاية الانقياد والخضوع ، ثم إن في هذا الوجه لطيفة أخرى وهي أن قوله : " وله أسلم " يفيد الحصر ، أي وله أسلم كل من في السماوات والأرض لا لغيره ، فهذه الآية تفيد أن واجب الوجود واحد ، وأن كل ما سواه فإنه لا يوجد إلا بتكوينه ولا يفنى إلا بإفنائه سواء كان عقلا أو نفسا أو روحا أو جسما أو جوهرا أو عرضا أو فاعلا أو فعلا ، ونظير هذه الآية في الدلالة على هذا المعنى قوله تعالى : ( ولله يسجد من في السماوات والأرض ) [ الرعد : 15 ] ، وقوله : ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) [ الإسراء : 44 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني في تفسير هذه الآية : أنه لا سبيل لأحد إلى الامتناع عليه في مراده ، وإما أن ينزلوا عليه [ ص: 108 ] طوعا أو كرها ، فالمسلمون الصالحون ينقادون لله طوعا فيما يتعلق بالدين ، وينقادون له كرها فيما يخالف طباعهم من المرض والفقر والموت وأشباه ذلك ، وأما الكافرون فهم ينقادون لله تعالى على كل حال كرها لأنهم لا ينقادون فيما يتعلق بالدين ، وفي غير ذلك مستسلمون له سبحانه كرها ؛ لأنه لا يمكنهم دفع قضائه وقدره . الثالث : أسلم المسلمون طوعا ، والكافرون عند موتهم كرها ؛ لقوله تعالى : ( فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ) [ غافر : 85 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : أن كل الخلق منقادون لإلهيته طوعا بدليل قوله تعالى : ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ) [ لقمان : 25 ] ، ومنقادون لتكاليفه وإيجاده للآلام كرها . الخامس : أن انقياد الكل إنما حصل وقت أخذ الميثاق وهو قوله تعالى : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ) [ الأعراف : 172 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            السادس : قال الحسن : الطوع لأهل السماوات خاصة ، وأما أهل الأرض فبعضهم بالطوع وبعضهم بالكره . وأقول : إنه سبحانه ذكر في تخليق السماوات والأرض هذا وهو قوله : ( فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ) [ فصلت : 11 ] ، وفيه أسرار عجيبة .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( وإليه ترجعون ) ، فالمراد أن من خالفه في العاجل فسيكون مرجعه إليه ، والمراد إلى حيث لا يملك الضر والنفع سواه ، وهذا وعيد عظيم لمن خالف الدين الحق .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال الواحدي رحمه الله : الطوع الانقياد ، يقال : طاعه يطوعه طوعا إذا انقاد له وخضع ، وإذا مضى لأمره فقد أطاعه ، وإذا وافقه فقد طاوعه ، قال ابن السكيت : يقال طاع له وأطاع ، فانتصب طوعا وكرها على أنه مصدر وقع موقع الحال ، وتقديره طائعا وكارها ، كقولك أتاني راكضا ، ولا يجوز أن يقال : أتاني كلاما أي متكلما ؛ لأن الكلام ليس بضرب للإتيان والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية