الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( لتؤمنن به ولتنصرنه ) ، فالمعنى ظاهر ، وذلك لأنه تعالى أوجب الإيمان به أولا ، ثم الاشتغال بنصرته ثانيا ، واللام في ( لتؤمنن به ) لام القسم ، كأنه قيل : والله لتؤمنن به .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : إن فسرنا قوله تعالى : ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ) بأنه تعالى أخذ المواثيق على الأنبياء كان قوله تعالى : ( أأقررتم ) معناه : قال الله تعالى للنبيين أأقررتم بالإيمان به والنصرة له وإن فسرنا أخذ الميثاق بأن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - أخذوا المواثيق على الأمم كان معنى قوله : ( قال أأقررتم ) أي قال كل نبي لأمته أأقررتم ، وذلك لأنه تعالى أضاف أخذ الميثاق إلى نفسه ، وإن كان النبيون أخذوه على الأمم ، فكذلك طلب هذا الإقرار أضافه إلى نفسه وإن وقع من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والمقصود أن الأنبياء بالغوا في إثبات هذا المعنى وتأكيده ، فلم يقتصروا على أخذ الميثاق على الأمم ، بل طالبوهم بالإقرار بالقول ، وأكدوا ذلك بالإشهاد .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : الإقرار في اللغة منقول بالألف من قر الشيء يقر ، إذا ثبت ولزم مكانه ، وأقره غيره والمقر بالشيء يقره على نفسه أي يثبته .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ) أي قبلتم عهدي ، والأخذ بمعنى القبول كثير في الكلام ، قال تعالى : ( ولا يؤخذ منها عدل ) [ البقرة : 48 ] أي يقبل منها فدية ، وقال : ( ويأخذ الصدقات ) [ التوبة : 104 ] أي [ ص: 106 ] يقبلها ، والإصر هو الذي يلحق الإنسان لأجل ما يلزمه من عمل ، قال تعالى : ( ولا تحمل علينا إصرا ) [ البقرة : 286 ] ، فسمى العهد إصرا لهذا المعنى ، قال صاحب " الكشاف " : سمي العهد إصرا ؛ لأنه مما يؤصر أي يشد ويعقد ، ومنه الإصار الذي يعقد به ، وقرئ ( إصري ) ويجوز أن يكون لغة في إصر .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ) ، وفي تفسير قوله : ( فاشهدوا ) وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار ، وأنا على إقراركم وإشهاد بعضكم بعضا ( من الشاهدين ) ، وهذا توكيد عليهم وتحذير من الرجوع إذا علموا شهادة الله وشهادة بعضهم على بعض . الثاني : أن قوله ( فاشهدوا ) خطاب للملائكة . الثالث : أن قوله : ( فاشهدوا ) أي ليجعل كل أحد نفسه شاهدا على نفسه ، ونظيره قوله : ( وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ) [ الأعراف : 172 ] على أنفسنا ، وهذا من باب المبالغة .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : ( فاشهدوا ) أي بينوا هذا الميثاق للخاص والعام ، لكي لا يبقى لأحد عذر في الجهل به ، وأصله أن الشاهد هو الذي يبين صدق الدعوى . الخامس : ( فاشهدوا ) أي فاستيقنوا ما قررته عليكم من هذا الميثاق ، وكونوا فيه كالمشاهد للشيء المعاين له .

                                                                                                                                                                                                                                            السادس : إذا قلنا إن أخذ الميثاق كان من الأمم ، فقوله : ( فاشهدوا ) خطاب للأنبياء - عليهم السلام - بأن يكونوا شاهدين عليهم .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما قوله تعالى : ( وأنا معكم من الشاهدين ) فهو للتأكيد وتقوية الإلزام ، وفيه فائدة أخرى وهي أنه تعالى وإن أشهد غيره ، فليس محتاجا إلى ذلك الإشهاد ؛ لأنه تعالى لا يخفى عليه خافية لكن لضرب من المصلحة ؛ لأنه سبحانه وتعالى يعلم السر وأخفى ، ثم إنه تعالى ضم إليه تأكيدا آخر ، فقال : ( فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ) يعني من أعرض عن الإيمان بهذا الرسول وبنصرته بعد ما تقدم من هذه الدلائل كان من الفاسقين ، ووعيد الفاسق معلوم ، وقوله : ( فمن تولى بعد ذلك ) هذا شرط ، والفعل الماضي ينقلب مستقبلا في الشرط والجزاء ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية