الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( وهو قائم يصلي في المحراب ) فهو يدل على أن الصلاة كانت مشروعة في دينهم ، والمحراب قد ذكرنا معناه .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( أن الله يبشرك بيحيى ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : أما البشارة فقد فسرناها في قوله تعالى : ( وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) [ البقرة : 25 ] وفي قوله : ( يبشرك بيحيى ) وجهان : الأول : أنه تعالى كان قد عرف زكريا أنه سيكون في الأنبياء رجل اسمه يحيى وله ذرية عالية ، فإذا قيل : إن ذلك النبي المسمى بيحيى هو ولدك كان ذلك بشارة له بيحيى - عليه السلام - والثاني : أن الله يبشرك بولد اسمه يحيى .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قرأ ابن عامر وحمزة " إن " بكسر الهمزة ، والباقون بفتحها ، أما الكسر فعلى إرادة القول ، أو لأن النداء نوع من القول ، وأما الفتح فتقديره : فنادته الملائكة بأن الله يبشرك .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قرأ حمزة والكسائي " يبشرك " بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين ، وقرأ الباقون " يبشرك " وقرئ أيضا " يبشرك " قال أبو زيد يقال : بشر يبشر بشرا ، وبشر يبشر تبشيرا ، وأبشر يبشر ثلاث لغات .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قرأ حمزة والكسائي " يحيى " بالإمالة لأجل الياء والباقون بالتفخيم ، وأما أنه لم سمي يحيى فقد ذكرناه في سورة مريم ، واعلم أنه تعالى ذكر من صفات يحيى ثلاثة أنواع :

                                                                                                                                                                                                                                            الصفة الأولى : قوله : ( مصدقا بكلمة من الله ) وفيه مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قال الواحدي : قوله : ( مصدقا بكلمة من الله ) نصب على الحال لأنه نكرة ، ويحيى معرفة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : في المراد بكلمة من الله قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : وهو قول أبي عبيدة : أنها كتاب من الله ، واستشهد بقولهم : أنشد فلان كلمة ، والمراد به القصيدة الطويلة .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 32 ] والقول الثاني : وهو اختيار الجمهور : أن المراد من قوله : ( بكلمة من الله ) هو عيسى -عليه السلام - قال السدي : لقيت أم عيسى أم يحيى - عليهما السلام - وهذه حامل بيحيى وتلك بعيسى ، فقالت : يا مريم أشعرت أني حبلى ؟ فقالت مريم : وأنا أيضا حبلى ، قالت امرأة زكريا فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك فذلك قوله : ( مصدقا بكلمة من الله ) وقال ابن عباس : إن يحيى كان أكبر سنا من عيسى بستة أشهر ، وكان يحيى أول من آمن وصدق بأنه كلمة الله وروحه ، ثم قتل يحيى قبل رفع عيسى -عليهما السلام - ، فإن قيل : لم سمي عيسى كلمة في هذه الآية ، وفي قوله : ( إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ) [ النساء : 171 ] ؟ قلنا : فيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه خلق بكلمة الله ، وهو قوله : " كن " من غير واسطة الأب ، فلما كان تكوينه بمحض قول الله " كن " وبمحض تكوينه وتخليقه من غير واسطة الأب والبذر ، لا جرم سمي : كلمة كما يسمى المخلوق خلقا ، والمقدور قدرة ، والمرجو رجاء ، والمشتهى شهوة ، وهذا باب مشهور في اللغة .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه تكلم في الطفولية ، وآتاه الله الكتاب في زمان الطفولية ، فكان في كونه متكلما بالغا مبلغا عظيما ، فسمي كلمة بهذا التأويل وهو مثل ما يقال : فلان جود وإقبال إذا كان كاملا فيهما .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أن الكلمة كما أنها تفيد المعاني والحقائق ، كذلك عيسى كان يرشد إلى الحقائق والأسرار الإلهية ، فسمي : كلمة ، بهذا التأويل ، وهو مثل تسميته روحا من حيث إن الله تعالى أحيا به من الضلالة كما يحيا الإنسان بالروح ، وقد سمى الله القرآن روحا فقال : ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ) [ الشورى : 52 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            والرابع : أنه قد وردت البشارة به في كتب الأنبياء الذين كانوا قبله ، فلما جاء قيل : هذا هو تلك الكلمة ، فسمي كلمة بهذا التأويل قالوا : ووجه المجاز فيه أن من أخبر عن حدوث أمر فإذا حدث ذلك الأمر قال : قد جاء قولي وجاء كلامي ، أي ما كنت أقول وأتكلم به ، ونظيره قوله تعالى : ( وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار ) [ غافر : 6 ] وقال : ( ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين ) [ الزمر : 71 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            الخامس : أن الإنسان قد يسمى بفضل الله ولطف الله ، فكذا عيسى - عليه السلام - كان اسمه العلم : كلمة الله ، وروح الله ، واعلم أن كلمة الله هي كلامه ، وكلامه على قول أهل السنة صفة قديمة قائمة بذاته ، وعلى قول المعتزلة أصوات يخلقها الله تعالى في جسم مخصوص دالة بالوضع على معان مخصوصة ، والعلم الضروري حاصل بأن الصفة القديمة أو الأصوات التي هي أعراض غير باقية يستحيل أن يقال : أنها هي ذات عيسى - عليه السلام - ، ولما كان ذلك باطلا في بداهة العقول لم يبق إلا التأويل .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية