الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            الفصل الخامس

            بنو موسى أنموذجا

            لعلوم الفلك والميكانيكا والهندسة والفيزياء

            مقدمة

            شهد تاريخ العلم العربي العديد من الجماعات العلمية التي يرتبط أفرادها -قبل الاشتغال بالعلم- بعلاقات دم أو قرابة. وربما كانت هـذه العلاقات أحد الأسباب الرئيسة التي ساعدت على نبوغ تلك الجماعات في المجال العلمي، ففي كثير من الأحيان يجد الفرد داخل إطار أسرته المناخ المناسب للعمل العلمي، والعكس صحيح.

            ومن أمثلة هـذا النوع من الجماعات في العلم العربي-في الفترة التي حددها البحث- جماعة بختيشوع، التي نبغ أفرادها في علم الطب إلى درجة أنهم خدموا به الخلفاء، ابتداء من الجد الأكبر بختيشوع، ومرورا ببعض الأولاد والأحفاد (جورجيس، بختيشوع، جبرائيل) ، هـذا فضلا عن إسهامهم في حركة النقل والترجمة.

            وهذا يذكرنا أيضا بجماعة حنين بن إسحق التي ضمت ابنه إسحق، وابن أخته حبيش بن الأعسم، واشتهرت في مجال الترجمة. واتسعت هـذه الجماعة لتضم مدرسة علمية متكاملة جاء مجالها واهتماماتها موجها إلى [ ص: 147 ] موضوعات أساسية في التوجه العلمي. واشتغلت في نفس المجال، جماعة ثابت بن قرة، التي ضمت ابنه أبا سعيد سنان، إلى جانب أفراد آخرين من خارج «الأسرة الدموية» ومنهم عيسى بن أسيد النصراني.

            أما جماعة بني موسى بن شاكر، فقد نبغت في الفلك والهندسة والحيل «الميكانيكا» والمساحة والفيزياء، وكان قوامها الأبناء الثلاثة (محمد، أحمد، الحسن) لموسى بن شاكر الأب، الذي لم يعمل مع هـذه الجماعة العلمية؛ لأنه توفي وهم أطفال صغار. ويمثل الحديث في هـذه الجماعة موضوع هـذه الجزئية من البحث: كيف تعلمت هـذه الجماعة؟ وما هـي العلوم التي برعت فيها؟ وهل أتت بإنجازات علمية جديدة أثرت في الأجيال اللاحقة، وفي (الآخر) ؟ أسئلة مهمة وجوهرية ينبغي أن نجيب عنها عند بحثنا في بني موسى بن شاكر كجماعة علمية. وتأتي محاولة الإجابة فيما يلي:

            ينتمي الإخوة الثلاثة إلى أبيهم « موسى بن شاكر » الذي قربه المأمون إلى بلاطه، واهتم بتهذيبه وتعليمه، حتى صار من منجميه وندمائه، وفي مقدمة علماء زمانه، فقد عرف -بعد أن أتقن علوم الرياضيات والفلك- بالمنجم، واشتهر بأزياجه الفلكية. وبذلك يمثل المأمون السبب الرئيس في تكوين موسى بن شاكر العلمي. وهذه نقطة مهمة ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار في تناولنا لجماعة بني موسى بن شاكر. فالمأمون الخليفة العالم قد حول مسار موسى بن شاكر تماما، فجعله يقطع شوطا كبيرا في طريق العلم [ ص: 148 ] بدلا من قطع طريق المارة. وهو الأمر الذي أراد موسى بن شاكر أن يربي عليه أولاده الثلاثة، ولكنه توفي وهم صغار، وكان قد عهد بهم إلى المأمون أيضا. وبناء على ذلك يمكننا الزعم بأنه لولا المأمون -وكم له من أفضال على الحضارة العربية الإسلامية- لما كانت جماعة بني موسى بن شاكر العلمية. فلقد تكفل المأمون بالصبية الصغار بعد وفاة أبيهم، وعهد بهم إلى « إسحق بن إبراهيم المصبعي »، فألحقهم إسحق ببيت الحكمة تحت إشراف الفلكي والمنجم المعروف يحيى بن أبي منصور . وكان المأمون أثناء أسفاره إلى بلاد الروم يرسل الكتب إلى إسحق بأن يراعيهم، ويوصيه بهم، ويسأل عن أخبارهم. وقد أتاح وجود بني موسى في بيت الحكمة -كبيئة علمية بحتة- فرصة ممتازة وغير عادية لهم من أجل تثقيف أنفسهم وإبراز مواهبهم العلمية [1] .

            ولقد تعاون الإخوة الثلاثة فيما بينهم في تحصيل العلم، فدرسوا سويا علم الحيل (الميكانيكا) ، والفلك، والرياضيات، والهندسة، حتى برزوا واشتهروا في هـذه العلوم [2] .

            أجمعت المصادر التاريخية على أن الإخوة الثلاثة نشأوا في «بيت الحكمة» المأموني في جو مشبع بالعلم، حيث لمسوا وتأثروا بكل ما كان يجري فيه من نشاطات علمية آنذاك. [ ص: 149 ] وكان لرغبتهم في العلم، إلى جانب تكليف المأمون أسـاتذة بيت الحكمة بالإشراف علـيهم، وخاصة أسـاتذة الفلك وعـلى رأسهم يحيى بن أبي منصـور فلكي الخليفة، كان لهذه العوامل أثرها المهم في نبوغ بني موسى المبكر.

            فكبيرهم «محمد» فضلا عن أنه قد أصبح أعظمهم شأنا، وأطولهم باعا في السياسة، وذا تأثير كبير على الخليفة، مثله مثل أبيه من قبل، فإنه استطاع أن يكون جماعة علمية فلكية، ضمت إلى أخويه أحمد والحسن عددا من الفلكيين لم تسعهم إلا دار فسيحة في أعلى ضاحية من بغداد بقرب باب الشماسية ، خصصها لهم المأمون لرصد النجوم رصدا علميا دقيقا، وإجراء قياسات مثيرة للإعجاب كانت تقارن بغيرها في جنديسابور ، وبأخرى تجرى بعد ثلاث سنوات في دراسة ثانية تمت على جبل قاسيون على مقربة من دمشق للمقارنة. وكان أفراد هـذه الجماعة يعملون مجتمعين على وضع جداول (أزياج) الفلك «المجربة» أو «المأمونية» كما يدعونها، وهي عبارة عن مراجعة دقيقة لجداول بطلميوس القديمة [3] .

            ومع مرور الوقت في الانشغال بالعمل العلمي -النظري والتطبيقي- ازدادت حصيلة جماعة بني موسى العلمية، وتطورت أساليبهم التطبيقية إلى الدرجة التي مكنتهم من القيام بأول وأهم وأخطر عمل علمي جماعي [ ص: 150 ] بالنسبة لهم، ولا تقل أهميته بالنسبة لتاريخ العلم العربي والعالمي على وجه العموم ألا وهو قياس محيط الأرض.

            وكان المأمون قد سألهم القيام بهذه المهمة العلمية الشاقة لما رآه في علوم الأوائل من أن دورة كرة الأرض أربعة وعشرون ألف ميل، فأراد أن يقف على حقيقة ذلك [4] . ورأس محمد بن موسى الجماعة العلمية التي تصدرت لذلك الغرض، والتي ضمت إلى جانب أخويه أحمد والحسن مجموعة من الفلكيين والمساحين. وقد اختارت الجماعة مكانين منبسطين؛ أحدهما صحراء سنجار غربي الموصل، والآخر أرضا مماثلة بالكوفة . وقد اقتضت طريقة الجماعة أن «ينطلق فريقان من جهة ما؛ فيذهب فريق إلى ناحية الشمـال، وآخـر إلى الجنوب، بحيث يرى الأول منهمـا صعود «التيس»، والثاني هـبوطه. ثم تحسب درجـة خط الطول (merdian) بواسطة قياس المسافة بين الفريقين المراقبين، وكانت النتيجة دقيقة للغاية [5] ، فقد توصلت الجماعة فعلا إلى أن محيـط الأرض يساوي: 66 ميلا عربيا. وهذا ما يعادل: 47.356 كيلو مترا لمدار الأرض. وهذه النتيجة قريبة من الحقيقة، إذ مدار الأرض الفعلي يعادل: 40.000 كيلو متر تقريبا [6] . [ ص: 151 ] وهذا العمل فضلا عن كونه من الأعمال العلمية الجماعية المهمة التي قامت بها جماعـة بني موسى بن شاكر ، فإنه أول قياس حقيقي للأرض عرفه العالم؛ لأن طريقة بني موسى قد اختلفت عن طريقة إيراتوستيناس اليوناني الذي أعتبر أول من حاول قياس محيط الأرض عن طريق زاوية أشعة الشمس.

            ويبدو أن مهمة قياس محيط الأرض التي فرغت منها الجماعة بنجاح كانت حافزا قويا لها على بناء مرصد خاص بأعضائها بقرب جسر الفرات عند باب التاج، حيث المئذنة الملتوية إلى أعلى، والتي تم تثبيت الآت الرصد فوقها [7] . وفيه قام أعضاء الجماعة بإجراء قياسات فلكية دقيقة -مثل استخراجهم حساب العرض الأكبر من عروض القمر- فاقت قياسات بطلميوس ، وخالد بن عبد الملك المروزي فلكي قصر الخليفة. كما نالت هـذه الأرصاد تقدير واهتمام الفلكيين اللاحقين لبني موسى؛ فبعد مرور حوالي قرن ونصف من الزمان نرى البيروني يصرح بأهمـية أرصاد جماعة بني موسى بن شاكر وبفضلها عليه، قائلا: إنا نظرنا إلى قول بطلميوس في مقدار شهر القمر الأوسط، وقول خالد بن عبد الملك المروزي على ما قاسه بدمشق، وقول بني موسى بن شاكر، وقول غـيرهم فوجـدنا أولى الأقاويل بأن يؤخذ به ويعمل عليه ما أورده بنو موسى بن شاكر؛ لبذلهم المجهود في إدراك الحق، وتفردهم في عصرهم بالمهارة في عمل الرصد والحذق به، ومشاهدة العلماء منهم ذلك وشهادتهم له بالسمحة، وبعد عهد رصدهم بأرصاد القدماء، وقرب عهدنا به، فاستخرجنا الأصل على ما ذكروه [8] . [ ص: 152 ] وثمة نشاط علمي جماعي مهم مارسته جماعة بني موسى ، وكان له أثر مهم في ازدهار الحركة العلمـية عمومـا، وأعني به: رعايتها لحركة الترجمة والنقل. يذكر ابن النديم [9] : أن بني موسى ممن تناهوا في طلب العلوم القديمة، وبذل الرغائب فيها، وأتعبوا فيها نفوسهم، وأنفذوا إلى بلد الروم من أخرجها إليهم، فأحضروا النقلة من الأصقاع والأماكن بالبذل السني، فأظهروا عجائب الحكمة. ويذكر صاحب العيون [10] أن بني موسى كانوا يرزقون جماعة من النقلة؛ منهم حنين بن إسحق ، وحبيش بن الأعسم ، وثابت بن قرة وغيرهم، في الشهر نحو خمسمائة دينار للنقل والملازمة.

            وقد ذكرنا أثناء حـديثنا عن ثابت بن قرة أن ثابتا قد عاش وتعلم في دار محمـد بن موسى بن شـاكر، وكان الأخـير قد اصطحبه أثناء عودته من إحدى الرحلات العلمية إلى أسيا الصغرى لشراء المخطوطات. [ ص: 153 ] إذن لعبت جماعة بني موسى دورا مهما في دفع عجلة الترجمة إلى الأمام، فالعلماء الذين تولت الجماعة رعايتهم هـم في حقيقة الأمر من أبرز أعلام حركة الترجمة، هـؤلاء الذين تم على أيديهم نقل كثير من علوم ومعارف الأمم الأخرى إلى اللغة العربية [11] .

            يتضح مما سبق أن أهم ما تميزت به جماعة بني موسى هـو مبدأ «التعاون» وروح الفريق الذي يظهر جليا في أكثر أعمالهم، نظرية كانت، أم تطبيقية؛ فأما النظرية: فقد تركوا العديد من المؤلفات الجماعية [12] التي تبرز من ناحية مدى تعاونهم في العمل العلمي، وتوضح من ناحية أخرى قيمة العمل العلمي الجماعي الذي تذوب فيه الشخصية الفردية، وتترك المجال لروح فريق العمل.

            وأما تاريخيا فان أهم عمل لجماعة بني موسى بن شاكر هـو كتاب: «معرفة مساحة الأشكال البسيطة والكرية». فالأقدار الثلاثة: الطول، والعرض، والسمك، تحد عظم كل جسم وانبساط كل سطح، والعمل في تقدير كمياتها إنما يتبين بالقياس إلى الواحد المسطح والواحد المجسم، والواحد المسطح الذي به يقاس السطح، وكل مضلع يحيط بدائرة، فسطح نصف قطر تلك الدائرة في نصف جميع أضلاع ذلك المضلع هـو مساحته [13] . [ ص: 154 ] وقد شكل هـذا الكتاب تطويرا مهما لكتابي أرشميدس عن: «حساب مساحة الدائرة»، وعن: «الكرة والأسطوانة»، والذي استغل فيه الإخوة الثلاثة منهج الاستنـزاف لدى (يودوكس) ، ومفهوم الكميـات المتناهية الصغر لدى أرشميدس، والذي كان بالغ التأثير في الشرق الإسلامي، وفي الغرب اللاتيني معا [14] .

            وتتضح في هـذا الكتاب صيغ العمل الجماعي مثل: «وذلك ما أردناه»، «...وعلى ذلك المثال نبين...»، «نقول: فالسطوح المستديرة المحيطة بهذا الجسم جميعا أصغر من ضعف سطح دائرة»، «نريد أن نجد مقدارين ... » [15] ... إلخ.

            كما تتجلى في هـذا الكتاب أمانة الجماعـة العلمية؛ إذ أشارت إلى ما ليس لها فيه: «فكل ما وصفنا في كتابنا فإنه من عملنا، إلا معرفة المحيط من القطر فإنه من عمل أرشميدس، وإلا معرفة وضع مقدارين بين مقدارين لتتوالى على نسبة واحدة، فإنه من عمل مانالاوس» [16] .

            وفي القرن الثاني عشر لعبت ترجمة الكتاب اللاتينية: «العمل الهندسي للإخوة الثلاثة»، من قبل: جيرارد الكريموني دورا مهما في نقل أفكار أرشميدس ومناهجه إلى أوربا. ومن المعروف أنه كان ذا أثر كبير في عمل الرياضي ليوناردو فيبونانسي من مدينة بيزا في القرن الثالث عشر [17] . [ ص: 155 ] وهناك عمل جماعي آخر لجماعة بني موسى لا يقل أهمية عن سابقه ألا وهو كتاب: «الدرجات المعروفة» في الفلك. والمطلع على مقدمة هـذا الكتاب يدرك لأول وهلة أنه عمل جماعي من الدرجة الأولى؛ إذ أن الإخوة الثلاثة قد استعانوا بمجموعة من المترجمين لترجمة ما وجدوه عند اليونان من كتب في معرفة أحكام النجوم. ففي بداية الكتاب يقرر الإخوة الثلاثة أن اليونانيين قد نقلوا العلوم التجريبية من الهند؛ لأن العقلية اليونانية كانت عقلية نظرية فلسفية أكثر منها تجريبية، ولما نظروا هـم في الكتب الفلكية الموجودة على عهدهم وجدوها قد احتوت على أخطاء، لذا قرر الإخوة الثلاثة نقل كتب القدماء (اليونان) التي هـجرها المتأخرون لعدم فهمهم إياها، الأمر الذي كلفهم مشقة كبيرة -كجماعة متخصصة في علم الفلك- في تصحيح عبارات المترجمين وتهذيبها. تقول الجماعة: «إن القدماء من أهل اليونانية تسلموا علومهم التجريبية من الهند... ولما نظرنا في الكتب الموجودة إلى الآن في معرفة أحكام النجوم، وجدنا أكثرها حايدا عن الصواب، وعن ما سطره أولوهم، ووجدنا لقدمائهم كتبا قد هـجرها المتأخرون؛ لجهلهم كيفية استعمال ما فيها، وبعدها عن أذهانهم، فتكلفنا التعب الشديد في نقله إلى لغة العرب، واستعنا في ذلك بأفضل ما وجدناه من الناقلين في زماننا، واجتهدنا في تهذيب العبارة عنهم» [18] . [ ص: 156 ] ويعتبر كتاب: «الدرجات المعروفة» موسـوعة فلكية حاولت جماعة بني موسى أن تضعها بغرض إحياء علم الفلك الهندي واليوناني بعد تنقيحه وتصحيحه من الأخطاء التي وقفت عليها الجماعة، التي تقول: «ووجدنا لهم ثلاثة كتب؛ أحدها في طبائع الدرج التي في فلك البروج وخواصها في ذاتها، وإذا أحلت فيها الكواكب الصغار التي تسمى: المتحـيرة (السيارة) ... والثاني: كتاب كبير، وهو اثنتا عشرة مقالة في طبائع الدرج وخواصها إذا حلتها الكواكب العظيمة، وهي التي نسميها: البابانة، ووجدنا هـذا الكتاب قد اختل نظمه وتخلط وضعه، فأصلحناه إصلاحا يشهد لنفسه. والكتاب الثالث: في كيفية حال البروج في درج البروج مع اتصالات الكواكب المتحيرة إذا مزجت بالبابانة، وهذا الكتاب لم نجده كاملا، وقد نقلنا ما وجدناه منه وأصلحناه» [19] .

            أما أهم وأشهر عمل جماعي لجماعة بني موسى، فهو كتاب: «الحيل»، «مجلد واحد عجيب نادر يشتمل على كل غريبة» [20] . وبهذا الكتاب ارتبط اشتهار بني موسى حتى يومنا هـذا أكثر من أي كتاب آخر لهم. ولعل ذلك يرجع إلى أنه أول كتاب علمي عربي يبحث في الميكانيكا؛ وذلك لاحتوائه على مائة تركيب ميكانيكي. [ ص: 157 ] وترجع أهمية هـذا الكتاب أيضا إلى أن التقاليد العربية المدونة في علم الحيل تبدأ به. ومن الطبيعي أنه كانت تتوفر لدى جماعة بني موسى بعض الكتب اليونانية مما خلفه علماء مدرسـة الإسـكندرية. ولكن تأليف كتاب (الحيل) بما يشتمل عليه من إبداع في تصميم الوسـائل الميكانيكية -الهيدروليكية- لم يكن ليتم بمجرد الاطلاع على الكتب اليونانية؛ إذ لا بد من توفر المناخ السياسى والاجتماعي والثقافي والمهارة الدقيقة في الصناعات والفنون حتى تتمكن الجماعة -وخاصة أحمد- من أن تخترع وتصمم بهذا الشكل. ومن المعلوم كذلك أن الآلات المائية ازدهرت في سوريا طيلة القرون السابقة للإسلام، وكانت هـناك تقاليد عريقة ومهارات صناعية وحرفية متوارثة في هـذه البلاد سرعان ما أصبحت جزءا من الحضارة العربية الإسلامية.

            ومن هـنا فإن المصادر التي مكنت بني موسى من تصميم هـذه الأدوات والتجهيزات كانت عديدة، وكانت المصادر المكتوبة باليونانية واحدة منها [21] .

            وإذا كان بنو موسى قد دونوا في كتابهم هـذا كيفية تركيب مائة عمل ميكانيكي، فإننا نتساءل عن طبيعة النهج الذي انتهجوه في تصميم آلاتهم تلك ووصفها، فهل قام كل منهم بتركيب عدد من الآلات منفردا، ثم قاموا «بضم» أعمال الثلاثة في كتاب واحد كتبوا على غلافه: «كتاب الحيل، تصنيف بني موسى بن شاكر»؟ أم أنهم عملوا كفريق عمل جماعي في تركيب الآلات، وتصنيف الكتاب؟ [ ص: 158 ] الحقيقة أنه على الرغم من أن هـناك [22] من ينسب «كتاب الحيل» إلى المهندس أحمد بن موسى بن شاكر ؛ استنادا إلى أنه كان تكنيكيا متحمسا، مهتما بالميكانيكا أكثر من أخويه، إلا أننا لم نجد تركيبا واحدا من بين تركيبات الكتاب المائة، قام أحمد بوصفه منفردا، بل الواضح الجلي أن الكتاب ينطق من أوله إلى آخره بصيغة الجماعة، حيث يبدأ هـكذا: قال محمد والحسن والحسين (أحمد) : الشكل الأول، نريد أن نبين كيف نعمل كأسا يصب فيه مقدار من الشـراب أو الماء، فإن زيـد عليه زيادة بقدر مثقال من الشراب أو المـاء خرج كل شيء فيـه [23] ... ونريد أن نبين كيف نعمل جرة لها بزال مفتوح، إذ صب فيها الماء لم يخرج من البزال شيء، فإذا انقطع الصب خرج الماء من البزال، فإذا أعيد الصب انقطع أيضا، وإن قطع الصب خرج الماء. وهكذا لا يزال [24] ... ونريد أن نبين كيف نعمل جرة لها بزال واحد، إن صب فيها الشراب يخرج من البزال، وإن صب فيها الماء أو غـيره من الرطـوبات لم يخرج من البزال شيء، وهذه حيلة عجيبة وفيها مواربة [25] ... ونريد أن نبين كيف نعمل فوارتين يفور من أحدهما شبه القناة ومن الآخر شبه السوسنة مدة من الزمان، ثم يتبدلان فيخرج من التي كانت تفور قناة سوسنة، ومن التي كانت تفور سوسنة قناة مقدار ذلك من الزمان، ثم يتبدلان أيضا مقدار ذلك من الزمان، ولا يزال على هـذا ما دام الماء ملصقا فيها [26] . [ ص: 159 ]

            وهكذا يتضح من النصوص المختارة من «كتاب الحيل» أنها صيغت صياغة جماعية، وهذه الصياغة تنطبق على كل تركيبات الكتاب المائة، فلم يتضمن الكتاب أي تركيب قد صاغ وصفه أحد أفراد الجماعة كأن يقال مثلا: قـال محمد بن موسـى، أو قال أحمد بن موسـى، أو قال الحسن بن موسى، فمثل هـذه الصيغ ليس لها أي مكان في «كتاب الحيل» تصنيف بني (جماعة) موسى بن شاكر.

            ومع الأهمية الكبيرة التي اكتسبها «كتاب الحيل» على مدار تاريخ العلم وحتى يومنا هـذا، فإن هـذه الأهمية ربما تسمح لنا بتقرير أهمية وقيمة العمل الجماعي، أو فريق العمل في المجال العلمي.

            لقد أثر هـذا الكتاب في الأجيال اللاحقة لجماعة بني موسى، فبديع الزمان بن الرزاز الجزري (القرن السادس الهجري) قد استفاد من «كتاب الحيل» في وضع كتاب: «الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل». كما أفاد «كتاب الحيل» أيضا تقي الدين بن معروف الراصد الدمشقي (القرن العاشر الهجري) في تأليف كتاب: «الطرق السنية في الآلات الروحانية». وقد شكلت هـذه الكتب مجتمعة حلقة مهمة في سلسلة تاريخ [ ص: 160 ] علم الميكانيكا؛ إذ أنها تكشف عن إنجازات العقلية العربية الإسلامية في فترة طويلة من فتراتها.

            وقد امتدت أهمية «كتاب الحيل» إلى العصر الحديث، وأفاد منه العلم الغربي، الأمر الذي جعل أساتذة أكسفورد الذين وضعوا كتاب «تراث الإسلام» في أربعينيات القرن العشرين يصرحون بأن عشرين تركيبا ميكانيكيا من محتويات الكتاب ذو قيمة علمية كبيرة [27] .

            ولم يقتصر تأثير جماعة بني موسى في الغرب على «كتاب الحيل» فنحن مدينون -على رأي كارا دي فو - بعدد من الكتب لهؤلاء الأشقاء الثلاثة؛ أحدهم في: «مساحة الأكر وقياس الأسطح»، ترجمة: «جيرارد الكريموني» إلى اللاتينية بعنوان: [28] Frabrum (1) Liber Thiun. وقد أسهم هـذا الكتاب في تطور الهندسة الأوربية مدة طويلة.

            لقد قدمت جماعة بني موسى من خلال مؤلفاتها إسهامات جليلة في العلوم التي بحثوا فيها. وقد حصر المشتغلون بتاريخ العلوم تلك الإسهامات، ومنها : وضع نظرية ارتفاع المياه التي لا تزال تستخدم حتى اليوم في عمل [ ص: 161 ] النافورات، اختراع ساعة نحاسية دقيقة، قياس محيط الكرة الأرضية، والذي أخرجوه مقتربا من محيطها المعروف حاليا، اختراع تركيب ميكانيكي يسمح للأوعية بأن تمتلئ ذاتيا كلما فرغت، ابتكار طرق لرسم الدوائر الإهليجية (الدوائر المتداخلة) ، تأسيس علم طبقات الجو، تطوير قانون هـيرون في معرفة مساحة المثلث. وفي كتبهم أيضا وصف لقناديل ترتفع فيها الفتائل تلقائيا، ويصب فيها الزيت ذاتيا، ولا يمكن للرياح إطفاؤها، وآلات صائتة تنطلق منها أصوات معينة كلما ارتفع مستوى الماء في الحقول ارتفاعا معينا، ونافورات تندفع مياهها الفوارة على أشكال مختلفة وصور متباينة، ولهم كذلك وصف للآلات الموسيقية ذات الحركة الذاتية مثل النأي.

            ولقد أجمع مؤرخو العلم على أن هـذه الأعمال تدل على عبقرية وذهن متوقد مبدع، اتسم به أفراد جماعة بني موسى بن شاكر ، وقدموا كجماعة، منظومة علمية ومعرفية مهمة شغلت مكانا رئيسا في تاريخ العلم بعامة، وتاريخ التكنولوجيا بخاصة. [ ص: 162 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية