الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            علوم حضارة الإسلام ودورها في الحضارة الإنسانية

            الدكتور / خالد أحمد حربي

            أولا: قوام المعرفة الطبيةالسابقة على الرازي

            1 - النظريات الطبية السائدة

            إن البحث في هـذه المسألة يتطلب الإشارة إلى بدايات بعض النظريات الطبية التي سادت في عصر الرازي؛ إذ أن مرحلة الابتكار والإبداع لدى الأطباء المسلمين لم تولد فجأة، بل إنها قد تأثرت بما قبلها من معرفة طبية كانت موجودة لدى الحضارات الأخرى، لاسيما الحضارة اليونانية، التي أخذت بدورها من الحضارة المصرية القديمة.

            والدارس لتاريخ العلم يعرف تماما كيف شهدت مصر القديمـة نهضة طبية [1] اشتملت على معرفتهم لكثير من فنون الطب والتطبب، فهناك [ ص: 82 ] الكثيـر من الإسهامات المصرية القديمة في المجال الطبي



            [2] ، وهو ما كشفت عنه بعض البرديات التي أكتشفت في القرن الماضي، مثل بردية Edwinsmith (نشـرت عام 1929م) ، وEber (نشـرت عام 1962م) ، وChesterbetty، وHearst وغيرها، والتي أوضحت مدى الشوط الذي قطعه قدماء المصريين في تقدم علم الطب، وكيف أنهم عمدوا إلى التجريب العلمي الصحيح في كل فروعه، وخاصة مجال طب المخ والأعصاب.

            ويبدو من النصائح التي أشاروا إليها على لسان كبار أطبائهم أنه كانت هـناك مدارس تعليمية للطب مكنتهم من وضع نظرية علمية طبية، استفاد منها أطباء اليونان في بناء حضارتهم.

            وإذا كان الطب المصرى قد نزع إلى التجريب، فإن الطب اليوناني قد اتخذ من صياغة النظريات المجردة سبيلا. [ ص: 83 ] ويمكن القول: إن التفكير الطبي اليوناني قد بدأ يبلغ مرحلة النضوج على يد أبقراط (ولد عام 460 ق. م) ، الذي تضلع في العلوم الطبيعية، فأدخل الطب في إطار عملي قائم على «الفحص الإكلينيكي، Clinical Observation»، والاستنتاج المنطقي السليم [3] .

            وبعد مضي زمن على أبقراط، أصيبت تعاليمه بالجمود، واستقرت في قضايا صلبة، حيث اكتفى الأطباء بمحاولة تفسير النصوص. أما جوهر طريقته؛ وهو الملاحظة الحرة الطليقة والبحث عما يفيد المرضى، فقد أصبح شيئا ثانويا لا يبالي به الأطباء [4] . فنهضت مدرسة الإسكندرية التجريبية Empirical School ضد هـذا التيار العقلي المتزمت، وأعلنت أنها لا تهتم بعلل الأمراض كما تـهتم بعلاجـها، فليس المهم أن نعرف ماهية الهضم -مثلا- بل ما هـو سهل الهضم [5] . وهذا ما نجده عند أشهر من نبغ في هـذه المدرسة، وهو جالينوس (ولد حوالي 130م) [6] ، الذي جدد من علم أبقراط، وشرح من كتبه ما كان قد درس وغمض على أهل زمانه. وقد أسس جالينوس نظرياته وتعاليمه على معلوماته الدقيقة التي استنبطها من تشريح الحيوان، وملاحظة وتفحص الجرحى والمرضى. [ ص: 84 ] ولقد ظلت الإسكندرية مركز إشعاع ضخم للعالم القديم كله، وقد استمر ذلك الحال إلى أن انتقلت الحركة الطبية من الإسكندرية إلى موقع السلطة العلمية في بغداد خلال العصر العباسي الثاني.

            من كل ما سبق أستطيع أن أقدم صورة لبعض النظريات الطبية التي كانت سائدة في عصر الرازي، ذلك الذي يعتبر العصر الذهبي الذي شهد حركة انتقال العلوم إلى المسلمين. تلا ذلك مرحلة الإبداع والابتكار، والتي أرى أنها قد ابتدأت بالرازي في المجال الطبي.

            وعلى ذلك، فإن ما شاع من نظريات طبية قد انتقلت إلى المسلمين من أسلافهم، خاصة اليونانيين، وبصفة أخص أبقراط وجالينوس.

            وهاك أشهر نظرية قديمة سادت في عصر الرازي وبعده، وهي « نظرية الأخلاط »، وأعرضها هـنا من خلال شرح الرازي لها.

            - نظرية الأخلاط:

            يرى الرازي أن الأشياء الطبيعية، أو العوامل الطبيعية المؤثرة في حدوث المرض تنقسم إلى سبعة أقسام:

            استقصات، ومزاجات، وأخلاط، وأعضاء، وقوى، وأرواح، وأفعال [7] .

            والاستقصات أربعة: نار حارة يابسة، وهواء حار رطب، وماء بارد رطب، وأرض باردة يابسة. والأصول هـذه هـي التي توجد حواسنا، [ ص: 85 ] ومنها خلق الله جميع الخلق، والبهائم، وإليها ترجع إذا انحلت تراكيبها. وقوام كل شيء في هـذا العالم بهذه الأربع أمهات، ومنها يتكون ويتراكب.

            والمزاجات تسعة: واحد منها مستو؛ وهو المزاج المعتدل، وثمانية غير مستوية؛ وهي المزاجات الخارجة عن الاعتدال. أربعة منها مفردة: حار، بارد، رطب، يابس. وأربعة مؤلفة: حار يابس، وحار رطب، وبارد يابس، وبارد رطب [8] .

            والأخلاط (الأمشاج) أربعة: دم، بلغم، مرة صفراء، ومرة سوداء. والبلغم منه حلو، وهو حار رطب، ومنه مالح، وهو حار يابس. ومنه حامض، وهو بارد يابس. ومنه مسيخ وهو بارد رطب. ومنه نوع خامس زجاجي، وهو أبرد أنواع البلغم وأرطبها، ولا يستحيل إلى الدم.

            وكل خلط يخرج من الفم بالقيىء أو بالبصـاق، أو ينحدر من الرأس، أو يخرج من الفم بالتنخع، ولا طعم له في طبيعته، يسمى: بلغما. والبلغم يتولد في البدن من أطعمة باردة رطبة في الهضم الأول الكائن في المعدة. وهو يتولد من غذاء يستحكم انهضامه. ولذلك لم تحدث الطبيعة له وعاء يقبله كالعروق والأوردة التي هـي وعاء للدم، وكالمرارة التي هـي وعاء للصفراء، وكالطحال الذي هـو وعاء للسوداء. فما صار منه إلى الكبد وجداوله، استحال وصار دما، وما بقي منه في الأمعاء ولم ينحدر إلى الكبد اندفع من [ ص: 86 ] الأمعاء وانغسل بالمرة الصفراء، المنقية للأمعاء، الغاسلة لها بحدتها وحرافتها. والمرة الصفراء: منها ما يتولد في الكبد، ومنها ما يتولد في المعدة [9] .

            أما المتولدة في المعدة فهي ثلاثة أنواع: النوع الأول منها يسمى: الكراثي؛ لأن خضرته تشـبه لون الـكراث. والنوع الثاني يسمى: الصدى أو الزنجاري؛ لأن لونه شبيه بلون الزنجار. والنوع الثالث يسمى: النيلجي؛ لأن لونه يشبه لون النيليلج.

            والمرة السوداء نوعان؛ النوع الأول: المرة السوداء الطبيعية؛ وهي عكرة الدم، ويسميها الحكماء: الخلط الأسود، ولا يسمونها: السوداء؛ ليفصلوا ما بين المرة السوداء الطبيعية، والمرة السوداء الخارجة عن الطبيعة.

            والنوع الثاني من المرة السوداء خارجة عن الطبيعة ويكون من الاحتراق، وهذا النوع لا يخلو أن يكون إما من احتراق الخلط المسمى: الخلط الأسود، الذي هـو عكر الدم، وإما من احتراق المرة الصفراء بإفراط الحرارة عليها، وإما من احتراق الدم إذا احتد وفسد [10] .

            كانت هـذه أشهر نظرية سادت الفكر الطبي في عصر الرازي. وتعتبر «نظرية الأخلاط» هـذه خير مثال على تأثر النظريات الطبية بالأفكار الفلسفية، فقد قال انباذوقليس (490-340 ق.م) : إن العناصر الأربعة: الماء، والنار، والتراب، والهواء، هـي الأصول الأولى للأشياء جميعا [11] . [ ص: 87 ] والجسم الإنساني مزيج من هـذه العناصر أو الأركان بما لكل منها من طبائع، إذا امتزجت في تناسق وتناسب؛ كيفا وكما، كانت الصحة، وعن أي إفراط أو تفريط يلزم اختلال يتولد عنه المرض [12] .

            وقد تبنى أرسـطو هـذه النظرية في تفسـيره لتركيب الأشياء الطبيعية، وتابعه الفلاسفة المسلمون [13] في مجال الفلسفة، كما تبناها أبقراط في مجال الطب [14] . وقد تبعه الأطباء في التسليم بهذه النظرية (الأخلاط الأربعة) عبر تاريخ الطب الطويل حتى العصر الحديث [15] .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية