الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            الفصل الأول

            الخوارزمي أنموذجا للعلوم الرياضية

            1 - موجز حياته وتكوينه العلمي [1]

            هـو أبو عبد الله محمد بن موسى (182-232هـ،798-846م) ، والخوارزمي نسبة إلى خوارزم، من أعمال روسيا حاليا، والتي ولد بها. أما عن طفولته وحياته الأولى فقد اكتنفها الغموض؛ نظرا لأن معظم كتب التراجم والمراجع العربية لم تتضمن معلومات كافية عن هـذه الفترات من حياته.

            نشأ الخوارزمي في إقليم « خوارزم »، وكان هـذا الاقليم من أعظم مراكز الثقافة الإسلامية، حيث كانت خوارزم سوقا للحركة العلمية، وفيها نشأ كثير من العلماء الذين اتصلوا ببيت الحكمة المأموني ببغداد. وقد توافرت للخوارزمي كل الأسباب التي جعلته ينال حظا وافرا من العلوم الرياضية والفلكية.

            يعتبر الخوارزمي أول من كتب في علم الجـبر والمقابلـة، بحسـب ابن خلدون [2] الذي يصنفه ضمن فروع الحساب. ومع أن الخوارزمي قد [ ص: 33 ] اشتهر بأعمالة الرياضية (الرياضيات) أكثر من الفلكية، إلا أننا نجد بعض كتب التراجم تذكر شهرته الفلكية فقط. فابن النديم [3] يروي أنه كان منقطعا إلى خزانة الحكمة للمأمون، وهو من أصحاب علوم الهيئة . وكان الناس قبل الرصد وبعده يعولون على زيجيه، الأول والثاني، ويعرفان بالسندهند. وله من الكتب: كتاب: الزيج، نسختين أولى وثانية. كتاب: الرخامة، كتاب: العمل بالإسطرلاب، كتاب: عمل الإسطرلاب، كتاب: التاريخ.

            أما القفطي [4] فنراه -كعادته- ينقل من الفهرست نقلا حرفيا، ولم يزد على كلام ابن النديم سوى كتاب: الجبر، والمقابلة للخوارزمي، والذي لم يذكره ابن النديم، فضلا عن عدم ذكره لكتبه في الحساب.

            أما المسعودى [5] فيصنف الخوارزمي ضمن المؤرخين الذين ألفوا كتبا في التاريخ والأخبار ممن سلف وخلف.

            واللافت للنظر في كلام ابن النديـم والقفطي والمسـعودى أنه لم يشتمل على أية كتب في الجبر والحساب، مع أن شهرته الرياضية فاقت شهرته الفلكية التي تحدث عنها صاحب الفهرست، وصاحب الأخبار، وشهرته التاريخية التي قال بها صاحب المروج. ومثل هـذا الأمر يجعلنا نتوخى التدقيق والتمحيص في تعاملنا مع كتب التراجم التراثية. [ ص: 34 ] وإذا انتقلنا إلى المؤرخين المحدثين، وجدنا « كارل بروكلمان » يذكر أن أقـدم مؤلف له بأيدينا كتاب في عـلم الرياضة هـو أبو عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي الذي عمل في « بيت الحكمة » في عهد الخليفة المأمون ، وتوفي بعد سنة 232هـ حسبما ذكر نيلينو . وقد ألف للمأمون موجزا في علم الفلك الهندي يعرف بـ: السندهند، وتصحيحا للوحات بطليموس ، ولكن لم يكتسب شهرة كبيرة إلا بكتابه في «الجبر» الذي ابتكر تسميته بذلك، وكتابه في الحساب، وقد ترجما إلى اللاتينية في زمن مبكر، وظلا في أوربا أساسا لعلم الحساب حتى عصر النهضة [6] .

            المهم أن الخوارزمي بعد أن حصل قدرا كبيرا من علوم الرياضة والفلك في « خوارزم »، فكر في الانتقال إلى بغداد عاصمة الدولة والخلافة، وفيها يقيم الخليفة، وهي مطمع أنظار العلماء النابهين، وليس بعيدا أن يكون المأمون ، وهو الشغوف بحب العلماء قد عرف الكثير عن عبقرية الخوارزمي، فبعث إليه يستقدمه إلى بغداد، ولم يجد الخوارزمي صعوبة في الاتصال بهذا الخليفة المحب للعلم، فولاه منصبا كبيرا في بيت الحكمة، ثم أوفده في بعض البعثات العلمية إلى البلاد المجاورة ومنها بلاد الأفغان ، وكان الهدف من هـذه البعثات هـو القيام بالتحقيقات العلمية والبحث والدرس، والاتصال بعلماء [ ص: 35 ] تلك البلاد وزيارة مكتباتها والحصول على أنفس الكتب والمخطوطات [7] . ولعل ذلك الاهتمام العلمي هـو ما قد يكون ميز هـذا العصر الذي سمي: العصر الذهبي للإسلام؛ حيث اختص بكثير من الخلفاء والأمراء الذين شجعوا الحركة العلمية وهيئوا الجو المناسب لازدهار العلم وإبداع العلماء، فأنشئوا المدارس والمكتبات ودور العلم، وجدوا واجتهدوا في البحث عن الكتب القديمة القيمة والمخطوطات، فحصلوا عليها، وتنافسوا في تقدير العلم واجتذاب العلماء. وكان العلماء على مستوى الأمة الإسلامية يتمتعون بالحصانة والحرية، ولا يتأثرون بالخلافات السياسية أو الطائفية، ويعتبر الشعور بالإمان والاستقرار الذي أحسه العالم في مزاولة عمله من أهم مظاهر الحركة العلمية في عصر الإسلام. وقد أدت تلك العوامل مجتمعة إلى وجود البيئة العلمية الصالحة لنشأة العلم وتطوره [8] .

            وقد ذكرت معظم كتب التراجم، وكذلك كل الذين كتبوا عن الخوارزمي من شرقيين وغربيين أنه كان منقطعا إلى بيت الحكمة المأموني منذ قدومه بغداد ، ممارسا للنشاط العلمي بكل مظاهره، حتى ولاه المأمون رئاسة البيت. [ ص: 36 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية