الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            علوم حضارة الإسلام ودورها في الحضارة الإنسانية

            الدكتور / خالد أحمد حربي

            الفصل السادس

            نتائج الدراسة

            بعد أن استعرضت كل جوانب موضوع الدراسة -من وجهة نظري- فعلي الآن أن استخلص نتائجه من خلال الإجابة عن الأسئلة التي طرحتها في مقدمة هـذه الدراسة وللإجابة عنها أطرح النقاط التالية:

            بينت الدراسة في الفصل الأول الخاص بالخوارزمي كأنموذج للعلوم الرياضية، ومدى أثرها في (الآخر) ، كيف بدأ تكوين الخوارزمي العلمي؟ ومدى أثر هـذا التكوين في إنجازاته العلمية فيما بعد. ثم وقفت بصورة موجزة على التطور العلمي والتاريخي للرياضيات؛ وذلك بغرض معرفة أبعاد الإنجاز الذي تم على يد الخوارزمي باعتباره أهم علماء الرياضيات في القرن الثالث الهجري. وكل ذلك قادني بطبيعة الحال إلى التعرف على أبعاد إنجازات علماء المسلمين خلال عصر الخوارزمي؛ وذلك لكي أقف على مدى تأثر هـؤلاء العلماء بالخوارزمي، والأهم مدى تأثر (الآخر) به، فوجدت أن تأثير الخوارزمي لم يمتد إلى علماء الرياضيات المسلمين في العصور اللاحقة فقط، بل امتد إلى العالم الغربي، أو (الآخر) ، فلقد رأينا كيف اعترف أصحاب كتاب: «تاريخ كمبردج للإسلام» بأن الخوارزمي هـو المسئول بصورة أساسية عن تأسيس علم الجبر. وقد جاءت معرفة الغرب لكتاب: «الجبر والمقابلة»، عن طريق الترجمات اللاتينية التي وضعت له، فلقد [ ص: 163 ] ترجم «جيرارد الكريموني» الأصل العربي لكتاب «الجبر والمقابلة» إلى اللغة اللاتينية في القرن الثاني عشر للميلاد. وترجمه أيضا «روبرت الشستري» وأصبح أساسا لدراسات كبار علماء الرياضيات الغربيين.

            وإلى مصنفات الخوارزمي الأخرى يرجع الفضل في نقل الأرقام الهندية -العربية- إلى الغرب، حيث سميت باسمه أول الأمر algorisms (الغوريتمي) ، ثم جعل الألمان من الخوارزمي اسما يسهل عليهم نطقه، فأسموه: Algorizmus، ونظموا الأشعار باللاتينية تعليقا على نظرياته. وما زالت القاعدة الحسابية (Algrithmus) حتى اليوم تحمل اسمه كرائد لها. وقد نشر «فردريك روزن» كتاب «الجبر والمقابلة» سنة 1831م في لندن، ونشر «كارنبسكي» ترجمة أخرى مأخوذة من ترجمته «الشستري» سنة 1915م.

            ومن هـنا يتضح أن أعمال الخوارزمي في علم الرياضيات قد لعبت في الماضي والحاضر دورا مهما في تقدمه؛ لأنها أحد المصادر الرئيسة التي انتقل من خلالها الجبر والأعداد العربية إلى الغرب. فعلم الجبر من أعظم ما اخترعه العقل البشري من علوم؛ لما فيه من دقة وأحكام قياسية عامة. والخوارزمي هـو الذي وضع قواعده الأساسية وأصوله الابتدائية كما نعرفها اليوم.

            ومن كل ما سبق أستطيع الزعم بأن الخوارزمي صاحب مدرسة رياضية ممتدة، لعبت دورا مهما في تطور الرياضيات منذ أن بدأ صاحبها هـذا التطور، وذلك عندما انتقل من الحساب إلى الجبر، والذي اعترف العالم أجمع بأنه واضعه الحقيقي. وذلك يعد من أبرز نماذج تأثير (الأنا) في (الآخر) . [ ص: 164 ] وفي الفصل الثاني تم الحديث عن جابر بن حيان كأنموذج لعلم الكيمياء، فرأينا كيف أن الفكر اليوناني، ومدرسة الإسكندرية، وأيضا الثقافة الإسلامية كانت بمثابة البنية المعرفية التي انطلق منها، ولكنه انتهى إلى نتائج علمية تختلف بالنوع والكيف وليس بالدرجة عن الفكر اليونانى، حيث أسهم جابر في بناء المنهج التجريبي في مقابل المنهج التأملي العقلي الذي برع فيه اليونان. وقد مثلت مسألة إمكان قيام علم الكيمياء في العقل والفعل على حد سواء أهم البنيات الأساسية التي دارت حولها معظم أبحاث جابر الكيميائية، والتي أوضحت قيام علم الكيمياء في مقابل امتناع أو بطلان هـذا العلم أصلا عند بعض العلماء والفلاسفة.

            أما إنجازات جابر الكيميائية، وكذلك مؤلفاته، فلقد رأينا كيف أثرت تأثيرا بالغا في الكيميائيين اللاحقين له، سواء على المستوى العربي أو الغربي. فجابر من أبرع وأعظم الكيميائيين العرب، عرف كثيرا من العمليات الكيميائية كالتبخير والتقطير والترشيح والتكليس والإذابة والتبلور والتصعيد. وبفضل تطبيقه للمنهج التجريبي يعد جابر بن حيان أول من استحضر حامض الكبريتيك بتقطيره من الشبه، وسماه: زيت الزاج، واستخرج حامض النيتريك (ماء الفضة) ، وهو أول من اكتشف الصودا الكاوية، وأول من استخرج نترات الفضة، وثاني أكسيد الزئبق، وحامض النيتروهيدروكلوريك (الماء الملكي) . وينسب إليه أيضا استحضار مركبات أخرى مثل كربونات البوتاسيوم، وكربونات الصوديوم، وكربونات الرصاص القاعدي، والزرنيخ والأثمد (الكحل: كبريتيد الأنتيمون) . وهو أول من أدخل طريقة فصل الذهب [ ص: 165 ] عن الفضة بالحل بواسطة الحامض، ولا تزال هـذه الطريقة تستخدم إلى الآن في تقدير عيارات الذهب في السبائك الذهبية، وغيرها من الإنجازات التي جعلت جابر بن حيان صاحب مدرسة كيميائية مميزة لها إنجازاتها العلمية المهمة، وكانت بمثابة الأسس الأولية والضرورية التي عملت على تطور الكيمياء العربية فيما بعد عصر جابر، وساعدت في تأسيس علم الكيمياء الحديث.

            ومن دلائل ذلك أن مؤلفات جابر قد ترجمت إلى اللاتينية في وقت مبكر بمعرفة «روبرت الشستري» (ت 1144م) ، «وجيرارد الكريموني» (ت1187م) وترجم أيضا «مجموع الكمال»: لجابر بن حيان إلى الفرنسية سنة 1672م، وهذا ما حدا «بالمسيو بارتيلو» في كتابه «الكيمياء في العصور الوسطى» المنشور في باريس عام 1893 أن يعلن أن جابر في الكيمياء في مكان أرسطو في المنطق، وينشر «بارتيلو» في كتابة ستة مؤلفات لجابر، اعتبرها ممثلة لكل المادة الكيميائية العربية التي أدت إلى قيام علم الكيمياء الحديث. وبهذا يتضح تأثير (الأنا) في (الآخر) بصورة جلية في مجال علم الكيمياء.

            أما علم الطب موضوع الفصل الثالث، الذي اتخذ أبا بكر الرازي أنموذجا له، فلقد تحدثت فيه عن: قوام المعرفة الطبية السابقة على عصر الرازي، والمنطلقات الإبستمولوجية (المعرفية) التي انطلق منها الرازي، وأثر (الآخر) فيها، والنشاط العلمي في عصر الرازي، ومدرسة الرازي العلمية، ومنهج البحث العلمي عنده، واختتمت الفصل بالحديث عن إنجازات الرازي الطبية وأثرها في اللاحقين له، وفي (الآخر) . وقد قادني البحث في هـذه النقاط إلى أن أصل إلى النتائج التالية: [ ص: 166 ] وجد الرازي نفسه أمام التراث الطبي المنقول -عبر حركة الترجمة- فتوافر عليه بالدراسة ودون كثيرا من نظرياته في كتبه، وليس أدل على ذلك من كثرة استعماله للفظة «لي» بعد انتهاء الفقرات المقتبسة من الآخرين، وذلك في معظم كتبه، لا سيما «الحاوي». ولكن الرازي لم يسلم بآراء السابقين إلا بعد النقد والتمحيص والاختبار. فقد ثار على ما وجده في الكتب من آراء لا يقبلها العقل، ولا تثبتها الملاحظة والتجربة. والنتيجة التي زودنا بها الرازي في هـذا الصدد تتمثل في تفصيل دقيق للجانب النقدي العقلاني، وهذا ما أدى بالضرورة إلى أن تصدر نظرياته عن اختبار دقيق للأفكار. وقد أثرت هـذه الخاصية في الأطباء الذين جاءوا بعده وتأثروا بكتاباته، إذا أصبح علم الطب عندهم يستند بالأصول والقواعد التي أرساها الرازي؛ سواء من حيث الجانب «الإكلينيكي» والسريري، أو من حيث الجانب التعليمي الأكاديمي الذي يأخذ في اعتباره طريقة التعليم والدرس. وقد امتد هـذا الأثر فيما بعد إلى أوروبا، وأثر في الأطباء إبان عصر النهضة.

            أما المنهج الذي اتبعه الرازي في الوصول إلى ما وصل، فلقد استخدم الرازي المنهج التجريبي القائم على الملاحظة والاختبار، والذي لعب دورا أساسيا لديه؛ إذ به تحرر فكريا من تأثير المذاهب والنظريات السابقة عليه، ولم يرض بالتسليم بما تتضمنه إلا بعد إقرار التجربة بذلك.

            ولقد وجدت عند الرازي مراحل للمنهج التجريبي، بصورتيه التقليدية والمعاصرة؛ إذ أنه لم يقف على خطوات ثابتة لخطوات ذلك المنهج (الملاحظة، [ ص: 167 ] التجربة، فرض الفروض، التحقق من الفروض) . كما وجدت الرازي يتفق مع علماء المناهج المعاصرين؛ ذلك لأنه يقترب من المنهج العلمي الحديث الذي يعرف بالمنهج الفرضي الاستنباطي، ويقوم على الاندماج بين المنهجين الاستنباطي والاستقرائي، وقد قدمت النصوص الدالة على ذلك، والتي اتضح منها أن الرازي كان متسقا مع ما وصل إليه عن طريق تطبيق هـذا المنهج.

            مثل التراث الطبي السابق على الرازي مع تعلمه على أستاذه أبي الحسن علي بن ربن الطبري الأسس المعرفية، أو المنطلقات الإبستمولوجية، التي حددت فكر الرازي فيما بعد، وانتهى منها إلى معارف جديدة عندما بلغ طور النضج والابتكار. فقد جاء الرازي بآراء واكتشافات علمية وعلاجية أصيلة، عبرت بحق عن روح الإسلام وحضارته العلمية إبان عصورها المزدهرة، وكان لها تأثير بالغ في أطباء الحضارة الإسلامية اللاحقين للرازي، وفي أطباء العالم الغربي، أو (الآخر) في العصور الحديثة. فكتاب الرازي «الحاوى» من أهم الموسوعات في المجال الطبي والعلاجي، التي أثرت تأثيرا بالغا على الفكر العلمي في الغرب؛ إذ ينظر إلى هـذا الكتاب عادة على أنه أعظم كتب الطب قاطبة حتى نهاية العصور الحديثة.

            فالرازي هـو أول من وصف مرض الجدري والحصبة، وأول من ابتكر خيوط الجراحة المسماه «بالقصاب»، وتنسب إليه عملية خياطة الجروح البطنية بأوتار العود. ويعتبر الرازي أول من اهتم بالجراحة كفرع من الطب قائـم بذاته، ففي «الحاوي» وصـف لعمـليات جراحية تكاد لا تختلف [ ص: 168 ] عن وصف مثيلتها في العصر الحديث. وهو أيضا أول من استعمل حبات «الاسفيداج» في علاج العيون، وكشف طرقا جديدة في العلاج، فهو أول من استعمل الأنانيب التي يمر فيها الصديد والقـيح والإفرازات السـامة. كما استطاع أن يميز بين النـزيف الشرياني والنـزيف الوريدي، واستخدم طريقة التبخير في العلاج.

            ولقد أسهم الرازي في مجال التشخيص بقواعد لها أهميتها حتى الآن، منها: المراقبة المستمرة للمريض، والاختبار العلاجي، وهو يعطي العليل علاجا مراقبا أثره، وموجها للتشخيص وفقا لهذا الأثر. ومنها أهمية ودقة استجواب المريض، فينبغي للطـبيب أن لا يدع مسـاءلة المريض عن كل ما يمكن أن يتولد عن علته من داخل، ومن خارج، ثم يقضي بالأقوى. ومنها أيضا العناية بفحص المريض فحصا شاملا على اعتبار أن الجسم وحدة متماسكة الأعضاء، إذا اختل واحد منها «تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى».

            ولقد اعتمدت نظرية الرازي الأساسية في التشخيص على التساؤل عن الفرق بين الأمراض، فمن الإسهامات الأصيلة التي قدمها الرازي للطب تفرقـته بين الأمراض المتشابـهة الأعراض، وهذا ما يطلق عليه الآن التشخيص التفريقي «Diff Diagnosis»، والذي يعتمد على علم الطبيب وخبرته وطول ممارسته وذكائه، وقوة ملاحظاته. وقد توفر كل ذلك في الرازي.

            وجملة القول: إن الرازي قدم إسهامات طبية وعلاجية رائدة، عملت على تقدم علم الطب، وأفادت منها الإنسانية، ولم يستطع أحد أن ينكرها. [ ص: 169 ] فالرازي حجة الطب في العالم منذ زمانه وحتى العصور الحديثة، وذلك باعتراف الغربيين أنفسهم، أو بالأحرى (الآخر) .

            أما الفصل الرابع الذي جاء بعنوان: «إبداع الطب النفسي العربي الإسلامي وأثره في الآخر»، فقد حاولت فيه الإتيان بالشواهد التي تؤيد وتعزز وتبرر هـذا العنوان؛ لعله يتضح ويتبين منها مدى الشوط الذي قطعه أطباء العرب والمسلمين في مجال الطب النفسي، فرأينا كيف أن هـذا الفرع المهم من الطب يعد ابتكارا عربيا إسلاميا خالصا. ففي الحضارة اليونانية كان يعتقد أن الشفاء من الأمراض النفسية يستلزم أن ينام المريض في هـيكل خاص، حيث يتم شفاؤه بمعجزة تحل بجسده في الليلة الوحيدة التي يقضيها في ذلك الهيكل، فإن لم تحل هـذه المعجزة في تلك الليلة لن يشفى المريض طيلة حياته.

            وفي العصور الوسطى الغربية كان يعامل أصحاب هـذه العلل أسوأ معاملة، فكانوا يوضعون في سجون مظلمة، وقد قيدت أيديهم وأرجلهم، ويسلم أمرهم إلى رجال أفظاظ لا يعرفون إلا لغة الضرب والتعذيب أمد الحياة. وكان مبعث ذلك لدى الغربيين آنذاك هـو الاعتقاد السائد بأن هـذا المريض قد لعنته السماء عقابا له على إثـم ارتكبه، فأنزلت به هـذا المرض، أو أن شيطانا ماكرا ضاقت به الدنيا فحل في جسم هـذا المريض، لذا فإنه يحل تعذيب ذلك الجسد؛ لأنه بمثابة منـزل لشيطان رجيم.

            أما الأطباء العرب والمسلمون، فقد تصدوا لمعالجة الأمراض النفسية، وقدموا لها من العلاجات (المبتكرة) ما ساعد على شفائها. وقد أتيت بأمثلة [ ص: 170 ] كثيرة -عبر صفحات هـذا الفصل- أكدت عملية قياسها على «علم النفس الحديث» مدى جدتها وأصالتها.

            فالرازي فكر -كأول طبيب- في معالجة المرضى الذين لا أمل في شفائهم، فكان بذلك رائدا في هـذا المجال. ومن أشهر الأمراض التي اعتبرها سابقوه مستحيلة البرء وعالجها هـو الأمراض النفسية والعقلية والعصبية، وخاصة الصرع والمالنخوليا. كما أدرك الرازي أثر العامل النفسي في صحة المريض، وليس هـذا فحسب، بل وفي إحداث الأمراض العضوية، وبذلك يكون الرازي قد تنبه إلى ما يسمى في العصر الحديث بالأمراض النفسجسمية «Psychomatic diseases» وهي موضوع اهتمام أحدث فروع الطب. ولقد رأينا كيف عالج جبرائيل بن بخيتشوع حالة الفتاة التي فسرها علم النفس الحديث على أنها حالة فصام «schizophrenia» من نوع يسمى: الفصام التشنجي «catatonia» أو الفصام التصلبي «catatioic»، الذي يتميز سلوك صاحبه بالتيبس النفسي والجسـمي. وقـد عالج ابن بخيتيشوع هـذا الفصام قبل علم النفس الحديث بقرون طويلة.

            أما الشيخ الرئيس ابن سينا فلقد رأينا كيف عني بعلم النفس عناية لا نكاد نجد لها مثيلا لدى واحد من رجال التاريخ القديم والوسيط، فألم بمسائله المختلفة إلماما واسعا، واستقصى مشاكله، وتعمق فيها تعمقا كبيرا، وأكثر من التأليف فيه. ويعتبر ابن سينا أول الفلاسفة الذين ربطوا وظائف الإحساسات والخيال والذاكرة بشروطها الفسيولوجية، ولم يسبقه أحد في [ ص: 171 ] إلقاء الضوء الساطع على علم النفس التجريبي. ولعل أبرز ما يميز علم النفس السينوي ويجعله سابقا لعصره ويبدو عصريا معالجته لمفهوم الوعي بالذات أو «الشعور بالذات» كما يسميه ابن سينا. كما يتلازم مذهبه مع النظرية السيكولوجية الحديثة الخاصة بالشعور وأقسامه. ولقد رأينا كيف اعترف عالم النفس الأمريكي « هـليجـارد » صراحة بأن ابن سـينا قد تعرف على ما يعرف اليوم باسم الأمراض الوظيفية «Function Illnesses»، وهي أمراض نفسية الأسباب ونفسية النشأة «psychogenesis»، كما أن واحدا من أكبر علماء النفس الأمريكيين المعاصرين وهو « جيمس كولمان » يضمن كتابه: «Abnormal psychology andModern life» حالة مرضية نفسية عالجها ابن سينا بطريقة مبتكرة، أفادت علم النفس الحديث.

            وفي هـذا الإطار أيضا رأينا كيف شخص وعـالج الطبيب « أوحـد الزمان » مرض الهلاوس «Halluacination»، الذي تنتشر أعراضه لدى الذهانيين، وتعرف الهلاوس على أنها: مدركات حسية خاطئة ذات طابع قشري، لا تنشأ عن موضوعات واقعية في العالم الخارجي، بل عن وضوح الخيالات والصور الذهنية بحيث يستجيب لها المريض كوقائع بالفعل.

            واستخدم الطبيب « سكرة الحلبي » في علاجه للحالة التي عرضتها في سياق البحث « نظرية الذات »، التي قال بها « كارل روجز »، وتسمى أيضا بـ: نظرية العلاج المعقود على المريض ... إلى غير ذلك من الابتكارات النفسية العربية الإسلامية التي وقفت عليها، ورأينا كم كان لها من أثر على (الآخر) [ ص: 172 ] الغربي؛ وذلك من خلال ما أوردته من تصريحات واعترافات أكبر علماء النفس الغربيين المعاصرين، التي تؤكد الدور الريادي للعرب والمسلمين في هـذا المجال، واعتباره بمثابة أساس قوي في قيام وتطور علم النفس الحديث.

            وعند الحديث عن علوم الفلك والميكانيكا والهندسة والفيزياء، تم تناول جماعة بني موسى بن شاكر كأنموذج لهذه العلوم، وكأنموذج للأسر العلمية التي شهد تاريخ العلم العربي العديد منها. وبينت كيف استطاع الإخوة الثلاثة، أبناء موسى بن شاكر، أن يكونوا جماعة علمية متآزرة نبغت في العلوم السالفة. وفي سياق البحث وقفت على أهم الأعمال العلمية التي قومتها الجماعة، والتي تمثلت في أعمال نظرية، وأخرى تطبيقية، جعلت مؤرخي العلم يجمعون على أن هـذه الأعمال تدل على عبقرية وذهن متوقد مبدع، اتسم به أفراد جماعة بني موسى بن شاكر، وقدموا منظومة علمية ومعرفية مهمة، شغلت مكانا رئيسا في تاريخ العلم بعامة وتاريخ التكنولوجيا بخاصة.

            فلقد رأينا كيف قدمت جماعة بني موسى -من خلال مؤلفاتها- إسهامات جليلة في العلوم التي بحثوا فيها؛ ومنها: وضع نظرية ارتفاع المياه، التي لا تزال تستخدم حتى اليوم في عمل النافورات، اختراع ساعة نحاسية دقيقة، قياس محيط الكرة الأرضية، والذي أخرجوه مقتربا من محيطها المعروف حاليا، اختراع تركيب ميكانيكي يسمح للأوعية بأن تمتلئ ذاتيا كلما فرغت، ابتكار طرق لرسم الدوائر الإهليجية، تأسيس علم طبقات الجو، تطوير «قانون هـيرون» في معرفة مساحة المثلث، وصف لقناديل ترتفع [ ص: 173 ] فيها الفتائل تلقائيا ويصب فيها الزيت ذاتيا، ولا يمكن للرياح إطفاؤها، وآلات صائتة تنطلق منها أصوات معينة كلما ارتفع مستوى الماء في الحقول ارتفاعا معينا، ونافورات تندفع مياهها الفوارة على أشكال مختلفة وصور متباينة... إلى غير ذلك من الابتكارات والاختراعات التي ضمنوها كتبهم، والتي وجدت أن أهمها تأثيرا في العالم ما يأتي:

            إن أهم عمل لجماعة بني موسى بن شاكر، من الناحية التاريخية، هـو كتابهم: «معرفة مساحة الأشكال البسيطة والكرية» فالأقدار الثلاثة: الطول، والعرض، والسمك، تحد عظم كل جسم وانبساط كل سطح، والعمل في تقدير كمياتها إنما يتبين بالقياس إلى الواحد المجسم، والواحد المسطح الذي به يقاس السطح، وكل مضلع يحيط بدائرة، فسطح نصف قطر تلك الدائرة في نصف جميع أضلاع ذلك المضلع هـو مساحته. وقد شكل هـذا الكتاب تطويرا مهما لكتابي أرشميدس عن: «حساب مساحة الدائرة»، وعن: «الكرة الأسطوانية»، ذلك التطوير الذي كان بالغ التأثير في الشرق الإسلامي، وفي الغرب اللاتيني معا.

            ففي القرن الثاني عشر لعبت ترجمة الكتاب اللاتينية من قبل «جيرارد الكريموني» دورا مهما في نقل أفكار أرشميدس إلى الغرب. وكان الكتاب ذا أثر كبير أيضا في عمل الرياضي الكبير «ليوناردو فيبونانسي» من مدينة بيزا، في القرن الثالث عشر الميلادي. ويعتبر كتاب «الدرجات المعروفة» موسوعة فلكية حاولت جماعة بني موسى أن تضعها بغرض إحياء علم الفلك الهندي [ ص: 174 ] واليوناني بعد تنقيحه وتصحيحه من الأخطاء التي وقفت عليها الجماعة، فأثر الكتاب في علماء الفلك العرب اللاحقين لبني موسى، وعلماء الفلك الغربيين، على حد سواء.

            أما أهم وأشهر كتاب لبني موسى بن شاكر، فهو كتاب: «الحيل» الذي ارتبط به اشتهار بني موسى حتى يومنا هـذا أكثر من أي كتاب آخر لهم. ولعل ذلك يرجع إلى أنه أول كتاب علمي عربي يبحث في الميكانيكا، وذلك لاحتوائه على مائة تركيب ميكانيكي أفاد منها العالم أجمـع، وخاصـة (الآخر) . ولم يقتصر تأثير جماعة بني موسى في (الآخر) على كتاب: «الحيل» فحسب، فنحن مدينون، على رأي «كارادي فو»، بعدد من الكتب لهؤلاء الأشقاء الثلاثة؛ أحدهم في مساحة الأكر وقياس الأسطح، ترجمه «جيرارد الكريموني» إلى اللاتينية، فأسهم في تطور الهندسة الغربية لعدة قرون طويلة.

            من كل ما سبق يتبين أن العمل العلمي الذي قدم في هـذا الكتاب يدل بصورة قوية على أن الحضارة الإسلامية تشغل مكانا مرموقا بين حضارات العالم المختلفة، وذلك بفضل ما قدمته للإنسانية جمعاء، وخاصة علومها التي أفاد منها (الآخر) وكانت بمثابة الأساس القوي المتين الذي قامت عليه حضارته الغربية الحديثة. وعلى ذلك فليس أقل على هـذا (الآخر) من أن يعترف بفضل الحضارة الإسلامية، ويعمل على احترامها وحمايتها بدلا من حملاته (الشرسة) بين الحين والآخر للقضاء عليها. وتلك هـي النتيجة النهائية التي تنتهي إليها هـذه الدراسة.

            والله أعلى وأعلم. [ ص: 175 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية