الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            علوم حضارة الإسلام ودورها في الحضارة الإنسانية

            الدكتور / خالد أحمد حربي

            ثانيا: المنطلقات الإبستمولوجية التي انطلق منها الرازي، وأثر (الآخر) فيها

            كانت تلك النظرية وغيرها من التراث المعرفي الطبي، الذي اطلع عليه الرازي، فضلا عن تتلمذه على أستاذه: « علي بن ربن الطبري »، كل ذلك كان بمثابة الأسس التي حددت فكر الرازي فيما بعد. ولكن الرازي لم يسلم بهذه الآراء وتلك النظريات إلا بعد النقد والتمحيص والاختبار. وإذا قبل أيا منها فإنه لا يدونها كما هـي، بل كان يأخذ خلاصة أو نتائج النظريات، ويسجلها بصورة موجزة مختصرة، وذلك لكي تكون بمثابة مقدمات يحاول [ ص: 88 ] الوصول منها إلى معرفة جديدة، يقول الرازي عن كيفية تأليفه لكتاب المنصوري: «قد جمعت في كتابي هـذا جملا وعيونا ونكتا من صناعة الطب، مما استخرجته من كتب أبقراط ، وجالينوس ، وأرماسوس ، ومن دونهم من القدماء، وفلاسفة الأطباء، ومن بعدهم من المحدثين في أحكام الطب والمفاقهة فيه مثل بولس ، وأهرون ، وحنين بن إسحق ، ويحيى بن ماسويه وغيرهم، وفصلت ذلك على غاية الإيجاز» [1] .

            وهنا يبدو «الرازي» وكأنه أدرك -في زمانـه- أن المشـكلة الرئيسية «للإبستمولوجيا، Epistemology» كانت ولا تزال دائما هـي مشكلة «نمو المعرفة، Growth Of Knowledge»، وأن نمو المعرفة يمكن أن يدرس على أحسن وجه عن طريق دراسة نمو المعرفة العلمية [2] . وفي سبيل ذلك انتقد الرازي واستبعد ما رآه خطأ من المعارف التي ظن أصحابها أنها صواب. ويعتبر كتاب: «الحاوي»، خـير دليل على أنه كان لا يأخذ بأقـوال السابقـين، أو المحدثين من الكتب على علتها. وقد أكد على ضرورة تحكيم آذان العقل الذي يحكم، ولا يحكم، ويعقل ويقود ولايقـاد.

            وعليه، فإنه ثار على ما وجده في الكتب من آراء لا يقبلها العقل، وأخذ بطريقة المتابعة والملاحظة، والتدوين بصورة دقيقة عند الممارسة، [ ص: 89 ] وطبق النظريات العلمية استنادا إلى التجارب، ورفض ما لا ينطبق منها على النتائج الصحيحة [3] .

            كذلك وقف الرازي على دحض وتفنيد آراء السابقين الخاطئة، ومن كتبه في ذلك: كتاب الشكوك على جالينوس؛ فصل فيه الشكوك والمناقضات التي في كتبه. وذكر فيه أن كثيرا من الناس يستجهلونه في تأليف هـذا الكتاب، وأن كثيرا منهم يلومونه، ويعنفونه على مناقضة رجل مثل جالينوس في جلالته ومعرفته [4] .

            ولكن الرازي لم يعبأ بذلك؛ لأن الحق عنده لا يؤخذ بالرجال، بل يؤخذ إذا كان حقا في ذاته.

            وبالجملة فإن الرازي لم يعمل بقاعدة: «سلطة الكتابات القديمة»، بل اتخذ من نفسه موقف المتلقى السلبي «الذي يطالع ويحلل ويكتشف مواضع الأخطاء والغموض، والتناقضات واللاتساق، مما يجعله يصحح، ويضيف، ويبتكر، وينظر لخبرة علمية جديدة قوامها التواصل العلمي المبني على النقد؛ بغرض إظهار الحقيقة» [5] . [ ص: 90 ] وقد تجلى هـذا المنهج بصورة واضحة في مجلس الرازي التعليمي. ومما لا شك فيه أن مجالس التعليم تلعب دورا مهما في تقدم ونمو المعرفة الإنسانية؛ لذلك ينبغي علينا أن نتعرف على طبيعة مجلس الرازي، ففي ذلك ما يساعدنا على بيان أوجه النشاط العلمي عنده، فضلا عن تحديد مكانته كأستاذ معلم وطبيب عبقري.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية