الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ثالثا: مدرسة الرازي العلمية

            لقد حرص الرازي على تعليم طلابه حرصه على علاج مرضاه أو أشد [1] . وقد اتبع في منهجه التعليمي طريقتين؛ الأولى: للتعليم النظري، والأخرى: للعملي. وهذا التقسيم يرجع إلى تعريف الرازي للطب بأنه: «حفظ الصحة في الأجساد الصحيحة، ودفع المرض عن الأجساد السقيمة، وردها إلى صحتها. ويتجزأ إلى جزئين؛ هـما: العلم، والعمل» [2] .

            ويمكن الوقوف على تفاصيل هـاتين الطريقتين فيما يلي:

            أ - طريقة التعليم النظري

            صور لنا القفطي [3] حلقة درس الرازي النظرية قائلا: كان يجلس في مجلسه ودونه التلاميذ، ودونهم تلاميذهم، ودونهم تلاميذ آخرون، وكان يجىء الرجل فيصـف ما يجده لأول من يلقاه منهم، فإن كان عنده علم، وإلا تعداه إلى غيره، فإن أصابوا، وإلا تكلم الرازي. [ ص: 91 ]

            يتضح من هـذا النص أن الرازي قد اتبع طريقة أكاديمية في تعليم الطلاب، فقد خصص لكل طالب مكانا خاصا به في الحلقة، وذلك على حسب التحاقه بها، وكان «التدريس النظري يتم بأسلوب نقاش علمي يجمع الطلبة على ثلاث حلقات، أقربهم إليه أنضجهم علما وخبرة، ويليه الصنف الثاني ممن هـم أقل خبرة، ثم الصنف الأخير الذي يضم المستجدين، فيقرأ عليهم، ويفسر لهم، ويناقشهم، ويصغي إلى حوارهم مجيبا على أسئلتهم، وكلما توسم نباهة بأحدهم قدمه إلى حلقة أقرب، وهذه الحلقة يبقى فيها المتعلم مدة ثلاث سنوات؛ أي أنه يمضي سنة في كل حلقة» [4] . وينتقل من حلقة إلى أخرى بحسب القدر الذي حصله من العلم، والذي يتضح في تشخيصه لما يعرض عليه من علل المرضى. وهنا ينصح الرازي تلاميذه قائلا: ينبغي للطبيب أن لا يدع مساءلة المريض عن كل ما يمكن أن يتولد عن علته من داخل ومن خارج، ثم يقضي بالأقوى [5] . فإن لم يستطع التلميذ الوقوف على تشخيص سليم، انتقل المريض إلى من هـو أكثر منه علما وخبرة. وإذا فشل جميع الطلاب في تشخيص المرض وعلاجه فإن الكلمة الأخيرة تكون للأستاذ، ويتبع ذلك مناقشة الطلبة فيما حدث بغرض تعليمهم. [ ص: 92 ] وكان الرازي خلال مناقشته للطلاب ورده على أسئلتهم يتعمق من أجل الوصول إلى الأسباب المرضية التي تصيب كل عضو من الأعضاء، وبهذا يجعل من أسئلة الطالب خير معين للأستاذ نفسه [6] .

            ويوجه الرازي انتباه تلاميذه إلى أهمية قراءة كتب السابقين، وكثرة الإطلاع عليها. وبعد أن يجمع الطالب أكبر قدر من الكتب، ويقف على ما فيها فإن الرازي ينصحه بأن يعمل لنفسه كتابا يضمنه ما غفلت عنه الكتب التي قرأها، ويكون بمثابة مرجع يسهل الرجوع إليه عند الحاجة، إذ يقول: «إن كنت معنيا بالصنعة وأحببت أن لا يفوتك ولا يشذ عليك شيء ما أمكن فأكثر جمع كتب الطب جهدك، ثم اعمل لنفسك كتابا تذكر فيه كل علة ما قصر الكتاب الآخر وأغفله من كل نوع من العلل، فيكون ذلك كنـزا عظيما وخزانة عامرة، حافظا على الذكر ومسهلا لتناول ما تريده منه إن شاء الله» [7] .

            ومع أن أهتمام الرازي الأول كان منصبا على المشاهدة والتجربة، من حيث إنهما المحك الذي يفصل به بين الحق والباطل، إلا أن ذلك لا يعني إهمال مطالعة الكتب النظرية عنده، بل ويرى أنه «متى كان اقتصار الطبيب على التجارب دون القياس وقراءة الكتب خذل» [8] . وذلك لأنه «مهما [ ص: 93 ] عمر الإنسان فإنه لا يستطيع تحقيق ما شاهد بتعاقب الأزمنة في مختلف بقاع الدنيا، فلا بد له من أن يقوي بصيرته بعلم الآخرين» [9] .

            ولأهمية هـذه المسألة في العملية التعليمية بصفة عامة يقول الرازي لتلامذته: «هذه الصناعة لا يمكن الإنسان الواحد إذا لم يحتذ فيها على مثال من تقدمه أن يلحق فيها كثير شيء، ولو أفنى جميع عمره فيها؛ لأن مقدارها أطول من مقدار عمر الإنسان بكثير، وليست هـذه الصناعة فقط، بل جل الصناعات كذلك، وإنما أدرك هـذه الصناعة إلى هـذه الغاية في ألوف من السنين ألوف من الرجال، فإذا اقتدى أثرهم صار كمن أدركهم في زمن قصير، وصار كمن عمر تلك السنين» [10] .

            وكان على الرازي «الأستاذ» أو رئيس الجماعة العلمية أن يشرح ويفسر ما في «الكتب»، وأن يجعلها أقرب إلى الطلاب، وأيسر فهما. وكان عليه أن يبين لطلابه كيف يتقنون هـذه الصناعة [11] . ولقد اتبع الرازي في تعليم طلابه ترتيبا منطقيا، يصعب أن يخرج عما هـو متبع الآن في التعامل مع المرضى. فعلى الطبيب أن يبدأ أولا بالتعرف على أعراض المرض. ثم يحاول أن يعرف سببه، وهل هـو سبب واحد، أم أسباب منقسمة. ثم يقدم العلاج وفقا لما استقر عليه من الأسباب، ولا بد أن يكون مدركا لمدى استعداد [ ص: 94 ] الجسم لتقبل العلاج. وعليه أيضا أن يحترس من أن معالجات علة أخرى بسيطة قد تؤثر في علاج العلة الرئيسة. وعليه أن يعلم أنه إذا دامت الأسباب المحدثة للعلة فإنها تنذر بأعراض أخرى أردأ من أعراضها.

            ويمكن تفصيل هـذه التعاليم من خلال كلام الرازي نفسه؛ إذ يقول لطلابه معلما إياهم: اطلب في كل مرض هـذه الرءوس [12] :

            1 - المسمى (أو) التعريف أولا

            ومثاله أن تقول: إن ذات الجنب هـو اجتماع حمى حادة، مع وخز الأضلاع، وضيق في النفس، وصلابة في النبض، وسعلة يابسة منذ أول الأمر. ثم أنه تظهر فيها صفرة، أو حمرة، أو سوادا، أو نحو هـذه من الفضول المقيمة لنوع ذلك المرض. فإن أصبت، فذلك الرأس الأول المسمى: التعريف.

            2 - ثم اطلب العلة والسبب

            ومثال ذلك: «أن تعلم أن سبب ذات الجنب ورم حار في ناحية الغشاء المستبطن للأضلاع».

            3 - ثم اطلب: هـل ينقسم لسببه، أو نوعه أم لا؟

            مثال ذلك: تنقسم ذات الجنب إلى الخالصة، وغير الخالصة. وينقسم سببها إلى موضع الورم، وفي العضل الداخل، والخارج من الأضلاع. وأنه إذا كان الورم في العضل الخارج من الأضلاع كانت غير صحيحة، وإذا كانت [ ص: 95 ] في العضل الداخل من الأضلاع، والذي يقرب من الغشاء المستبطن للأضلاع فهي صحيحة.

            4 - ثم اطلب تفضل كل قسم من الآخر

            مثال ذلك: أن ضيق النفس والوخز والسعلة في الصحيحة أشد، وفي غير الصحيحة أخف. ومع غير الصحيحة نتوء إلى خارج، ولم يكن معه نفث، وإن كان أبطأ.

            5 - ثم العلاج

            ومثال ذلك: أن الصحيحة تحتاج إلى أن تعالج بما يردد، وبالفصد. وغير الصحيحة ربما أحتيج من ذلك أن تعالج بالمحاجم والأدوية المقيحة.

            6 - ثم الاستعداد:

            ومثاله أن تعلم أن الأبدان الحارة المزاج المدمنة للشراب، والتي تمكث أكثر دهرها في الهواء البارد، وتشرب من الماء البارد، هـي أشد استعدادا لذات الجنب.

            7 - ثم الاحتراس

            وهو أن تعلم أنه يحترس من ذات الجنب بإدامة الفصد والحمام وتدثير الرأس.

            8- ثم الإنذار

            وهو أن تعلم أنه إذا دامت الأسباب المحدثة للشوصة، فأحدثت أعراضا ردية من أعراضها، فإنما تنذر بكون الشوصة موجودة، إن لم تتلاحق بما ينبغي. [ ص: 96 ] وربما سـقط عنك بعض هـذه الرءوس لظهوره؛ كالحال في الصداع، أو لأنها لا تنقسـم. فإذا نظرت في كل علة في هـذه الرءوس، واستوفيت ما فيها فقد أكملت ما يحتاج إليه منها.

            ب - طريقة التعليم العملي

            رأينا فيما سبق كيف أكد الرازي على أهمية قراءة الكتب في تعلم صناعة الطب. ولكنه يرى أن ذلك ليس بكاف لإحكام هـذه الصناعة. بل يحتاج الطالب مع ذلك إلى مزاولة المرضى. ويؤكد الرازي على أهمية الجانبين معا: قراءة الكتب، ومزاولة المرضى؛ إذ بهما تتكامل الصناعة. فمن «قرأ الكتب ثم زاول المرضى يستفيد من قبل التجربة كثيرا. ومن زاول المرضى من غير أن يقرأ الكتب يفوته، ويذهب عنه دلائل كثيرة» [13] .

            وكانت أغلب دروس الرازي العملية تعقد في البيمارستانات، وحول أسرة المرضى، ويشـير الرازي إلى أهمية هـذه الدروس بالنسبة لطالب الطب قائلا: «ينبغي لطالب هـذه الصـناعة أن يكـون مـلازما للبيمارستانات، ومواضع المرضى، كثير المداولة بأمورهم وأحوالهم، كثير التفقد، ولايتهاون بها» [14] . [ ص: 97 ] فليس الطب علما يدرس في الكتب فحسب، بل هـو تجارب وخبرة مكتسبة من المرضى. وكان الرازي من أكثر الأطباء تجاربا وخبرة [15] ، بل أعظم وأشهر أصالة من أي طبيب آخر في الإسلام، وقد انعكس ذلك على طريقة تدريسه لتلاميذه حول سرير المريض، شارحا لهم الحالات المرضية النادرة، واحدة بعد الأخرى، وهذا يعني أن المريض عند الرازي أستخدم ككتاب يقرأ يوميا وباستمرار للوقوف على الأعراض التي تعتريه [16] .

            وكان يشرح لطلابه كل حالة يفحصها، ويسجل أسئلته ومشاهداته في صفحة خاصة مبتدأ باستجواب المريض، والطلاب من حوله، سائلا عن: اسمه، وعمره، وبلده، ورحلاته، وعما ألم به، واليوم الذي شعر فيه بالمرض، وموضع الألم، والأعراض التي رافقته، بالترتيب والتسلسل الزمني لها، مؤكدا على أن المريض خير راوية لشرح أبعاد المرض الذي يعانيه شـخصيا، كما كان يسأل المريض عن عائلته وأفرادها، وهل أنهم شعروا بنفس الأدوار التي يكابدها هـو [17] .

            يقول الرازي في ذلك: (من أبلغ الأشياء فيما يحتاج إليه في علاج الأمراض بعد المعرفة الكاملة بالصناعة حسن مساءلة العليل) [18] ففي كثير [ ص: 98 ] من الأحيان لا يستطيع العليل أن يعبر عما يشعر به من مرض. وهنا نرى الرازي يعلم طلابه، وينصحهم بملازمة العليل؛ لأنه «ليس كل عليل يحسن أن يعبر عن نفسـه، وربما كان بالعـلة من الغموض ما لا يتهيأ للعليل، ولو كان عاقلا، أن يحسن العبارة»

            [19] .

            وهذه الطريقة لا تخرج عما هـو متبع الآن في المستشفيات؛ حيث توجد غرف خاصة يوضع فيها المريض -الذي لم يقف الأطباء على تشخيص سليم لما يعتريه من مرض- «تحت الملاحظة».

            وكان الرازي يعلم طلابه متابعة دورات الأمراض، ودراسة استجابتها للمعالجات المختلفة الأنواع، وتثبيت نتائج تجاربه السريرية بالضوابط [20] .

            كما أدرك الرازي أهمية عامل الوقت في التدريب العملي على صناعة الطب، ويرى أن المتدرب كلما ابتدأ صغيرا، كان أفضل. [ ص: 99 ] يقول: «إن الأطباء يحرزون مهارة عظيمة إذا قرنوا منذ الحداثة بدراسة الطب ومعالجة عدد وافر من الحوادث المرضية، واختبروا في أشخاصهم كل أنواع المرض» [21] .

            وقد حرص الرازي على غرس القيم الأخلاقية في نفوس طلابه، فكان يوصيهم بأن يكون هـدفهم هـو [22] : إبراء مرضاهم أكثر من نيل أجورهم منهم، وأن يعالجوا الفقراء بمثل الاهتمام والعناية التي يعالجون بها الأمراء والأغنياء، وأن يوهموا المرضى بالشفاء، حتى لو كان أنفسهم لا يعتقدون بذلك، فمزاج الجسم تابع لأخلاق النفس.

            ولم يغفل الرازي أثر العامل النفسي في التعليم، فكان يشجع تلاميذه ويحفزهم بأنه ليس من المسـتحيل أن يصـير الواحد منهم أعظم العظماء في الطب، فيقول لهم: «ليس يمنع من عني في أي زمان كان أن يصير أفضل من أبقراط» [23] .

            أما عن امتحان الطلبة المتخرجين على الرازي؛ فكان يسألهم أولا في تشريح الجسم، فإذا فشلوا في الإجابة فيه، فلا يسألهم في الطب السريري؛ لأن فشلهم في هـذا الموضوع لا يشفع لهم في النجاح حتى ولو نجحوا في العلوم السريرية [24] . [ ص: 100 ]

            ج - الطب بين النظرية والتطبيق

            يتضح مما سبق أن الرازي قد حرص على تعليم تلامذته أهمية الجمع بين المطالعة النظرية للمبادىء والنظريات الطبية المدونة في الكتب، وبين الممارسات العملية التي تكتسب من مزاولة المرضى، فينبغي على الطبيب أن لا يقصر في إحداهما إذا ما أراد أن يكون ناجحا في الفن الطبي.

            وهذه نتيجة منطقية تستخلص مما قدمته عن طريقة الرازي في التعليم الطبي. وهذه النتيجة تطرح بدورها سؤالا جديدا؛ ألا وهو: ما أهم سمات العمل العلمي عند الرازي؟ والإجابة عن ذلك فيما يلي:

            د - سمات العمل العلمي عند الرازي

            كان والد الرازي يعمل بالتجارة، وقد أراده تاجرا مثله، ولكن أبا بكر رأى في نفسه أنه أعظم من أن يكون تاجرا، فانكب على تحصيل العلم وآثره على غيره مع ممارسة مهنة الصراف [25] ، أثناء تتلمذه في بغداد. ثم تركها هـي الأخرى، وتفرغ لطـلب العلم مندفعا بكل قواه، وفي تصميم غريب على دراسة الطب. وقد درس الطب في العقد الرابع من عمره، وكان معلمه « علي بن ربن الطبري » صاحب: «فردوس الحكمة». [ ص: 101 ] وكان الرازي محبا للعلم إلى أبعد الحدود، وشغوفا بالمعرفة حتى وإن لحقه الضرر من جراء هـذا الأمر، يقول في ذلك: «وأما محبتي للعلم وحرصي عليه واجتهادي فيه فمعلوم عند من صحبني، وشاهد ذلك من أني لم أزل منذ حداثتي وإلى وقتي هـذا مكبا عليه، حتى إني متى اتفق لي كتاب لم أقرأه، أو رجل لم ألقه، لم ألتفت إلى شغل بتة، ولو كان في ذلك علي عظيم ضرر، دون أن آتي على الكتاب وأعرف ما عند الرجل» [26] . وقال رجل من أهل الري: «ولم يكن يفارق المدارج والنسخ، ما دخلت عليه قط إلا رأيته ينسخ، إما يسود أو يبيض» [27] .

            ولقد كان سلوك الرازي في تحصيل العلم هـو سلوك الباحث المتواضع للحقيقة، لا سلوك المترفع عن الدرس، وذلك على خلاف بعض العلماء والفلاسفة، ومنهم الشيخ الرئيـس، فالقارىء لكتاب القانون «يشعر أن ابن سينا يتسامى على الناس ويترفع عن المشاهدات، وكأنه يملي على الطبيعة ما يجب عليها أن تفعله إذا أرادت أن تكون جديرة بالعقل الإنساني» [28] .

            وقد درج الرازي على ذكر ما اطلع عليه من كتب القدماء، حتى ولو كان الرأي الذي ينقله غير جيد. وتعليله لذلك أن بعض المعارف التي يظن أنها غير صحيحة عند أصحابها والعاملين بها ربما كانت مفيدة عند أقوام آخرين في أزمنة وأمكنة أخرى. وهو لم يجهل أقدار المؤلفين، ولم يترك رأي من خالفه، [ ص: 102 ] فقد جاء في كتاب «الخواص»: «لا ينبغي لنا أن ندع شيئا نؤمل فيه نفعا من أجل أن قوما جهلوا وتعدوا، وقد كان الواجب عليهم لو كانوا أهل رأي وتثبت وتوقف أن لا يبادروا إلى إنكار ما ليس عندهم على بطلانه برهان» [29] .

            من كل ما سبق أستطيع أن أستنبط مزايا طريقة الرازي في الدرس الطبي، وما أحدثه في مجال المعرفة الطبية، والتعليم الطبي، وذلك فيما يلي:

            1 - اتبع الرازي طريقة أكاديمية في التعليم، يدل على ذلك تقسيمه لطلابه إلى مجموعات متمايزة بحسب تاريخ الالتحاق بالحلقة، وما حصله الطالب من الدرس الطبي منذ التحاقه. وهذا يكاد يقترب مما هـو معمول به الآن في مراحل التعليم المختلفة، مع الوضع في الاعتبار الفارق في الوسائل التعليمية التي كانت متاحة في زمن الرازي، وما هـو متوفر منها الآن.

            2 - أدرك الرازي أن لكل متعلم مقدرة عقلية ينبغي مراعاتها فيما يلقى إليه من مقدار العلم، فضلا عن نوعه.

            3 - تدرج الرازي بالمتعلم من الأسهل إلى الأقل سهولة، فكان يعطيه أولا أصول العلم؛ حتى يتهيأ عقله بعد ذلك لقبول جوامعه.

            4 - حث المتعلمين على أهمية قراءة كتب السابقين المتخصصة؛ باعتبارها منطلقات إبستمولوجية (معرفية) ، ينطلقون منها إلى معرفة جديدة، على اعتبار أن العمر لا يكفي لمشاهدة كل الوقعات المرضية. [ ص: 103 ] 5 - اتخذ الرازي من المتعلم مدرسا له، وذلك من خلال مناقشاته السريرية وأسئلة المتعلمين، واستفساراتهم عن أمور قد لا يكون الرازي قد وقف عليها، فيعود إلى الاطلاع والمشاهدة والتجربة. وهذه الطريقة تشبه إلى حد ما عمل الأطباء -الأساتذة- وخاصة في مرحلة الدراسات العليا.

            6 - بث القيم الأخلاقية في نفوس التلاميذ؛ بحثهم على أن يكون هـدفهم معالجة المريض بصرف النظر عن أخذ الأجر، ومعالجة الفقراء بالاهتمام نفسه الذي يعالجون به الأغنياء.

            7 - الاهتمام بأثر العامل النفسي في العملية التعليمية.

            8 - أكد الرازي على أهمية الدروس العملية في تعلم الطب، وقد تمثل هـذا في تعليم طلابه كيفية مزاولة المرضى، وفي شرحه لهم حول أسرة المرضى في البيمارستانات. وتعد حالات الرازي السريرية من الإسهامات الأصيلة في مجال المعرفة الطبية. وقد أعتبر بها رائدا لعلم السريريات الحديث. وفي هـذا تكمن أهمية الرازي الأساسية، بالإضافة إلى اكتشافاته الطبية والعلاجية الأصيلة، والتي أشرت إلى بعضها فيما سبق، وأشير إلى البعض الآخر في الفقرات التالية.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية