الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            علوم حضارة الإسلام ودورها في الحضارة الإنسانية

            الدكتور / خالد أحمد حربي

            2 - تطور الرياضيات حتى عصر الخوارزمي

            والآن ينبغى علينا أن نقف بصورة موجزة على التطور العلمي والتاريخي للرياضيات، وذلك لنقف على أبعاد الإنجاز الذي تم على يد الخوارزمي باعتباره أحد أهم علماء الرياضيات في القرن الثالث الهجري. وذلك يقودنا بطبيعة الحال إلى التعرف على أبعاد إنجازات علماء المسلمين خلال عصر الخوارزمي، وأيضا مدى تأثر هـؤلاء العلماء بالخوارزمي؛ لنخلص في النهاية إلى أن إنجازات علماء المسلمين في الرياضيات إبان عصر الخوارزمي إنما تعبر عن الصورة الجماعية للعمل العلمي خلال العصر كله.

            بدأت رياضيات ما قبل التاريخ بدايات بدهية من خلال وجود جماعات عددية؛ سواء في الإنسـان؛ (عدد الأصـابع، عدد الأرجل، وهكذا) ، أو الحيوان، أو الأشياء. وبنمـو الإنسان وتزايد عدده وموارده ومشكلاته كان عليه أن يعدد حاجاته أو أقاربه أو قبيلته وما إلى ذلك. ثم ظهرت عمليات الجمع والطرح والقسمة والضرب والمقاييس والأوزان بصورة طبيعية نتيجة لاضطرار الإنسان إلى عمليات كثيرة ظهرت له؛ مثل البيع والشراء والمقايضة. وقد عرفت مصر الرياضيات والحساب القديم أكثر من سواها؛ وذلك لارتباط هـذه العمليات بالبناء الهندسي للمعابد والأهرام والمقابر الفرعونية الكبرى. وقد عرفت الجداول الرياضية في العهدين البابلي والسومري ؛ مثل جداول الضرب والتربيع والتكعيب. وتوصل السومريون إلى نظام عددي [ ص: 37 ] مرتبط بتقسيمات الأوزان. أما بلاد اليونان فقد عرفت بدورها العلوم الرياضية وطورتها بعد أن اقتبست عن المصريين والسومريين والبابليين [1] . ولما نقل العرب والمسلمون تراث الأمم الأخرى وخاصة اليونان لم تستطع الرياضيات اليونانية أن تروي ظمأهم، فالعقلية اليونانية إنما قامت على فلسفة نظرية ورياضية واستدلالية. فقد شغف اليونان بالرياضيات النظرية المجردة، واهتموا كثيرا بالخيال الرياضي إشباعا لنهمهم العقلى. وهذا ما دعاهم إلى وضع كتب في الهندسة لا نظير لها عند الأمم الأخرى، مثل مؤلفات أقليدس وأبولونيوس العظيمـة.

            أما العرب فقد اجتذبتهم الناحية العملية من الرياضيات، فضلا عن تعلقهم بالجانب النظري فيها، فهم لم يكتفوا باستيعاب الهندسة الإغريقية، ولكنهم اهتموا أيضا بتطبيقها عمليا، وقد نجحـوا في ذلك أيما نجاح. وهنا تكمن عبقريـة العرب وأثرها العظيم في تقدم العلم عامة، والرياضيات خاصة، والجبر بصورة أخص [2] كما سيأتي.

            إن الأعداد التي اسـتخدمها اليونان والرومـان وغـيرهمـا هـي الأعداد اليونانية، وصورتها: I, II, III, IV, V, VI. وهذه الرموز يمكن استخدامها في عملية الجمع، بينما يكون من الصعب جدا بل من المستحيل [ ص: 38 ] استخدامها في عمليات الضرب والقسمـة، أو حتى جمع أعـداد بالألـوف أو الملايين. وعندما تسربت علوم الهند إلى العرب في قمة معرفتهم بهذه العلوم خلال فترة نقل كتاب «السندهند» إلى اللغة العربية في عهد الخليفة المنصور ، تعرف العرب على أنظمة الهنود في مجال الرياضيات [3] ، واطلعوا على الأعداد الهندية، ثم هـذبوها وكونوا منها سلسلتين [4] :

            الأولى: عرفت بـ: الأرقام الهندية ، وصورتها: 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8. وتستعمل هـذه السلسلة في الهند، وفي البلاد العربية المشرقية.

            أما السلسلة الثانية: فهي سلسلة الأرقام الغبارية [5] المرتبة على أساس الزوايا، فرقم: 1، له زاوية واحدة، ورقم: 2، له زاويتان، ورقم: 3، له ثلاث زوايا، ورقم: 4، له أربع زوايا... وهكذا إلى رقم: 9. فهذبـها العرب وطوروا رسمها حتى اتخذت شـكلها الحـالي: 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9. وعرفت باسم: الأرقام العربية ، والتي ساد استعمالها في بلاد المغرب العربي.

            ومن الواضح أن سلسلة الأعداد الهندية والأعداد الغبارية في نظام الحساب الهندي، الذي عرفه العرب تقف عند الرقم (9) . وقد تفتقت العقلية العربية الابتكارية عن إضافة الصفر في العمليات الحسابية في السلسلتين، [ ص: 39 ] فرمزوا للصفر في سلسلة الأرقام الهندية التي سادت المشرق العربي بشكل النقطة: (.) . ورمزوا له في سلسلة الأرقام الغبارية التي سادت المغرب العربي بشكل الدائرة الفارغة: (O) . وإبان اتصال أوربا بالعلوم العربية، ابتداء من الأندلس، وجد الأوربيون أن سلسلة الأرقام الغبارية (العربية) المستعملة في المغرب العربي أنسب لهم في الاستعمال من الأرقام الرومانية [6] .

            ويعزى إلى المسلمين الفضل في اختراع علم الجبر، الذي ارتبط باسم العالم الشهير: الخوارزمي، موضوع بحث هـذه الجزئية. إذن لم يكن علم الجبر معروفا بالصورة التي نعرفها الآن عند الأمم السابقة. وبذلك يبطل الزعم بأن اليونانيين قد قدموا تحليلا دقيقا لعلم الجبر استنادا إلى كتاب «صناعة الجبر»: لذيوفنطس «ديافانتوس» ، الذي يقول عنه القفطي [7] : «اليوناني الإسكندراني فاضل كامل مشهور في وقته، وتصنيفه وهو: صناعة الجبر، كتاب مشهور مذكور خرج إلى العربية، وعليه عمل أهل هـذه الصناعة. وإذا تبحره الناظر رأى بحرا في هـذا النوع». ويحتـوي هـذا الكتاب على ثلاث عشرة مقالة، ولم يصل إلينا منه إلا المقالات الست الأولى، وما جاء في هـذه المقالات، وما كتب لها من شروح وتعليقات فيما بعد لا يضع أمامنا بصورة كاملة مخططا كاملا لعلم الجـبر، ولكنه على كل حال يقدم إلينا فكرة عن بعض [ ص: 40 ] المسائل الرياضية المتصلة بعلم الجبر [8] ، والتي يرجح أن يكون الخوارزمي قد استفاد منها في وضع علم الجبر في صورته التي ظهر بها على يديه.

            ويعتبر الخوارزمي كذلك أول من طور فن الحساب، وجعل منه فنا صالحا للاستعمال اليومي، ومفيدا لبقية العلوم، بعد أن وسع فيه ونظمه تنظيما دقيقا [9] . ويعد الخوارزمي بحق مثالا رائدا في الرياضيات وفي الجبر بصفة خاصة، فهو أول من أطلق مصطلح: الجبر، الذي أخذ عنه الأوربيون الكلمة الإنجليزية: Algebra. ولقد ظل الخوارزمي موضع اهتمام الأوربيين، بل واعتمدوا عليه في كثير من أبحاثهم ونظرياتهم، بحيث يمكن القول: بأن الخوارزمي وضع علم الجبر وعلم الحساب للناس أجمعين [10] ، على ما سنرى في الفقرات التالية.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية