الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        المطلب الثاني

        نماذج من أفكار الخلـف

        مع وجـود تيـارات (جامدة) في الفـكر الإسـلامي تعاملت مع الدين وما تبعه من تراث كأنه كله ثوابت، وجدت تيارات (جاحدة) في الطرف الآخر حاولت التعامل مع الدين كله كأنه متغيرات، وفي الوسط بين هؤلاء وأولئك وجدت تيارات امتلكت ناصية الفقه وامتلأت وعيا بالواقع، فجمعت بين الثبات والتغير في قضايا كثيرة، وظهرت ثمار هذا التوازن بين الأصالة والمعاصرة في تكوين هذه التيارات عند حضورها في قلب العصر بفاعلية ومرونة مع التمسك بالأصول والكليات والمقاصد العامة.

        إن حضور التيارات الوسطية بفاعلية في قلب العصر، وانشدادها إلى الثوابت واحتكامها إلى المقاصد العامة، جعلها تسعى جاهدة لرتق الفتوق الكبيرة في أبنية مجتمعاتها، مما أوصلها إلى القناعة الكاملة بضرورة الاقتباس من الآخرين والاستفادة من خبراتهم السلبية بالرفض والاعتبار وتجنب الأسباب، والإيجابية بالغربلة والأخذ والاستفادة، وسنمر بسرعة على نماذج من مفكري الوسطية والاعتدال في هذا الشأن:

        1- الطاهر بن عاشور:

        استقرأ فقيه تونس الأكبر الطاهر ابن عاشور موارد الشريعة واستبان له من كليات دلائلها ومن جزئياتها "أن المقصد العام من التشريع العام فيها هو حفظ نظام الأمة، واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه، وهو نوع الإنسان، [ ص: 109 ] ويشمل صـلاحه صلاح عقله وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم، الذي يعيش فيه" [1] .

        وبالتالي فإن كل ما يحقق هذه المقاصد من الإسلام، حتى لو جاء من عند الآخر الديني. وقد عنون ابن عاشور أحد فصول كتابه بـ "مقصد الشريعة من نظام الأمة أن تكون قوية مرهوبة الجانب مطمئنة البال" [2] .

        وبالتأكيد فإن (ما لا يتحقق الواجب إلا به فهو واجب) حسب القواعد الأصولية، إذ أن أمة الإسلام تخلفت عن الركب الحضاري آمادا من الزمان، وصارت المسافة شاسعة بينها وبين الأمم المتقدمة، ولكي تلحق بهذه الأمم اعتمادا على ذاتها وبدون استفادة من خبرات الآخرين فإن الزمن سيطول والتكاليف ستكون باهظة، هذا على افتراض أن الآخرين سيتوقفون عند النقطة، التي وصلوا إليها اليوم وهو بالطبع أمر مستحيل، بمعنى أن المسافة إن لم تتسع بين الطرفين ستظل ثابتة، ومن هنا كانت الاستفادة من خبرات هؤلاء فريضة توجبها المقاصد الشرعية، وضرورة يقتضيها التفكير السليم، ويستوجبها الواقع، الذي يئن من أوجاع التحديات، ويعيش تحت أثقال التخلف بكل أسمائه وأسماله، وبسائر أشخاصه وأشكاله، وبشتى ثماره العلقمية المرة.

        ولأن شريعة الإسلام عامة للناس جميعا، فقد أبقت على عادات وأعراف الشعوب، التي اعتنقت الإسلام، وبسبب ارتفاع منسوب الوعي عند المسلمين [ ص: 110 ] في تلك الأزمنة فقد قاموا بالفرز التلقائي دون حاجتهم لمراكز أبحاث أو خبراء متخصصين، وكانوا إذا تبين لهم أن في هذه العوائد مصلحة لازمة أخذوها على سبيل الوجوب، وإذا تبين لهم أن فيها مفسدة معتبرة تركوها بصرامة ودون أدنى تردد [3] . ومن المعلوم أن قواعد الأصول تجعل حكم الوسائل في الشريعة الإسلامية من حكم المقاصد [4] ، بـمعنى أن ما أدى إلى الواجب فهو واجب وما أدى إلى الحرام فهو حرام.

        2- محمد الغزالي:

        تصدى الشيخ الغزالي، رحمه الله، في عدد من كتبه ومقالاته للتغريب والاستعمار بكافة صوره وأشكاله كما فعل في كتبه: ( ظلام من الغرب) ، و(الإسلام المفترى عليه) ، و( دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين) ، و(الاستعمار أحقاد وأطماع) ، و( صيحة تحذير من دعاة التنصير) ، و( الإسلام في وجه الزحف الأحمر) ، و(حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة) ، و(التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام) ، و(الإسلام والمناهج الاشتراكية) ، لكنه لم يدع أبدا للانغلاق على الذات والتحوصل داخل التراث بل كان شديد الحماس للانفتاح على الآخر والتعامل الندي معه، ودعا لاقتباس كل نافع ومفيد من الغرب، وعلى سبيل المثال وجدناه يحث على استفادة المسلمين من سائر علوم الغرب بما فيها العلوم الإنسانية [ ص: 111 ] والفلسفية [5] ، وهي العلوم التي تدخل ضمن أيديولوجيا الغرب، مع أن أكثر العلماء يجعلون الاقتباس حصرا على التكنولوجيا دون الأيديولوجيا.

        ويبدو أن الشيخ الغزالي محق في دعوته للاستفادة من العلوم الإنسانية والفلسفية، إذ أن هذه العلوم رغم خروجها من رحم الثقافة الغربية ورؤيتها الكلية لله والكون والإنسان والحياة، إلا أنها لا تخلو من ثمار طيبة وفوائد نافعة، ولا سيما في علوم الاجتماع والنفس والاقتصاد وفي العلوم السياسية، التي نجحت في تأطير الخلافات من خلال تنظيم التعددية الحزبية وابتكار آلية الانتخابات عبر صناديق الاقتراع، ومنعت الاستئثار بالسلطة من خلال تفتيتها وتوزيعها بين مؤسسات ثلاث كما هو معروف، مع الفصل بين هذه السلطات وإعطاء السلطتين الرقابية والقضائية صلاحيات واسعة في ضبط حركة السلطة التنفيذية ومحاسبتها بصورة صارمة، وتحديد مدة ولاية الرئيس بمدة زمنية محددة لا يجوز تجاوزها بأي حال من الأحوال، وعدم جواز التجديد إلا لفترة واحدة.

        وبهذا الصدد وجدنا الشيخ الغزالي يتساءل في أحد كتبه قائلا : "ماذا يمنع الفقيه المسلم من قبول كل وسيلة أصيلة أو مستوردة؛ لتحقيق الغايات التي قررها دينه؟ إن النقل والاقتباس في شؤون الدنيا وفي المصالح المرسلة وفي الوسائل الحسنة ليس مباحا فقط ... بل قد يرتفع الآن إلى مستوى الواجب. ثم إن الدين في باب المعـامـلات مصـلح لا منشـئ، كما يقـول ابن القيـم، إنه لم يخترع البيع أو الزواج، وإنما جاء إلى هذه العقود فضـبطها بتعاليمه... [ ص: 112 ] وفي شتى المعاملات إذا تـحقـقـت المصـلحـة فثم شرع الله، فما الذي يمنعنا نحن - الذين جمدنا فقهنا وأغلقنا باب الاجتهاد ألف عام- أن ننظر في الوسائل، التي اتخذها غيرنا لمنع الفساد السياسي أو منع الاعوجاج الاقتصادي، ونقتبس منها ما لا يصادم نصا ولا يند عن قاعدة؟" [6] .

        وفي علم الاجتماع ينبغي أن نستفيد من المعادلات، التي صاغها الغرب، عبر آماد من الزمان وبعد أكوام من التجارب، من أجل بناء الشخصية المؤتلفة مع الآخرين دون أن تفقد تميزها الفردي في التفـكير والحركة والعمل، مما أوجد كل هذه الابتكارات والاختراعات والآليات المتميزة، وكل هذا التعدد والتنوع في كل شيء دون أن تفقد المجتمعات وعيها الجمعي، الذي يشكل أساسا للائتلاف والتوحد في القضايا الكبرى ولا سيما عندما تهب رياح الأخطار وتطل المؤامرات الخارجية بقرونها!

        ونتيجة تركيز الغزالي على الاستبداد السياسي في بلدان المسلمين، فقد أشاد مرارا بما حققه الغرب من إنجازات في مجال احترام الحكام لشعوبهم وتفانيهم في خدمتها، وتحلي الشعوب بالوعي الذي يمكنها من إدراك مكامن الخلل وامتلاكها للروح الإيجابية، التي تدفعها لتقويم الأخطاء قبل أن تستفحل وتصبح خطايا، وأكد على أهمية الاستفادة من التجارب الغربية في مجال الحريات العامة وآليات تمكين الديمقراطية.

        وحتى في كتابه "ظلام من الغرب" لم ينس الغزالي مساحات الضوء العريضة عند الغرب في مجال الفكر السياسي، حيث قال على سبيل المثال: [ ص: 113 ] "إن الدساتير التي صانت الحريات العامة وضبطت صورها الجزئية ومنعت الجبابرة من الاستبداد بالأمم يجب أن نستفيد منها في بلادنا، إذا كان غيرنا قد أحسن إحكامها. والإسلام لم يمنع عمر بن الخطاب أن يمصر الأمصار، ويدون الدواوين، ويقتبس النافع الطيب من نظم الفرس والرومان وهو يبني الدولة الإسلامية الحديثة" [7] .

        وبالجملة، فإن الغزالي مع الاقتباس الحضاري وضد التغريب الثقافي.

        3- د. يوسف القرضاوي:

        ألف د. يوسف القرضاوي كتابه الشهير (الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا) ضمن سلسلته المتميزة (حتمية الحل الإسلامي) ، وقد أوضح في هذه السلسلة فشل الليبرالية الرأسمالية والاشتراكية الاجتماعية في حل أي مشكلة من مشاكل المسلمين، وبين جناياتها في حق أمتنا في هذا الزمان، وأبان بكل اعتزاز وفخر أن (الحل الإسلامي فريضة وضرورة) ، وأبرز بكل جلاء (بينات الحل الإسلامي).

        لكنه رغم ذلك لم يدع بأي حال من الأحوال إلى الانغلاق على الذات والإغراق في الخصوصيات والاستغناء بالتراث، وإنما دعا إلى الانفتاح المبصر على الغرب، ووجدناه في هذا السياق يؤكد على أن دعاة الأصالة لا ينكرون استيراد الأفكار الجزئية أو الحلول الجزئية لمشكلاتنا من الشرق أو الغرب، إذا [ ص: 114 ] كانت ملائمة لنا، محققة لأهدافنا، بل قد يوجبون الاستيراد إذا رأوا فيه مصلحة متعينة لأمتنا، ولا سيما ما يتعلق بالوسائل والآليات والأساليب [8] .

        ويتأسف في مقام آخر لأن هناك تيارات إسلامية لم تحسن فهم الإسلام، حيث ترى أن الديمقراطية كفر، وأورد وقائع تدل على مشروعية الاستفادة من الآخر، إلى أن قال: "فالاقتباس من الغير ليس ممنوعا، بشرط أن نضفي عليه نحن من روحنا وقيمنا ومبادئنا ما يدخله في المنظومة الإسلامية. لقد أكد القرآن والسنة - كلاهما- على الشورى وعلى مشاركة الأمة في الحكم، ولكن ميزة ما نأخذه من الديمقراطية أن الديمقراطية وصلت إلى صيغ ووسائل وأساليب وآليات معينة استطاعت بها أن تقلم أظافر الطغاة المستبدين" [9] .

        ويؤكد القرضاوي من جديد "أن أخذ النافع، واقتباس الحكمة من أي وعاء خرجت، أمر لا مراء فيه، وقد روى البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم : "أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل" وكان لبيد حين قالها من شعراء الجاهلية" [10] .

        وهو بهذا الشاهد يمارس صورة من صور التأصيل لهذه القضية الحساسة في الوجدان المسلم، حيث صار كثير من المسلمين حساسين أمام كل ما يجيء [ ص: 115 ] من الغرب؛ بسبب الاستعمار الغربي لبلدان المسلمين والذي استمر ردحا من الزمن، واستمرار الهجوم غير المبرر ضد الإسلام والمسلمين من قبل تيارات يمينية متطرفة في الغرب أدمنت على مهاجمة الإسلام ووحدت بين المسلمين والإرهاب، هذه التيارات نفسها، التي مارست ضغوطات على بريطانيا ودول غربية عدة حتى منعته من دخول أراضيها، رغم ما عرف عنه من وسطية واعتدال ومن تزعمه لتيارات التقارب والحوار مع الغرب وما قاده من حملات فكرية صارمة ضد تيارات التطرف والعنف في مختلف البقاع!

        وعندما عدد القرضاوي مزايا الحضارة الغربية، ذكر من هذه المزايا: قيامها على العلم التجريبي، وحسن الإدارة، والتنظيم، والتعاون، والاهتمام بالأخلاق الاجتماعية، واحترام الإنسان وحرياته وحقوقه، وخصوصا داخل أوطانها، وحرصها على الشورى ومقاومة ظلم الحكام واستبدادهم بالشعوب [11] .

        وما دامت هذه الأمور مزايا فإن اقتباسها يصبح مطلوبا من قبل المسلم، الذي يعي حقيقة دينه الحق؛ لأن الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق الناس بها، كما هو معلوم في الأدبيات الإسلامية.

        4- أبو الحسن الندوي:

        أبو الحسن الندوي، رحمه الله، هو علامة الهند الأكبر في العصر الحديث ورئيس ندوة العلماء، التي خرجت مئات العاملين في هذا الزمان وتركوا بصماتهم الإيجابية في العالم الإسلامي وخاصة في الهند، وكان من دعاة التفاعل [ ص: 116 ] الحضاري البعيد عن الذوبان الثقافي أو القطيعة الحضارية مع الغرب والآخر عموما، وقد وصف في هذا السياق الحضارة الإسلامية بأنها "حضارة تملك نعومة الحرير وصلابة الحديد، نعومة الحرير في مسايرة المقتضيات والحاجات والحقائق غير مفترضة ولا مختلقة، وغير متخيلة ولا مبالغا فيها. وصلابة الحديد وثبات الجبال على حدود القيم والأخلاق. إنها مفتوحة العقل والضمير، منشرحة الصدر، لاقتباس العلوم النافعة، التي نشأت وتكونت في جانب بعيد في هذا العالم، واقتباس النظم والأساليب التي لا تمس جوهر الدين ولا تغير وضع الأخلاق" [12] .

        وبهذا النص يبدو الشيخ الندوي واعيا تماما بخارطة الثوابت والمتغيرات، التي يفتح الوعي بها مجالا واسعا للتلاقح الثقافي والتفاعل الحضاري، مما يقود حتما إلى الاستفادة المثلى والاقتباس النافع.

        5- أبو الأعلى المودودي:

        وهو مؤسس الجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية، وقد اتهم من قبل عدد من المثقفين بأنه صاحب فكر استئصالي لا يؤمن بالآخر، ولا يؤمن بحرية الفكر فضلا عن أن يؤمن بشرعية التفاعل مع الآخر والاستفادة منه، ومع ذلك فإن المتأمل في كتبه ومقالاته ومحاضراته لا يجده قد اختلف كثيرا عن من سبقه بالنسبة لما نحن بصدده في هذه الدراسة.

        [ ص: 117 ] فها هو يتحدث عن دائرة التشريع الحر في الإسلام، فيقول بأنه يوجد "قسم من حياة الإنسان سكتت الشريعة عنه تماما، فليس فيه حـكم صريح أو قياسي أو مستنبط. وهذا السكوت في حد ذاته دليل على أن الحاكم الأعلى أعطى الإنسان حق إبداء رأيه في أمور ووسائل هذا القسم. ومن ثم يمارس الإنسان التشريع فيه بحرية تامة، شريطة أن يتطابق ما يشرعه ويتلاءم مع روح الإسلام ومبادئه العامة، ولا يشذ في مزاجه عن مزاج الإسلام العام الذي يكون نظام الحياة الإسلامي ويسوده" [13] .

        وهذا الاشتراط ليس محصورا على المودودي في الاجتهاد، والاقتباس عملية فرعية ضمن منظومة الاجتهاد، بل هو من الضوابط، التي ذهب إليها رموز تيار الوسط، حيث تميزهم هذه الضوابط عن تيار التغريب، مثلما يميزهم فتح باب الاقتباس عن تيار الجمود والانغلاق.

        6- د. برهان غليون:

        وهو مفكر سوري كبير، يحمل الجنسية الفرنسية ويعمل أستاذا في جامعة "السوربون"، ورغم أنه لم يعرف كمفكر إسلامي إلا أنه يبدو واعيا بهذه القضية كأنه من رموز وسطية التفكير الإسلامي، وعلى سبيل المثال وجدناه فيما نحن بصدده يقول:

        "لقد كانت قوة الإسلام في الماضي نابعة من قدرته الاستثنائية على أن يتأقلم مع الظروف المتغيرة، وأن يتماشى مع التاريخ، وينفتح بالمرونة الهائلة على [ ص: 118 ] كل أنواع التبادلات والمبادلات والتواصل الإنساني الفكري والروحي، أي على رفض الانغلاق والتقوقع والانكفاء على الذات، وكان لهذا السبب بامتياز دين الفتح الروحي والجغرافي والتاريخي.. باختصار إن الإسلام لا يمكن أن يبقى دينا ودنيا إلا بقدر ما يبقى متفتحا وحساسا لكل ما تقدمه الدنيا، أي الزمن والتاريخ والجماعات والعقول البشرية، من إنجازات كثيرة وإبداعية" [14] .

        وهو بهذا الكلام المحكم يطلق تحذيرا في وجه من يعملون على انغلاق الفكر الإسلامي على ذاته بحجة حمايته من الغزو الثقافي، حيث يخلط الجامدون، كما أسلفنا، بين الغزو الثقافي والتفاعل الحضاري.

        7- د. التيجاني عبد القادر حامد:

        ويمضي هذا المفكر السوداني الكبير في ذات الدرب، عندما يؤكد أن "القرآن من حيث القضايا التي نزل بها، والمناهج التي يدعو إليها يحتكم إلى الحس المشترك بين الناس، وإلى المعروف الأخلاقي عندهم، وإلى البديهة العقلية فيهم، وإلى عبرة التاريخ من خلفهم، وإلى سنن الاجتماع من حولهم -وهي من آثار ونواتج التوحيد الأول- ولا يخلو بالطبع نبع من منابع المعرفة أو منهج من مناهج الفكر البشري إلا وهو آخذ بنصيب من هذه المكونات" [15] .

        [ ص: 119 ] ويواصل التأصيل لهذه القضية الحساسة بكلام شديد العمق، فيقول: "إن المؤمنين الذين يودون وراثة الأرض من بعد دولة الجاهلية، لما يطالبهم القرآن بذلك، ليسوا مطالبين أن يبدأوا دورة الإسلام في الأرض من الصفر أو العدم، أو يعيدوا نسج خيوطها من أمعائهم كما يفعل العنكبوت، بل إن كل بقية من خير كان عليه الجاهلون ستجد تمامها في الإسلام، وكل نواتج عقلية توصل إليها الجاهلون بالنظر والاستقراء والتجربة يمكن استيعابها وتوظيفها لإقامة الدين. فالإسلام لا يبتر التاريخ الإنساني ولا يحارب مادة الحياة وقوام الإنسان فيها، وإنما يكيف النوايا ويحور الأهداف ليربطها بمقاصد التوحيد وبواعثه، وليس بالضرورة أن يكون ذلك عن طريق الهدم والاستئصال، كما ليس بالضرورة أن يكون عن طريق الحضانة الفكرية والانكفاء على الذات" [16] .

        وبهذه الفلسفة العميقة، يبرز عمق رؤية الإسلام في الاستفادة من الآخر، وخاصة في الاتجاه الرأسي التاريخي، حسب طبيعة موضوعه، الذي كتب فيه دراسته القيمة.

        8- فهمي هويدي:

        ما فتئ الكاتب والمفكر المصري فهمي هويدي ينتقد "التدين المنقوص" الذي من أماراته -بلا شك- الانغلاق على الذات، والتوجس خيفة من الآخر، والخلط بين الاقتباس منه والولاء له.

        [ ص: 120 ] وسنكتفي في هذا المقام بنقل مقولته التي جاء فيها: "إن مسيرة الإنسان في المجتمع الإسلامي أمر لا يحتمل التهاون والعبث؛ وعمارة الأرض في التصور الإسلامي رسالة مقدسة، جند الإسلام من أجلها كل الطاقات وشحذ كل الهمم في كل اتجاه حتى تقوم الساعة. إنه إذا كانت الحكمة ضالة المؤمن، حيث وجدها فهو أحق الناس بها، كما يقول الحديث الشريف، فإنه بنفس القدر يظل التقدم رائد المؤمن، حيث وجده فهو أحق الناس به، وأسرعهم إليه" [17] .

        وللمفكر فهمي هويدي كتاب مميز حول "الإسلام والديمقراطية" [18] ، ابتدأه بالتأكيد على أن الأمة اليوم بحاجة إلى الإسلام والديمقراطية معا، وهو الخيار الأفضل والأسلم، وأما الخيار الثاني فهو الطوفان. واستعرض في القسم الأول من الكتاب إشكالية الآخر في فكر كثير من المسلمين، واجتهد في القسم الثاني بوعي ثاقب من أجل التوفيق بين الإسلام والديمقراطية من زوايا متعددة، مع مراعاة الفروق القائمة بينهما بحيث يتم تطويع الديمقراطية كآلية لخدمة مصالح المسلمين وتحقيق مقاصد الإسلام، أما القسم الثالث فقد طرح فيه على طاولة الحوار عددا من القضايا ذات الصلة بهذا الموضوع، في محاولة قوية لدفع المسلمين نحو تبني الديمقراطية في ضوء ثوابت الإسلام، مثلما فعل غيره من المفكرين الإسلاميين من أصحاب الفهم الوسطي، الذين يجمعون بين محكمات الشرع ومتغيرات العصر، مع وعي عميق بالواقع وما يحتويه من وقائع متسارعة التغير.

        [ ص: 121 ] 9- د. عماد الدين خليل:

        نوه المفكر والناقد العراقي د. عماد الدين خليل كثيرا بتميز العقل الإسلامي، الذي بنى تلك الحضارة العظيمة، وأشاد بقدرته على الغربلة والانتقاء الحضاري، ثم قال: "إنه كان يمارس عملية بناء الذات الحضارية، مستفيدا إلى أقصى حد من خبرات الآخرين. كل الحضارات البشرية، سواء انبثقت عن رؤية دينية، أم موقف وضعي...صاغها المؤمنون أم صنعها الكفار... كانت تجد في حضارة الإسلام صدرا رحبا".

        "كل الحضارات العالمية: يونانية، ورومانية، وبيزنطية، وهللينية، وفارسية، وهندية، وتركية، وصينية... وتراث الجماعات والشعوب التي عاشت في المنطقة: آرامية، ونبطية، وقبطية، وفينيقية ...الخ، كانت - جميعا- بمثابة حقول مفتوحة جال في أطرافها العقل الإسلامي، فأخذ ورفض، وانتقى ومحص واختبر، وعزل واستبعد وفصل وعرف، وهو يتجول عبر هذه الحقول الشاسعة، ما الذي ينسجم ونسقه الصاعد ويزيده دما وحياة، وما الذي يحمل جراثيم المرض والهزال، والدم الأزرق الفاسد، فكان يعرف جيدا كيف يرفض هذا ويأخذ ذاك. لم يكن مجرد اقتباس، ولكنه هضم وتمثل، وتطعيم مرسوم ... هدفه الخروج على الناس بألف نوع من الفاكهة والثمار .. مختلفة الأشكال والطعوم ولكنها تسقى بماء واحد" [19] .

        [ ص: 122 ] 10- محمد كرد علي:

        لقد أفاض محمد كرد علي في بيان محاسن المسلمين في عصور الضياء، ومن ذلك انفتاحهم على شعوب الأرض وتفاعلهم مع سائر الحضارات، واستفادتهم من كل ما هو إيجابي وفعال، ومن ثم نجحوا في صناعة حضارة عظيمة لا تزال آثارها على الحضارات الأخرة بادية حتى بعد مرور قرون من التخلف والانحطاط. وذكر في هذا السياق أن اللغة العربية أثرت على لغات شعوب العالم في الشرق والغرب، ومنها لغات الهند والملايو وأفغانستان وإيران وتركيا ووسط آسيا ولغات إفريقيا كافة واللغات اللاتينية في أوروبا [20] .

        ولأن الاستفادة من الآخر من الأهمية بمكان، فقد حظي هذا الأمر باهتمام كافة مفكري الإسلام في هذا العصر والذين يسكنهم هم الأمة الكبير، وتشغلهم قضية استئناف الإقلاع الحضاري من جديد بعد انحطاط طال أمده، وحان الوقت لمغادرته، ومن هؤلاء المفكر العراقي دكتـور محسن عبد الحميد، الذي جعل "الحضارات الأجنبية" المصدر الثاني من مصادر الفكر الإسلامي، بعد الكتاب والسنة، اللذين هما المصدر الأول بالطبع [21] .

        وذهب ثمانية من أساتذة الثقافة الإسلامية في الجامعات الأردنية إلى أن المصدر الرابع من مصادر الثقافة الإسلامية "الخبرات البشرية النافعة"، وأكد المؤلفون "أن الخبرات البشرية والعلوم النافعة مصدر عام من مصادر الثقافة [ ص: 123 ] الإسلامية؛ لأن الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها أخذها، طالما لا تتعارض مع المفاهيم والقيم الإسلامية، فما وصلت إليه البشرية اليوم من خبرات واختراعات بكافة أنواعها، أو ما وصلت إليه من إنجازات واكتشافات علمية أو طبية لا بد من الإقبال عليها والإفادة منها، بل على العكس يعد المسلم آثما إذا رفضها وهو بحاجة إليها، لأنها جزء من المدنية العامة، التي لا تقتصر عـلى أمـة واحـدة، ولا يراعى شـيء في الإفـادة منـها طـالمـا كانت نافـعـة ولا تتعارض مع تعاليم الإسلام" [22] .

        ولا شك أن من أوردناهم هنا هم مجرد نماذج من مفكري الإسلام المعاصرين، الذين اتصلت أفكارهم بأفكار علماء السلف في ضرورة الاستفادة من الآخرين، واتسقت رؤاهم مع مقاصد الإسلام، التي تجعل الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها أخذها، وسعت محاولاتهم لتجسيد قيم الإسلام في الاقتباس المستنير، والاستفادة المنهجية المنضبطة من كل ما يتسم بالخير والنفع، وما يتسق مع طبيعة الإسلام ومع ظروف المسلمين وحاجاتهم وخاصة في هذا الزمان.

        ومن الواضح أننا قد كررنا الإشارة إلى أن الاستفادة من الآخر ينبغي أن تكون منهجية وملتزمة بعدد من المعايير والضوابط، فما هي القيم، التي تنبني عليها الاستفادة؟ وما هي الضوابط، التي يجب الالتزام بها في هذه العملية؟ هذا هو ما سيناقشه المبحث القادم والأخير من هذه الدراسة.

        [ ص: 124 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية