الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        خامسا: الاستفادة من دروس الماضي وعبره:

        عرفنا أن الإسلام دين عالمي يحترم كافة الخصوصيات ويستفيد من سائر التجارب والخبرات، فلقد استفاد المسلمون من خبرات الشعوب، التي فتحوها في شتى الميادين، ومن ذلك صناعة الأسلحة على اختلاف أنواعها وأحجامها، وبسبب ذلك فقد أتقنوا صناعة الأقواس والسيوف والرماح والتروس والدروع، [ ص: 181 ] وكذلك آلات الحصار كالخندق، الذي اقتبس النبي صلى الله عليه وسلم فكرته من خبرة الفرس، وذلك عبر سلمان الفارسي رضي الله عنه .

        وعلى سبيل المثال، عندما فتح المسلمون بلاد الأندلس في جنوب غرب أوروبا سنة 92هـ لم يعلن المسلمون الثورة على كل شيء، وإنما أقروا أهلها على ما كانوا عليه إداريا وسياسيا ودينيا، وتركوا لهم أعمال الحكومة وقيادة الجند، وهكذا كان حال الفتوحات في بقية الولايات الإسلامية في هذه الفترة المبكرة من عمر أمة الإسلام [1] .

        وتشمل الاستفادة من دروس الماضي نوعين من الاستفادة:

        النوع الأول: الاستفادة الإيجابية:

        وقد أوضحنا كيف أن أصول الإسلام تحث على الاستفادة من الآخرين، وأنها تمتلك الأسس التي تمكنها من استيعاب كل ما هو جديد وجميل في الحضارات الأخرى، ونريد هنا أن نشير إلى بعض الأمور التي قبلها المسلمون مع تكييفها أو تهذيبها؛ حتى تتسق مع منظومة الإسلام وخصائصه في تعظيم حقوق الله وحماية حقوق الإنسان.

        1- تعريب نظام الدواوين:

        من المعلوم أن الاستفادة من نظام الدواوين، الذي كان موجودا عند الفرس [ ص: 182 ] والرومان، قد بدأت من أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ووصل إلى الذروة في عهد عبد الملك بن مروان الذي قام بخطوة جبارة في تكييفها داخل منظومة الثقـافة الإسـلامية، ومن ذلك تعريبها أي نقـلها إلى العربية، وقـام بإخـراج من لم يكن يعرف العربية منها؛ مما دفع الحريصين على البقاء في وظائفهم الراقية إلى تعلم اللغة العربية [2] ، بمعنى أنهم لم يأخذوا النظام على علاته ويقحموه ضمن المنظومة الإسلامية وإنما كيفوه ودمجوه ضمن النظام الإسلامي.

        2- تهذيب نظام الجزية:

        كان النظام العالمي القائم في ذلك الزمان يمنح الدول المنتصرة حق فرض الجزية على مواطني البلدان المهزومة، وعندما جاء المسلمون كان هذا النظام سائدا في العلاقات الدولية فقاموا بتشذيبه وتهذيبه.

        وقد شهد بذلك النصراني المصري جورجي زيدان، رغم تحامله على الإسلام في بعض المواضع والموضوعات، حيث قال: "والجزية ليست من محدثات الإسلام بل هي قديمة من أول عهد التمدن القديم، وقد وضعها يونان أثينا على سكان سواحل آسيا الصغرى حوالي القرن الخامس قبل الميلاد، مقابل حمايتهم من هجمات الفينيقيين"، وأكد أن الجزية التي كان يفرضها الرومان والفرس أكبر بكثير مما فرضه المسلمون في ما بعد، ووصلت إلى سبعة أضعاف جزية المسلمين [3] ، أي أن المسلمين خفضوها إلى سبع ما كانت عليه [ ص: 183 ] عند الرومان والفرس، ولذلك فقد فرح المواطنون فرحا شديدا وأحبوا المسلمين حبا جما، وتم هذا الأمر ضمن منظومة من المعاملات الراقية، التي دفعت أعدادا ضخمة للدخول في هذا الدين.

        وقد نقل عبد المتعال الجبري عن عدد من المستشرقين المنصفين ما يفيد أن الجزية الإسلامية كانت عادلة، وأنها كانت مقابل حماية غير المسلمين وليست ضريبة دينية [4] .

        وللعلم، فإن هذا المبلغ الزهيد، الذي كان يدفع كجزية لم يكن يدفعه سوى القادرين، بينما يسقط عن النساء والأطفال والعبيد والمرضى والمعوقين وعن الفقراء والمعدمين، ثم إن هذا المبلغ يدفع مقابل الدفاع عن هؤلاء الناس أمام هجمات الآخرين، ومن يشترك في القتال مع المسلمين تسقط عنه الجزية، وإذا عجز المسلمون عن حمايتهم سقطت الجزية كما حدث في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما دفع أهل حمص الجزية للقائد أبي عبيدة ابن الجراح رضي الله عنه مقابل حمايتهم، وبعد فتح المدينة جمع الرومان جيوشهم في جيش واحد لاستعادة حمص، وبدا لأبي عبيدة أنه لن يستطيع بجيشه الصغير صد هؤلاء فقام بإعادة الجزية لمن دفعوها، وعندما رفض الأهالي أخذها أصر عليهم وأخبرهم أنه سيعود لأخذها إذا انتصر على الروم!

        3- تجفيف نظام الرق:

        [ ص: 184 ] جاء الإسلام ونظام الرق معمولا به ضمن النظام الدولي السائد في الحروب، حيث كان الجيش المنتصر يستعبد أسرى الجيش المنهزم، فلم يقره الإسلام جملة ولم يرفضه مرة واحدة، لكنه هذبه ابتداء وجففه انتهاء، بمجموعة من القوانين والإجراءات [5] ، وعبر منظومة من القيم والفضائل، التي حببت المسلمين بالعتق ورغبتهم به، فقد جعل إعتاق الرقبة من أهم العبادات التي تؤهل المسلم لتجاوز عقبة النار ودخول عتبة الجنة، قال تعالى: فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة (البلد:11-13) ، بجانب أنه جعل العتق من أهم الكفارات لكثير من الذنوب والخطايا، بل إن من أساء لعبده لا كفارة لإساءته إلا بتحريره من رقه.

        النوع الثاني: الاستفادة السلبية:

        وقد أسس القرآن الكريم لهذا النوع من الاستفادة السلبية بالدعوة للسير في الأرض، ورؤية كيف كانت عاقبة الظالمين، أي أنه دعا لتتبع آثار الأخلاق والأعمال السيئة على المجتمعات وكيف تفضي بأصحابها إلى السقوط في درك التخلف والوقوع في شر ما جنته أيديها.

        واستفاض القرآن في تشريح علل التدين عند الأمم السابقة حتى يتم تجنبها من قبل المسلمين، ومن تلك العلل آفة الشخصانية، التي تنتصب في مواجهة الانتصار للفكرية والمبدئية، وعن هذه العلة قال تعالى: [ ص: 185 ] ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (الجاثية:16-17) ، وتشير جملة بغيا بينهم إلى الشخصانية التي جعلتهم يبغون على بعضهم، حيث تمحوروا حول الأشخاص وتركوا الدوران حول الأفكار، مما كان له آثار سلبية كثيرة على المدى البعيد.

        وقد حذر صلى الله عليه وسلم من اتباع هذه العلل فقال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شـبرا شـبرا وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضـب تبـعتموهم".. قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن"؟! [6] ، وهذا يقتضي إعمال العقول في تدبر آيات القرآن وفهم أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ؛ لمعرفة هذه العلل بدراية وتشخيصها بدقة؛ حتى يتم تجنبها في الواقع العملي وتتم محاصرتها وتجفيف منابعها بقدر المستطاع.

        ولو تتبعنا جذور الانحراف في الفكر الإسلامي لوجدنا أن المسلمين قد ورثوا كثيرا من علل الأديان والحضارات السابقة لهم، رغم تحذير القرآن والسنة من ذلك، بل سنجد أن بعض المسلمين استجلبوا بعض تلك العلل بأموالهم عندما قام بعضهم بترجمة كتب اليونان والهنود والفرس بدون منهج علمي في [ ص: 186 ] الانتقاء والغربلة، ودون مراعاة الضوابط، التي سطرناها في هذا المبحث [7] .

        لقد كانت الترجمة مصدرا لاقتباس الكثير من النوافع، لكنها تسببت في اندفاع الكثير من الشرور والانحرافات إلى الثقافة الإسلامية ولا سيما بعد قرون الخيرية الثلاثة الأولى، حيث خلط كثير من المسلمين بين التفاعل الحضاري وبين الغزو الثقافي؛ عندما فتحوا أبواب أمتهم لاستيراد الكثير من الأفكار التدميرية وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا!

        وكان الفكر السياسي الإسلامي أول وأكثر من أصيب بعاهات الحضارات السابقة، حيث بدأ الانحراف مبكرا عن سكة الشورى والخلافة الراشدة؛ مما أدى إلى افتراق القرآن والسلطان.

        ومن ثم شاع نوع من الاقتباس العشوائي، أدى إلى حقن التراث الإسلامي بالكثير من الخرافات، التي نالت من عقلانيته وأصابته بالكثير من الآفات والعاهات، التي ما زلنا نجني ثمارها الـمرة حتى زماننا هذا، يقول الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله: "إنني ألفت النظر إلى أن المواريث الشائعة بيننا تتضمن أمورا هي الكفر بعينه، لقد اطلعت على مقتطفات من (الفتوحات المكية) لابن عربي فقلت: كان ينبغي أن تسمى الفتوحات الرومية، فإن الفاتيكان لا يطمع أن يدس بيننا أكثر من هذا اللغو..." [8] .

        [ ص: 187 ] وقد يكون هذا اللغو من تأثير تلك الثقافات التي غزت العالم الإسلامي وتركت آثارها السلبية على أقوال كثير من العلماء والعباد المعروفين برجاحة عقولهم ونقاوة قلوبهم، وقد تكون منحولة على ابن عربي لكن جو الفوضى، الذي تسيد تلك العصور ساعد على نسبة هذا الهراء إليه!

        ولن تضمر هذه الخرافات إلا بالعودة إلى حضن القرآن؛ وذلك بتدبر آياته والتفكر العميق في قصصه وأمثاله، قال تعالى: فاقصص القصص لعلهم يتفكرون (الأعراف:176) وقال: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب (يوسف:111) ، فإن قصص القرآن قادرة على إيقاظ كوامن التفكر وإيقاد مشاعل الاعتبار، وإذا استيقظت خلايا المخ نامت الخرافات، وإذا تفتحت ملكات العقل ذبلت شتلات الأهواء، وإذا سالت منابع التفكير جفت منابع الخزعبلات!

        ونؤكد في ختام هذه الفقرة أن التفكر المطلوب في القصة القرآنية ليس أمرا عابرا بل هو عملية منظمة وطويلة الأمد، ولذلك استخدم القرآن الفعل المضارع يتفكرون الذي يفيد الديمومة والاستمرار، ثم إنه ربط الأمر بجهد الناس: لعلهم يتفكرون ، وليس بفعل وافد من خارج ذواتهم.

        [ ص: 188 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية