الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        رابعا: التفريق الحاسم بين الاستفادة المشروعة والولاء المحرم:

        إن الموقف من الآخر من القضايا التي يحدث فيها اللبس كثيرا، ومن المناطق التي يقع فيها الخلط الشديد عند ضعف التفكير وقلة الفقه، ولا سيما بين ما يجوز اقتباسه من الآخرين وما لا يجوز، أو الخلط بين الأمور السائغة والمحرمة في التفاعل مع الآخر، وبالتالي فإننا نجد من يخلطون بين الاقتباس والولاء، يأتون من اتجاهين مختلفين:

        الاتجاه الأول: يقبل الغث والثمين، ويأخذهما من الآخرين بحجة احترام الإسلام للآخر وقبوله بالتفاعل معه، وتشجيعه على الاستفادة منه، وأصحاب هذا الاتجاه هم من ضحايا الغزو الثقافي ودعاة التغريب، الذين رباهم الغرب على عينه، حتى فنوا في كل ما يتعلق بالغرب وتماهوا معه وذابوا في ثقافته، واعتقدوا بأن الغرب يمتلك الحقيقة المطلقة، وأن أي أمة لن تتقدم ما لم تحذ [ ص: 48 ] حذو الغربيـين وتسـير خلفهم، ووصـلت التبـعية بهـؤلاء إلى حد أن الغربيـين لو دخلوا جحر ضب لدخلوا خلفهم، ومن المعلوم على سبيل المثال أن عميد الأدب العربي د. طه حسين قد دعا في كتابه الشهير: (مستقبل الثقافة في مصر) إلى اتباع الحضارة الغربية بخيرها وشرها، بحلوها ومرها، بما يحب منها وما يكره، وبما يحمد منها وما يعاب.. أما الأديب المصري الآخر سلامة موسى فقد ذهب في معرض تأصيله لتبعية مصر لأوروبا إلى القول بأن مصر ليست جزءا من آسيا بل من أوروبا.. ومن المعروف أن مصر من الناحية الجغرافية جزء من إفريقيا وليس من آسيا أو أوروبا، لكنه هنا يشير إلى الجانب الثقافي، فآسيا ترمز إلى مكة والثقافة الإسلامية، بينما ترمز أوروبا إلى الثقافة الغربية، التي تمثل مزيجا من الليبرالية والمسيحية ومن الثقافات الإغريقية والرومانية القديمة!

        أما الاتجاه الآخر: فإنه تحت راية البراء من غير المسلمين والولاء لأمة المسلمين يرفض اقتباس كثير من الأمور السائغ اقتباسها وفق روحية الإسلام، ويتبنى فكر المؤامرة، ويعتقد أن الغرب كله عدو، وأنه لا يفتأ يتربص بأمتنا الدوائر ويدبر لها المؤامرات، ومن ثم فإنه لا يقبل من أي غربي صرفا ولا عدلا ولا يثق بأي منهم، فضلا عن التعاون معهم والاستفادة من خبراتهم في عمارة الأرض وصناعة الحياة.

        وهـنـا نؤكد أن من الأهميـة بمـكان إدراك مقـاصد الإسـلام بـوضـوح، إذ بالمقاصـد يمـكن امـتـلاك القدرة على التفريق الحـاسم بين هذين الأمرين، فما يحقق شيئا من مصالح الناس أو يدرأ أي مفسدة عنهم فإن اقتباسه يصير من [ ص: 49 ] الاستفادة المشروعة والتي قد تصل إلى درجة الوجوب، وما يتناقض مع نصوص الإسلام ومقاصده أو ينتقص منها فإنه من الاقتباس الممنوع، أما ما يتضمن حب الكفر أو تقديم تنازلات دينية فإنه من الولاء المحرم لغير المسلمين.

        وبامتلاك هذا الميزان يمكن لهؤلاء أن يتبينوا الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر الحضاري المنشود، بمعنى أنه يمكن الفرقان بوضوح بين التفاعل الحضاري المشروع وبين الغزو الثقافي الممنوع!

        وينبغي أن نعرف في هذا السياق أن مقاصد الإسلام توقيفية لا مكان لها غير الوحي، الذي يتضمن علم الغيب وأصول علم الشهادة، أما الوسائط ذات الصلة بالوسائل والأساليب فهي وضعية اجتهادية، بمعنى أن للعقل أن يبتكر أو يقتبس ما يحقق المقاصد؛ لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون ـ (المائدة:35) ، فابتغاء الوسيلة يكون عبر إعمال منظومات الاجتهاد أو تفعيل آليات الاقتباس.

        ومن المعلوم أن مقاصد هذا الدين معروفة بنص القرآن وصحيح السنة، وتقتضي التقوى المأمور بها في الآية أن يوجد المؤمن عند كل ما يحققها ويحافظ عليها، بمعنى أن لا يفقده الله حيث أمره ولا يجده حيث نهاه، ويكون الجهاد في سبيل الله عبر ابتكار الآليات والأساليب، التي تحقق أوامر الله في عمارة الإنسان لهذه الأرض، والقيام بمهام الخلافة على الوجه الأكمل والأمثل، وبهذا فقط يتحقق الفلاح المتضمن لوراثة الأرض في الدنيا ووراثة الجنة في الآخرة.

        [ ص: 50 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية