الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        الخاتمة

        بعد اجتيازنا لآفاق هذه الدراسة تبين لنا أن الإسلام رغم كونه دين الله الحق، إلا أنه يحرص على اقتباس كل ما هو نافع من العلوم والخبرات، ويحث على استفادة أبنائه من الآخرين أيا كانوا ومهما كانت ثقافاتهم، فقد أوضح المبحث الأول أن الوحي المقدس يشرع لأهمية الاستفادة من الآخر، حيث أرسى القيم التي تحث على ذلك، وهي: تقدير أصحاب التخصصات وسؤال أهل الدراية؛ النظر إلى الفائدة دون النظر إلى صاحبها؛ العدل والاعتدال في التعامل مع الآخر؛ التفريق الواضح بين الاستفادة المشروعة والولاء المحرم.

        وقد جعل الوحي مساحة الاستفادة من الآخر شديدة السعة، سواء في اتجاه الاستفادة الرأسية (التاريخية) أو في اتجاه الاستفادة الأفقية (الجغرافية) ؛ إذ أصلت أصول الإسلام لاستفادة المسلمين ممن سبقهم، سواء كانوا مسلمين أو غيرهم، وكذا ممن عاصرهم من المسيحيين واليهود والبوذيين والهندوس والكونفوشيين، وقد أوردنا عشرات الآيات وضربنا عشرات الأمثلة في هذا السياق.

        وفي المبحث الثاني ارتدنا العقل المسلم الذي تفاعل مع الوحي السماوي في هذه القضية؛ فوجدنا أنه يؤكد بكل وضوح على ضرورة الاستفادة من الآخر في كل ما يحقق للأمة مصلحة معتبرة أو يدرأ عنها مفسدة مؤكدة، وقد [ ص: 189 ] توصلنا إلى هذه النتيجة الحاسمة والقاطعة من خلال استعراض نماذج من رؤى أعلام السلف ونماذج من أفكار الخلف من الذين رفعوا راية الوسطية ورابطوا في ثغور الاعتدال، وتوزع هذا الأمر بين مجالي التأصيل والتجسيد، ولا شك أن هؤلاء قد تسلحوا بفهمهم العميق للوحي ووعيهم الـمحيط بالواقع.

        وبعد أن تأكد لنا بما لا يدع مجالا للشك أن النقل والعقل الإسلاميين يتضافران في إيجاب الاستفادة من الآخر وبيان أهميتها، فقد تعرفنا في المبحث الثالث على أسس الاستفادة من الآخر وضوابطها، وتوصل بحثنا إلى أن أهم أسس الاستفادة من الآخر هي:

        أن خصائص الإسلام تحتم استفادته من الآخرين، من حيث أن معجزته عقلية تحتفي بإنجازات العقل، ورسالته عالمية خالدة تنفتح على الناس جميعا أخذا وعطاء، وأنه يجمع بين الثبات على الأصول والتغير في ما يجب تطويره من الوسائل والأساليب، ويقوم على المساواة بين البشر في الكفاءة العقلية والكرامة الإنسانية، وأنه يوجب السير في الأرض للنظر في العواقب والمآلات، ويـحتم الاستـفادة من أهـل التـخـصصات للاسـتـفادة من خـبراتـهم النفيسـة، ثم إن وحدة الرسـالات السماوية تجعل الاقتباس أمرا طبيعيا وغير مستنكر، هذا بـجـانب أن الحـضـارة الإنسـانية صناعـة مشتركة بين مختلف الشعوب، وأن التمـكين ثـمرة الصـلاح في عمارة الأرض، لدرجـة يـمـكن القـول معها: إن ما يقتبسه المسلمون مما ينفعهم في المعاش أو المعاد إنما هو ضالتهم، التي فقدت منهم أو بضاعتهم، التي ردت إليهم!

        [ ص: 190 ] أما أهم ضوابط الاستفادة من الآخر فهي خمسة ضوابط، وهي: امتلاك الوعي بخارطة الثوابت والمتغيرات؛ الفهم العميق للواقع الإسلامي؛ الوعي بالآخر بعيدا عن الأماني والأوهام؛ الحذر من اقتباس ما لا حاجة للأمة به؛ الاستفادة من دروس الماضي في عمليات الاقتباس، سواء كانت هذه الدروس إيجابية أو سلبية.

        وأحب في نهاية هذه الدراسة أن ألفت الأنظار إلى أن متابعتي الحثيثة لعدد من مفكري المسلمين المعاصرين، أوصلتني إلى قناعة تامة بوجود علاقة وثيقة بين الموقف المتزن عند هؤلاء المفكرين والعلماء، في هذه القضية وغيرها من القضايا الجدلية، وبين فقههم للقرآن الكريم.

        فقد ثبت لي بالدليل القاطع أن من انطلق من رؤية قرآنية مقاصدية، انبنت على تدبر القرآن وليس على مجرد حفظه أو تكرار تلاوته مرات كثيرة وسريعة، قد أدرك بوضوح الفرق بين الغزو الثقافي المرفوض وبين التفاعل الحـضـاري المـفروض، وفرق بصـورة حـاسمـة بين الاستـفـادة المطـلوبـة وبين التبعية المحظورة.

        ولذلك، فإننا نوصي بمراجعة منهج التعامل مع القرآن، مع التركيز بشكل خاص على استعادة منهج الصحابة في التدبر، وبحيث يصبح الحفظ جزئية صغيرة وسط منظومة التفاعل مع القرآن وتدبر معانيه والدوران حول مقاصده، والعمل على تنزيله على وقائع العصر كأنه أنزل اليوم.

        [ ص: 191 ] ومما ينبغي تركيز التدبر عليه في القرآن القصص الواردة فيه، فهي منجم زاخر بأسباب وأسرار النهوض الحضاري، ومنها ما يتعلق بالاستفادة من الآخر، ولذلك وصف الله قصص القرآن بالحق، فقال تعالى: إن هذا لهو القصص الحق (آل عمران:62) ، وقال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : نحن نقص عليك أحسن القصص (يوسف:3) ، ذلك أن هذه القصص تبين كيف تـنـسـلك السنن في الـواقـع لـتـبـني أو تـهـدم، ولتـرفع أو تضـع، وكيف أنها محايدة ومتاحة لمن شاء من الناس أن يتقدم أو يتأخر.

        نسأل الله أن تكون رسالة الدراسة قد وصلت وأن يكون هدفها قد تحقق، وندعوه تعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.



        والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

        [ ص: 192 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية