الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        ثانيا: النظر إلى الفائدة، دون النظر إلى صاحبها:

        من المعلوم أن الإنسان كائن عاطفي يزخر بالكثير من المشاعر الدفاقة والأحاسيس الجياشة، ولابد أن تنعكس مشاعره وأحاسيسه على نظرته للأشخاص ورؤيته للأفكار والأشياء، إن لم يفصل بحزم بين هذه المشاعر والعواطف وبين أحكامه ومواقفه، وفي هذا الإطار وضع الإسلام أساسا متينا آخر للموضوعية، وهو نظر المسلم إلى الأقوال وليس إلى القائل، وإلى الأفعال وليس إلى الفاعل، وإلى المنتجات وليس إلى المنتج، وإلى المخرجات وليس إلى المخرج.

        [ ص: 20 ] وقد أبرز القرآن درسا بالغ العبرة حول خطورة الشخصانية على المجتمع على المدى البعيد في ثنايا قصة قوم نوح، ذلك أن العناية عندما تنصرف من الأفكار إلى الأشخاص، ومن الصلاح إلى الصالحين؛ فإن البيئة تصبح شديدة الخصوبة لاستزراع آفات الصنمية، أما إذا انضاف إليها الجهل فإن الصالحين يوشكون أن يصيروا أصناما في هذه البيئات.

        ومن يعرف قصة الأصنام الواردة في قوله تعالى: ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا ... (نوح:23) يدرك هذه الحقيقة بجلاء، فقد كانوا أناسا صالحين قبل نوح بأجيال عدة، فأحب بعض الساذجين من عامة الناس أن يخلدوا ذكراهم حتى لا تنساهم الأجيال القادمة، فجاءت أجيال لا تمتلك أبجديات العقيدة ولا تحظى بنصيب من العلم، فجعلت من تماثيل هؤلاء الصالحين أصناما يتم التزلف بها إلى الله، وهذا يحتم علينا الانحياز للأفكار لا للأشخاص، وسنوضح هذا الأمر في النقاط الآتية:

        1- الترغيب بالمقولية:

        يطيب لي تسمية هذه القيمة الإسلامية الرائعة بالـمقولية؛ وذلك نسبة إلى القول المجرد من قائله، فقد قال تعالى عن عباده الذين يستحقون البشارة وهم ما يزالون يسيرون على وجه الأرض: فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه (الزمر:17-18) ، فالمقولية هنا ترادف مصطلح الموضوعية الشائع، نظرا لتحقق الإنصاف عندما ينظر الشخص للموضوع دون واضعه، لأن النظر إلى صاحب الموضوع لابد أن [ ص: 21 ] يؤثر على الرؤية للموضوع، سواء من زاوية الحب أو الكره، التقدير أو الاحتقار، القبول أو الرفض.

        ويمكن القول: إن هذا الجزء من الآية قارب نجاة يحمل المسلم نحو ضفاف الموضوعية من ست زوايا:

        الأولى: استخدام فعل الأمر: فبشر حيث قدم البشارة على الفعل أو الوصف، ومن المعلوم أن البشارة تكون بأمر جميل في ذاته ومحبب إلى النفوس السليمة.

        الثانية: استخدام كلمة يستمعون بدلا من يسمعون:

        ومن المعلوم أن إعجاز القرآن يقضي بأن زيادة المبنى يدل على زيادة المعنى، ومن ثم فإن الاستماع أعظم من السماع، فالاستماع يجمع بين جارحة الأذن المصغية وبين جارحة القلب العاقل، كما قال الله عن القرآن: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون (الأعراف:204) ، ومعلوم أن القرآن يوجب على أتباعه تدبره بعقولهم وقلوبهم، مما يؤكد أن المسلم يتعامل مع مخرجات ومنتجات الخلق جميعا بعقله لا بعواطفه فقط، ولذلك فإنه ينسى القائل ويركز فقط على القول مع إعمال طاقاته ومداركه العقلية فحصا وتمحيصا، بغرض إدراك الحقيقة كما هي لا كما يتصورها أو يتمناها، وبذلك يمكن الوصول إلى رؤية موضوعية منصفة وموقف متزن سليم.

        الثالثة: ذكر القول دون الإشارة للقائل:

        فقد ثبت أن عاطفية الكائن الإنساني وانفعالاته تدفعه للانحياز والتعصب وفق رؤاه ومواقفه المسبقة من الأشخاص، ولذلك أوجب القرآن هنا [ ص: 22 ] فصل القول عن قائلـه، بالنـظر الحـصري إلى القـول فقط، بحيث يكون قبوله أو رفضه مجردا عن الشخصانية، وخالصا من أهواء الحب أو الكره، التي تهوي بالإنسـان من سمـاء الإنصـاف إلى قـاع الإجـحاف، ومن شـوائب التـعـصب أو التحامل، التي تحيل الدواء الناجع إلى داء شديد.

        الرابعة: استخدام الفعل فيتبعون :

        فهذا الفعل يدل على السلامة من التعصب والبعد عن التبعية العمياء، ولذلك استخدم الفقهاء هذا المصطلح في الفقه ونهوا عن استخدام مصطلح التقليد، حيث ذهبوا إلى أن العامي يجوز له أن يتبع من يثق بعلمه ولا يقلده، وفرقوا بين المتبع والمقلد بمعيار العقل، فالمتبع يتبع رأي الفقيه المستند إلى الدليل الشرعي، الذي استدل به، بينما يمارس المقلد التبعية العمياء، بحيث يغيب عقله ويتعامل مع إمامه كأنه معصوم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكأن الله قال له: {وما آتاكم الشافعي فخذوه} أو فلان من العلماء القدامى والمحدثين.

        وفي قوله تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا (الحشر:7) أن الله استخدم مصطلح الرسول وليس محمد، كأنه يقـول بأن اتباع محمد واجب لكونه رسولا لا ينطق عن الهوى، أما عندما يجتهد كبشر وبدون توجيه الوحي فإن بشريته تكون حاضرة بما تحمل من إمكانات الصواب والخطأ؛ ولذلك عاتب القرآن محمدا صلى الله عليه وسلم مرات عدة، وقيل له: اتق الله (الأحزاب:1) و عفا الله عنك (التوبة:43)!

        [ ص: 23 ] الخامسة: استخدام فعل التفضيل أحسنه :

        وهذا يدل على أن تفعيل الملكات العقلية أدى إلى الغوص في أغوار النص واكتشاف نقاط قوته ونقاط ضعفه بل وإدراك ما هو قوي وما هو أقوى، أو ما هو حسن وما هو أحسن فيه، ومن ثم فإن الشخص يكون قد امتلك أداة للغربلة والفلترة لانتقاء أطايب الأفكار وأفاضل الأعمال.

        السادسة: وصف هؤلاء بالهداية ووصمهم بالعقلانية:

        فقد جاءت الجملة القرآنية السابقة ضمن صفات عباد الله المؤمنين، وخـتـم الله هـذه الجمـلـة، التي تـمثـل لب الموضوعية في الإسلام، بقوله تعالى: الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب (الزمر:18). بمعنى أن من وصل إلى الموضوعية بهذه الصورة فإنه قد وصل إلى شواطئ الهداية الحقة وضفاف الفكر العقلاني السليم من الأهواء، ومن ثم فإن هذه الموضوعية ستصبح وسيلة عمار لا دمار، وطاقة هداية لا ضلال، لأنها ستوصل الإنسان إلى السنن الإلهية والنواميس الكونية، وستمنحه ثمار الخبرات البشرية ومنجزات التراكم الحضاري، وستمكنه من التعايش مع الآخرين والتعاون معهم في المشتركات الإنسانية.

        2- الاستفادة من الأدنى مكانة:

        احتوى القرآن الكريم والسنة النبوية على نماذج عدة من القصص، التي تعلم فيهـا أناس عـديدون ممن هـم دونـهم بكثير في العـلم أو التقوى أو السن أو المكانة الاجتماعية، ولم يجدوا غضاضة في ذلك، وذلك من أجل أن يغرس [ ص: 24 ] الإسلام في أبنائه قيمة تعظيم العلوم والمعارف ووجوب تحصيل الفوائد واقتباس المنافع مهما كان مصدرها، ومن أمثلة ذلك:

        أ- استفادة موسى من فصاحة أخيه هارون، عليهما السلام:

        رغم أن موسى، عليه السلام، أحد أولي العزم من الرسل، الذين هم الأفضل على الإطلاق، إلا أن حرصه على كمال الدعوة ونجاعة البلاغ وعلى تحقيق مقاصد الدين بأكمل صورة، جعله يلتفت إلى جانب النقص في شخصيته، مهما كان بسيطا، حيث كان يعاني من مشكلة في اللسان تحول دون فصاحته كداعية، فدعا الله أن يردفه بأخيه هارون، كما قال تعالى على لسان موسى نفسه: وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون (القصص:34) ، وبهذا الطلب والترشيح فقد قدم موسى، عليه السلام، درسا بالغ الأهمية في استفادة الإنسان، مهما كان علمه ومواهبه، من غيره ولو كان دونه، فإن الكمال لله وحده، وسيظل النقص البشري يحتم على الإنسان البحث عن تكميل نقصه عند غيره، إذ أن فوق كل ذي علم عليم.

        ب - تعلم موسى، عليه السلام، من الرجل الصالح:

        ويعلمنا كليم الله موسى، عليه السلام، درسا آخر في هذا السياق، حيث إنه وهو الذي كلم الله بدون واسطة جبريل قد تعلم من إنسان لا يملك من مؤهلات النبوة، شيئا، على أرجح الأقوال، وهو الخضر، حيث يروى أن موسى، عليه السلام، سأل عن من هو أعلم منه؟ ولما علم برجل عالم صالح، [ ص: 25 ] ويقال إنه الخضر، سافر المسافات الطويلة من أجل التتلمذ على يديه والاستفادة من علمه، متحملا مشاق السفر وملتزما بآداب المتعلم، كما قال تعالى على لسان موسى بعد أن قابل الخضر: قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا (الكهف:66).

        ونلاحظ هنا استخدام موسى لمصطلح "الاتباع"؛ لما يحمل من ظلال عقلية، كما أسلفنا، وكذا تقييد التعلم المنشود بالرشد، فهو ليس ممن يقفون بين أيدي شـيوخهم كالميت بيد المغسـل، كما في أدبيـات بعض المتصـوفة، التي عمقت الشخصانية وقدست ما ليس بمقدس!

        مما يجدر ذكره أن القصة بكاملها موجودة في سورة تسمى بـ(الكهف) ، وكأن السورة تريد أن تقول: إن الإنسان لا يمكن أن يخرج من كهف جهله الأصم ومن مغاور نفسه الترابية، إلا بالتعلم من كل أحد بل ومن كل شيء، وبالتواضع بين يدي معلميه مهما كان شأنهم أقل منه، بل ولو خالفوه في الدين أو المذهب أو التيار، كأن يتعلم منهم بعض التخصصات العلمية مثل الطب والهندسة والفلك والفيزياء والكيمياء.

        ويبدو أن من حكم تسجيل هذه القصة في سورة (الكهف) التي سنت قراءتها يوم الجمعة أو ليلتها، أن يتذكر المسلم كل أسبوع هذا الدرس البالغ الأهمية في قضية العمران وصناعة الحياة، وأن لا يأنف أن يتعلم على يد أي كان، إذ أن طبيعة الإنسان وتركيبته الترابية تدفعه إلى النفور عن من يعتقد أنه [ ص: 26 ] أفضل منهم، فكيف إذا أضاف إلى هذا النفور فهما خاطئا للدين، ظانا أنه بانغلاقه على نفسه إنما يتحصن بحصن الولاء والبراء، ويحتمي من سهام الغزو، ويتمنع على التبعية والانقياد لأعداء الإسلام!

        ونشير في هذا السياق إلى أن ابن عباس، رضي الله عنهما، قد أورد عن أبي بن كعب عن الرسول صلى الله عليه وسلم القصة التي حدثت لموسى مع الخضر كاملة، كما وردت في القرآن تماما، وذلك في حديث طويل أخرجه الإمام البخاري في صحيحه [1] .

        ج - استفادة داوود من ابنه سليمان، عليهما السلام:

        من المعلوم أن داوود، عليه السلام، أحد أهم أنبياء بني إسرائيل، وهو أحد أصحاب الكتب السماوية الخمسة المذكورة في القرآن وهو الزبور، كما قال تعالى: وآتينا داود زبورا (النساء:163) ، وكان الله قد وهب له ابنا سماه سليمان: ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب (ص:30).

        ومن المعلوم أن الابن أصغر سنا ومن ثم أقل خبرة، وقد يكون أقل علما وأدنى مكانة من أبيه، فكيف إذا كان أبوه نبيا وملكا كداوود؟! ومع ذلك فقد اهتدى سليمان، عليه السلام، إلى ما لم يهتد إليه أبوه، فكان الوالد طالبا عند أستاذه، الذي هو ابنه، قال تعالى: وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين (الأنبياء:78-79) [2] .

        [ ص: 27 ] فالمكانة والسن والأسبقية ليست أمورا ضرورية لتنزل عطايا الله، كما في هذا الدرس الرحماني، الذي فهم الله فيه سليمان ما لم يفهم داوود النبي الأب، ومن المحتمل أن سليمان، عليه السلام، في هذه الأثناء لم يكن قد نال النبوة، ومن ثم فإن استفادة داوود، عليه السلام، منه تكون من جنس استفادة موسى من الخضر بل ومن هارون، ذلك أن هارون أثناء طلب موسى، عليه السلام، من الله أن يردفه به لم يكن قد صار نبيا بعد.

        وتعلمنا الآيتان السابقتان أن استفادة الأب من ابنه أو الأرفع شأنا ممن هو أقل شأنا منه لا ينقص شيئا من قدره، بل يزيد من إمكاناته ويرفع مكانته، فقد أورد القرآن أن داوود، عليه السلام، استفاد من علم وحكمة ابنه سليمان، عليه السلام، ثم نوه بالمكانة الرفيعة لداوود، عليه السلام، فقال: وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين

        ويورد النبي محمد صلى الله عليه وسلم موقفا آخر تفوق فيه الابن على الأب، في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا فجعل الفراش وهذه الدواب تقع في النار.. وقال: كانت امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، [ ص: 28 ] فقالت صاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك.. فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله، هو ابنها، فقضى به للصغرى" [3] .

        وهكذا توصل سليمان، عليه السلام، إلى الحقيقة التي لم يتوصل إليها أبوه، وهو درس لداوود، عليه السلام، وللمسلمين من ورائه إلى قيام الساعة، باستحالة امتلاك أي إنسان للحقيقة المطلقة ولو كان نبيا مؤيدا من السماء، وأن عصمة الأنبياء تنحصر في شؤون الوحي، أما شؤون الدنيا فإنها خاضعة للسنن، التي لا تحابي أحدا من خلق الله، وتكمن العصمة هنا في تدخل الوحي للتصحيح والتقويم فور حدوث الخطأ.

        د- استفادة سليمان، عليه السلام، من الذي عنده علم من الكتاب:

        يمثل نبي الله سليمان، عليه السلام، نموذجا للكمال البشري النسبي، فقد كان صاحب مواهب متعددة، ومنحه الله قدرات خارقة لم يعط مثلها لأي أحد من البشر، حتى أن قدراته تجاوزت عالم الإنس إلى الجان، فقد سخرهم الله له ويسر له طرق التخاطب معهم، وتجاوز الكائن الآدمي إلى الحيوانات، إذ علمه الله منطق الطير ولغة الحشرات كالنملة التي تبسم من قولها، وبجانب ذلك فقد سخر الله له بعض الظواهر الطبيعية كالرياح، التي كانت تجري له رخاء حيث أصاب، وبذلك فإن الله قد أعطاه ملكا، لم يعط لأحد [ ص: 29 ] مثله، لا في الأولين ولا في الآخرين، ومع ذلك كله فإن سليمان، عليه السلام، لم يستطع الاستغناء بنفسه، فقد استعان بمن هو أقل شأنا ومكانة منه في إنجاز أعمال لم يقدر عليها، ومن ذلك المجيء بعرش الملكة بلقيس من مأرب في اليمن إلى بيت المقدس، حيث عرض عليه كائن من الجان أن يأتي به قبل أن يقوم سليمان، عليه السلام، من مقامه، لكن الذي عنده علم من الكتاب، وهو من الإنس، أتى به قبل أن يرتد إلى سليمان، عليه السلام، طرفه!

        ولو كان هناك إنسان يمكنه الاستغناء عن غيره من البشر لكان ذلك الشخص هو سليمان، عليه السلام، فقد جمع الله له بين الملك والنبوة، ومنحه القدرة على التصرف في عالم الشهادة وعالم الغيب، وسخر له الثقلين من الجن والإنس، ولا أعتقد أن هذا الأمر جاء صدفة وإنما أراد الله أن يمنح الناس درسا بليغا في وجوب الاستفادة من الآخرين، سواء كانوا أفرادا أو كيانات أو أمة، بل يمكن القول بكل ثقة: إن عظمة سليمان، عليه السلام، كملك تكمن في توسيعه لدائرة الاستفادة من الآخرين بحيث وصلت إلى الجن وإلى الطيور والرياح، وما جعل الله تلك البركة لقيمة الشورى إلا لأنها توسع دائرة المشاركة في صناعة القرار، حيث تنصهر كافة الكفايات والذكاءات والقابليات في صناعة الرأي أو القرار، فيخرج شديد الإحكام والإتقان.

        هـ- استفادة زكريا، عليه السلام، من مريم العذراء، عليها السلام:

        من المعلوم أن زكريـا، عليه السـلام، من أشـهر أنبيـاء بني إسـرائيل، وأن مريم العذراء، عليها السلام، كانت قريبته وهي أم المسيح، عليهما السلام، [ ص: 30 ] فوصلت كفالتها إليه، ورغم أنه نبي معصـوم فقد انبهر بصلاحها وعبادتها، حتى أنه رأى الكرامات الخارقة للسنن الطبيعية تجري على يديها بكل انسياب وبدون طلب، فقد وجد عنـدها فاكهة الصـيف في الشـتاء وفاكهة الشـتاء في الصيف، ولما رأى أن الله خرق لها السنن الطبيعية، ولم يكن هو قد خلف ولدا وفقا للسنن الطبيعية، فقد اسـتفاد منها في الانتقال من السـنن الجارية إلى السنن الخارقة، إذ دعا الله أن يرزقه الولد مع أنه في خريف عمره وزوجته مصابة بمرض العقم، قال تعالى: فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء (آل عمران:37- 38).

        ولنتـأمل اللفظ هنالك الـذي يلفت أنظـارنا إلى الحقيقـة، التي نبذل جهدنا لإجلائها هنا، وهي استفادة المرء ممن هو دونه، سواء كانت الاستفادة مادية أو معنوية، فقد رأى زكريا، عليه السلام، خرق الله للسنن الطبيعية متمثلة بمنح مريم، عليها السلام، فاكهة الشتاء في الصيف والعكس، وتكرر ذلك كثيرا كما توحي بذلك كلمة كلما ، فأيقن بأن الله إن دعاه يمكن أن يخرق له السنن ويمنحه الولد ولو كان في خريف العمر.

        [ ص: 31 ] فإذا كان الأنبياء، عليهم السلام، قد تعلموا من أناس عاديين واستفادوا ممن هم دونهم، أفلا يسع المسلم أن يستفيد من أخيه المسلم الأكثر خبرة ودراية منه؟ أو من أخيه الإنسان ولو كان غير مسلم، ما دامت الاستفادة مما يحقق مصلحة من المصالح، التي تدخل ضمن دائرة مقاصد الإسلام؟

        و - استفادة محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء السابقين له:

        أورد الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم عددا من قصص الأنبياء قبله، ثم أمره أن يستفيد منهم بالاقتداء بهداهم، قال تعالى: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده (الأنعام:90) ، أي اقتد بما في دعواتهم ورسالاتهم من أوجه الهدى وأبعاد الإصلاح، وبما في سيرهم من صور الحكمة والدعوة، وهذا رغم أنه أعظمهم وأعلمهم وأنه خاتمهم [4] .

        وعـنـدمـا سئل ابن عباس، رضي الله عنهما، عن السجدة في سـورة (ص) قال للسائل: أو ما تقرأ: ومن ذريته داود (الأنعام:84) ، أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده (الأنعام:90) ، فكان داوود ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به، فسجدها داوود، فسجدها رسول الله، عليه أفضل الصلاة والسلام [5] .

        [ ص: 32 ] ز- تعلم الصحابة ممن هم أدنى منهم:

        لقد فقه الصحابة الكرام القرآن الكريم، وأحسنوا تطبيقه في حياتهم الخاصة والعامة، ويبدو من سلوكهم أنهم وعوا وطبقوا قوله تعالى في وصف المؤمنين: الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، فنتيجة تعظيمهم للعلم وتقديسهم للحق، كانوا يقبلونهما ممن كان، وقد أورد ابن القيم عددا من الصور في هذا السياق، ومنها تعلم ابن عباس، رضي الله عنهما، وهو حبر هذه الأمة وترجمان قرآنها من مولاه وتلميذه عكرمة رضي الله عنه بينما تتلمذ الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه على يدي ابن عباس، رضي الله عنهما، وهو من هو في سبقه للإسلام ومكانته السياسية والاجتماعية والعلمية، حيث لم يأنف أن يتعلم على يد مراهق في سن ابن عباس [6] . وكان ابن عباس، رضي الله عنهما، بدوره يرابط في مرحلة التتلمذ أمام بيوت بعض الصحابة ساعات طويلة بأدب المتعلم ليأخذ عنهم ما فاته من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، مع أنه من دعا له المصطفى صلى الله عليه وسلم بالفقه في الدين وتعليمه التأويل.

        ونقل في ذات السـيـاق عـن أعـلـم الصحـابة بالحـلال والحـرام معاذ ابن جبل رضي الله عنه دعوته إلى الموضوعية، إذ حث على رد زيغة الحكيم وقبول الحق في المقابل ولو من المنافق [7] .

        [ ص: 33 ] وفي سياق حديث د. عبد الكريم بكار عن القوة الذاتية للحقيقة، أورد ما يؤكد ذلك من حيـاة الصحـابـة الـكرام، ومن ذلك أن سلمـان الفـارسي وأبا الـدرداء، رضي الله عنهما، أرادا الصـلاة في بيـت نصـرانية، فـقـال لهـا أبو الدرداء: هل في بيتك مكان طاهر فنصـلي فيه؟ فقـالت: طهرا قلوبكما، ثم صليا أينما أحببتما! فقال له سلمان: خذها من غير فقيه[8] .

        والشاهد في هذه القصة هو أن أبا الدرداء رضي الله عنه الذي قيل: إن كلامه يشبه كلام النبوة تلقى درسا من امرأة نصرانية فلم يأنف هو ورفيقه الصحابي الجليل سلمان الفارسي رضي الله عنه بل تلقيا هذا الدرس بكل سرور.

        3- استفادة الإنسان من الحيوان:

        ووصل تأصيل القرآن لقضية الاستفادة من الآخر، إلى حد تسطيره لدروس بالغة الأهمية في استفادة الإنسان من غيره من الكائنات، حيث أورد نماذج من بني الإنسان، الذين استفادوا من حيوانات، لا مجال للمقارنة بينها وبين الإنسان من أي ناحية، والعجيب أن أصحاب بعض هذه النماذج كانوا من الأنبياء المرسلين:

        أ- استفادة ابن آدم الأول من الغراب:

        أورد القرآن قصة ابني آدم، وكيف أن أحدهما دفعه الحسد لقتل أخيه، ولم يدر بعد ذلك ما يصنع بجثة أخيه، فرأى في تلك الأثناء غرابين يتصارعان، [ ص: 34 ] فقتل أحدهما الآخر ثم نبش الأرض وحفر لأخيه الغراب حفرة ووضعه فيها، ثم أهال عليه التراب، وهكذا اهتدى ابن آدم إلى كيفية حفر القبر للميت، قال تعالى: فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين (المائدة:30-31).

        وإذا كان ابن آدم قد خسر أخاه وخسر آخرته، إن لم يكن قد تاب قبل موته، فقد ربحنا نحن، بني الإنسان، درسا مهما في التعلم من غيرنا ولو كان هذا (الغير) غرابا أسود يضرب الناس المثل به في الشؤم!

        وفي هذا السياق، قال الطاهر بن عاشور: "وهذا المشهد العظيم هو مشهد أول حضارة في البشر، وهي من قبيل طلب ستر المشاهد المكروهة.. وهو أيضا مشهد أول علم اكتسبه البشر بالتقليد وبالتجربة.. وهو أيضا مشهد أول مظاهر تلقي البشر معارفه من عوالم أضعف منه كما تشبه الناس بالحيوان في الزينة، فلبسوا الجلود الحسنة الملونة وتكللوا بالريش الملون وبالزهور والحجارة الكريمة" [9] .

        ب- استفادة النبي سليمان، عليه السلام، من الهدهد:

        لقد أعطى الله نبيه سليمان، عليه السلام، ملكا لم يعط مثله لأحد من خلقه، وكان من ذلك تعليم الله له لغة الطير وتسخيرها له، ومنها طائر [ ص: 35 ] الهدهد، حيث عرف ما لم يعرفه سليمان، عليه السلام، الذي سخر الله له الجن والشياطين والريح وغيرها، إضافة إلى الوحي، قال تعالى على لسان الهدهد: أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم (النمل:22-23).

        أورد الفخر الرازي في تفسيره لهاتين الآيتين أن "سليمان لم يحتج إلى الهدهد إلا لعلمه. لما روي عن نافع بن الأزرق قال لابن عباس: كيف اختار سليمان الهدهد لطلب الماء؟ قال ابن عباس: لأن الأرض كالزجاجة يرى باطنها من ظاهرها" [10] .

        وبغض النظر عن صحة هذه الرواية سندا أو متنا، فقد امتلك طائر الهدهد ما لم يوجد عند سليمان، عليه السلام، الذي جمع له الله بين النبوة والملك، وبالتالي فقد استفاد منه في هذا الجانب، حيث كان السبب في اكتشاف سليمان، عليه السلام، لحضارة مملكة سبأ في اليمن، ودعوة الملكة بلقيس إلى الإسلام، مما غير وجه تاريخ تلك المنطقة، ذلك أن الله يضع سره في أضعف خلقه، وقد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر، مما يؤكد وجوب الاستفادة من الآخر.

        [ ص: 36 ] وتزداد بلاغة هذا الدرس القرآني عندما جاء على يد طائر من أصغر الطيور مقابل رجل من أعظم الأنبياء ويعد أعظم ملوك الأرض؛ لأن الله أعطاه ملكا لم يعط مثله لأحد من قبله ولا من بعده، فمن من الملوك طويت له المسافات، وسخر له الريح والجن، وعلم لغة الطير؟! ومع كل هذه العظمة والإمكانات فإنه لم يعلم ما يدور في اليمن وهي قريبة من بلاد الشام، إلا عبر هذا الطائر الصغير، الذي أحاط بما لم يحط به سليمان، عليه السلام، كل ذلك ليعلمنا القرآن درسا في أن الإنسان مهما بلغ علمه وعظمته فإنه سيظل ناقـصا ويحتـاج إلى الاستفادة من غيره من الكائنات ولو كانت دونه، فكيف إذا كان الاقتـباس من حضـارة أقوى وأكثر تـطـورا، عـلى الأقـل في الجانب العلمي والمادي؟!

        ج- استفادة الإنسان من الكلب:

        شرع الإسلام للإنسان الاستفادة من بعض الحيوانات في المهام، التي تتفوق فيها غرائزها وحواسها، وذلك وفق ضوابط منصوص عليها في مظانها، ومن ذلك الصيد من قبل الكلب المعلم، قال تعالى: فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب (المائدة:4) ، ذلك أن الكلب يمتلك قدرة على اللحاق بالصيد ويمتلك مهارات الإمساك به بصورة يتفوق بها على الإنسان. وبالعقل فإن الدين الذي يبيح للإنسان الاستفادة من قدرات الكلب وخبراته، لابد أن يتيح للمسلم الاستفادة من قدرات وخبرات أخيه الإنسان من باب أولى.

        [ ص: 37 ] هذا على مستوى الاستفادة المادية من الكلب، أما على مستوى الاستفادة المعنوية، فقد ضرب الله المثل للعالم الذي ينسلخ عن آيات الله بالكلب، قال تعالى: واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون (الأعراف:175-176).

        وفي المقابل فقد قال عن الكلب، الذي أدى مهمته كما ينبغي، وهو يتحدث عن قصة فتية الكهف: سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم ... (الكهف:22) ، فقد رفع الكلب هنا بحيث أصبح رقما محسوبا مع مجموعة من أفضل الفتية، الذين حملت بهم نساء العالمين، وكأنه واحد منهم؛ وذلك نتيجة قيامه بحراسة هؤلاء الفتية الباحثين عن الرشد، بينما صاحب العلم، الذي أنيطت به مهمة حراسة دين الأمة سقط من علياء الكرامة الآدمية إلى هوة الكلب، الذي لا يجيد غير اللهاث وراء الشهوات، وهي مفـارقة لعـمري تـنـتـصب كعـبرة لمـن كان له قـلـب أو ألقـى السـمـع وهـو شهـيـد، وهذا يقودنا إلى الاستـفـادة المعـنـوية من سائر الحـيـوانات والطيور والحشرات.

        [ ص: 38 ] د- استفادة الإنسان من عبر الحيوانات:

        لا تقتصر الاستفادة من الحيوانات على الجوانب المادية بل تتجاوزها إلى الجوانب المعنوية، فلقد ذكر الله في القرآن عددا كبيرا من الحيوانات، وهي من آيات الله، التي يجب التأمل فيها والاعتبار بها، والاستفادة من نقاط ضعفها وقوتها بأفضل السبل.

        ولذلك ذكر مشاهد من قصص وأعمال هذه الحيوانات، كانت حشرات أو طيورا أو أنعاما، بل وعنون بعض سور القرآن بأسماء بعضها، وهي: البقرة، الأنعام، النحل، النمل، العنكبوت، الفيل، إضافة إلى حيوانات أخرى ذكرت في مواضع مختلفة من سور القرآن الكريم، وكلها لم تأت جزافا ولكن من أجل أن يستفيد منها الإنسان ماديا ومعنويا، مثل الاستفادة الإيجابية من قيم العمل الدائب والنظام الدقيق والنشاط الدائم عند حشرتي النحل والنمل، والاستفادة السلبية في المقابل من عشوائية واقتتال العنكبوت، الذي يوهن بيتها الاجتماعي إلى أبعد حد، حتى أن القرآن عندما تحدث عن هذه الآية قال: مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون (العنكبوت:41) ، حيث إن فـاصـلـة الآية تـعـلـق الاعـتـبـار والاسـتـفـادة مـن هـذا المـثـل بـوجـود الـعـلـم: لو كانوا يعلمون أي أن الناس لن يفهـمـوا حقـيـقـة هذا المثل ما لم يمتلكوا العلم المطلوب.

        [ ص: 39 ] وبالفعل فقد ظل الناس آمادا من الزمان يعتقدون أن البيت المادي للعنكبوت هو المقصود بالضعف، مع أن هذا الأمر لا يحتاج إلى علم لأنه مشاهد محسوس ثم إن نسيج العنكبوت لو فتل بطريقـة محـكمة يمتـلك قوة لا تضاهى، وبعد تطـور الدراسـات العلمية اتضح أن المقصـود بالـضعف هنا تسيد قيم العشوائية والتخبط والارتجال في البيت الاجتماعي للعنكبوت، بل وتقوم علاقات العناكب على الصراع والتقاتل لأتفه الأسباب، حتى أن الذكور تتصارع على الأنثى صراعا داميا ينتهي بمقتل المشتركين في التنافس ليبقى ذكر واحد، وعندما يقوم هذا الذكر المنتصر على أقرانه بتلقيح الأنثى تكافئه هي بالموت!

        وللتأكيد على وجوب الاستفادة من عبر هذه الكائنات سنكتفي في هذا المقام بإيراد آيتين عن لبن الأنعام، قال تعالى: وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين (النحل:66) ، وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون (المؤمنون:21).

        وهكذا يلفت القرآن الأنظار إلى وجوب الاستفادة من هذه المخلوقات كآيات للعبرة بجانب فوائدها المادية، حيث نستفيد بجانب إدراك القدرة الإلهية على إخراج ذلك اللبن من بين فرث ولحم، إمكانية خروج المنح من بطون المحن وانبجاس الخير من وسط صخور الشر، وإمكانية استحالة النقم إلى نعم والتحديات إلى فرص، وذلك إن أحسن الإنسان الاعتبار والاستثمار.

        [ ص: 40 ] هـ- تفوق الأرضة على الجن:

        من أجل أن يلفت القرآن أنظار الناس إلى نقاط القوة في الحشرات الضئيلة في بعض الجوانب التي قد تتفوق فيها على الإنسان، بل على من هم أقدر من الإنسان في بعض الجوانب، وهم الجن الذين يعتقد كثيرون أنهم يسترقون السمع ويعلمون الغيب، فقد صاغ الله هذا المشهد العجيب والمهيب، وهو اتكاء سليمان، عليه السلام، على عصاه في شيخوخته أثناء مراقبته للجن والشياطين وهم يؤدون ما عليهم من واجبات، وفي تلك الأثناء مات سليمان، عليه السلام، لكن الشياطين التي لا تعلم الغيب في الحقيقة استمرت في العمل معتقدة أنه ما زال يراقبها، وكانت الأرضة قد نخرت عصاه حتى تمزقت وسقط سليمان، عليه السلام، على الأرض وكأن الأرضة قد علمت بما لم تعلمه الجن، قال تعالى: فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين (سبأ:14).

        وهو دليل آخر على أهمية الاستعانة بالآخرين والاستفادة من مواهبهم وخبراتهم، وهو درس في عدم جواز احتقار أي من المخلوقات مهما كان صغرها ومهما كان شأنها، ومن باب أولى عدم احتقار أي فرد أو شعب من شعوب العالم، إذ لابد أن فيه أسرارا مطمورة وإمكانات خفية.



        [ ص: 41 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية