الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        رابعا: الحذر من اقتباس ما لا حاجة للأمة به:

        لا شك أن الاعتماد على الذات في بناء كل ما له علاقة بصناعة الحياة هو الأصل، ويمثل الاقتباس استثناء، وما دام كذلك فينبغي التأكد من الحاجة لكل ما يتم اقتباسه، ذلك أن الاقتباس يكون من أجل حل مشكلة حقيقية لا يوجد لها حل عندنا، وكل ما يتم استعارته بدون الحاجة إليه سيصبح مشكلة جديدة ذات مضار متعددة وقد تكون لها تداعيات مستقبلية طويلة الأمد.

        يقول د. عبد الكريم بكار: "إن الفكرة التي لا تجد لها أساسا في البنى العميقة للثقافة قد تتحول فاعليتها من وسيلة بناء إلى وسيلة هدم" [1] .

        [ ص: 177 ] والناظر إلى حقيقة ما فعلته الليبرالية والاشتراكية في بلداننا في القرن الماضي، وما تزال، هو خروج على هذا الضابط وما قبله، حيث كان هناك من انبهر بالتقدم المادي للغرب وافتتن بحضارته، داعيا لمتابعتها في كل صغيرة وكبيرة والسير خلفها حذو القذة بالقذة [2] .

        وقامت النخب الحاكمة بعد الاستقلال بجهود عشوائية لاقتباس ما أمكن اقتباسه بدون أي منهجية علمية، حيث لا اختيار لما يراد اقتباسه، ولا تشذيب له، ولا معرفة علمية بالبيئة التي يتم الاقتباس منها، ولا دراسة للواقع الإسلامي وحاجاته ولا مراعاة لخصوصياته، وكانت النتيجة خرابا على كل المستويات، السياسية والاقتصادية والثقافية، وصراعا محتدما مع التيارات المحافظة والاتجاهات الاستقلالية، مما أدى إلى استهلاك طاقات وأموال وتبديد الزمن في هذا التآكل، وتسبب بصناعة جنايات وعاهات مستديمة في جسم الأمة.

        وبالجملة، فإن غياب هذه الضوابط قد أحال الحلول إلى مشكلات عاصفة!

        وحتى تتضح هذه القضية بشكل أكبر نشير إلى الدراسة المقارنة والمعمقة، التي قام بها د. مسعود ضاهر حول النهضة العربية والنهضة اليابانية، حيث [ ص: 178 ] اختار تجربة محمد علي باشا في مصر نموذجا، فقد لاحظ تشابه المقدمات في منتصف القرن التاسع عشر، ولكن عندما خاض البلدان غمار التجربة اختلف منهجا الاقتباس فاختلفت النتائج تماما، حيث بدأ محمد علي باشا تجربة تحديثية طموحة لكنها تحولت إلى تغريب ولا سيما أيام الخديوي إسماعيل، بينما استفادت اليابان من علوم الغرب دون ثقافته.

        وفي نهاية هذه الدراسة استخرج د. مسعود أهم الدروس من هذه المقارنة، وهي: أن القيادة السياسية المتنورة في اليابان جمعت بين الثقافة العصرية وبين الثقافة اليابانية الأصيلة، مما دفع الشعب للالتفاف حول هذه القيادة ومساعدتها في تحقيق هذه النهضة، وبذلك "استطاعت اليابان بناء نهضة متميزة في التحديث غير قابلة للارتداد، وهي التجربة الأولى خارج تجارب التحديث الغربية، فتحاشت مخاطر السقوط في دائرة التغريب واعتماد سياسة القروض بفوائد فاحشة" [3] .

        ومن قراءة الدروس التسعة، التي توصل إليها دارس التجربتين اليابانية والمصرية في التحديث [4] ، تتضح صحة الضوابط التي نحاول إبرازها هنا، فقد انقسم المصريون إلى قسمين، قسم صغير يضم النخبة الحاكمة ومن معها والذي حـاول تطبيق النمـوذج الـغـربي برمته بسطوة القوة وسلطة الدولة، [ ص: 179 ] وقسم يضم الغالبية وقد قام جزء منه بمعارضة هذه المحاولة بكل ما يمتلك من قوة بينما وقف الجزء الآخر يشاهد ما يحدث بطريقة سلبية، ومن ثم فإن التجربة لم تفض إلى شيء ذي بال، ولا سيما أن عدم تحديد الأولويات والـحـاجات قد أدى إلى تقدم البعد العسكري على بقية الأبعاد فاستجلب هذا الأمر العـداوات الغربية لـتـجـربة الـنـهوض المصرية وتسبب بالقضاء عليها في مهدها!

        وفي المقابل، نـجحت التجربة اليابانية في عصرنة اليابان وتقدمها، بالمقاييس المادية، حتى صار دخل اليابان يفوق دخل مصر بعشرات الأضعاف، مع أن البلدين متقاربان في عدد السكان وتصل مساحة مصر إلى نحو ثلاثة أضعاف مساحة اليابان بجانب الموقع العبقري لمصر والذي تتفوق فيه على اليابان تفوقا ساحقا.

        لكن بداية هذا النجاح الياباني، كما يرصده صاحب الدراسة السابقة، يتجلى في "رفض اقتباس الثقافات الغربية، التي تقود إلى التغريب في المسكن والمأكل واللباس والتعليم والتخاطب اليومي، على غرار ما فعل المصريون والعثمانيون، فنجحت حركة التحديث اليابانية في اقتباس تكنولوجيا الغرب فقط، حيث عملت على توطينها واستيعابها وتطويرها دون أن تغادر أصالة تقاليـدها الاجتماعية وعاداتها المتوارثـة وفنونها الرائعة، وثقافتـها الإنسـانية، التي ميزت اليابانيين عن باقي الشعوب" [5] .

        [ ص: 180 ] وهناك تجارب أخرى نجحت فيها شعوب عديدة في تحقيق الإقلاع الحضاري دون أن تسقط في فخ التغريب والتبعية، كتجارب كوريا الجنوبية والصين وهونج كونج وسنغافورة وتايوان، وهناك محاولات طيبة لعدد من البلدان الإسلامية في هذا المضمار وهي حتى الآن تحقق نجاحات مقدرة وعلى رأسها ماليزيا وتركيا.

        وهكذا، فإن الاقتباس بدون منهج علمي يحدد الاحتياجات يؤدي إلى اقتباس ما يضر ببنية الأفكار ومنظومة الثقافة والقيم الإسلامية، حيث يحدث خرابا كبيرا فيها ويدخل المجتمع في فتنة الانقسام والتفرق، كما حدث في فتنة خلق القرآن أيام أحمد بن حنبل والدولة العباسية، وما كان لها من تداعيات سلبية طويلة الأمد والتي كانت من الثمار الـمرة لاستيراد الفلسفة اليونانية وعلم الكلام النصراني وحديثهما عن تعدد القدماء، حيث تم القفز فوق المنهج العلمي، الذي يجب أن يكون حاضرا في هذه الأثناء.

        وهذا ينقلنا إلى النقطة الأخيرة في هذه الدراسة، وهي ضرورة الاستفادة من دروس الماضي وعبره الغنية، حتى يتم إحكام عمليات الاقتباس المعاصرة.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية