الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        ثالثا: الوعي بالآخر بعيدا عن الأماني والأوهام:

        لقد قرر القرآن الكريم أن من عوامل تكذيب المشركين بالقرآن جهلهم به، فقال: بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ... (يونس:39) ، وهي معضلة عامة تبرز دوما في التعامل مع كل جديد ومجهول، إذ أن (الإنسان عدو ما يجهل) كما تقول الحكمة العربية، ومن ثم فإن فهم الإسلام والفقه بالواقع لا يكفيان وحدهما لكي يكون الاقتباس منهجيا ونافعا، ولكن لابد من الإحاطة الكلية بأصول الثقافة الغربية بجذورها اليونانية والرومانية القديمة، والمؤثرات التي دخلت عليها في العصور الوسيطة من قبل المسيحية واليهودية بنسخهما المتعددة، ثم ما أضافته الليبرالية العلمانية منذ عصر النهضة والثورة الصناعية إلى يومنا هذا.

        إن فهم الغرب بماضيه وحاضره، بجانبيه اللاهوتي والعقلي، بعناصر قوته ونقاط ضعفه، ببعديه الثقافي والعلمي، وباتجاهيه الحضاري والاستعماري، أمر ضروري لقيام تواصل حضاري ناجح ينقل ما هو نافع ويترك ما هو ضار، يقتبس ما هو صالح ويستبعد ما هو فاسد، وهذا لا يمكن أن يتم إلا بدراسات معمقة للغرب بعيدا عن الانطباعات والقراءات الجزئية أو السطحية، وفي معزل عن الأماني، التي تعانقها تيارات الفناء في الغرب، أو التفسير التآمري، الذي تعتنقه تيارات العداء وشيطنة الغرب.

        [ ص: 174 ] ويخبرنا التاريخ القريب أن بعض النخب التي قادت معارك التحرير ضد الاستعمار الغربي لكثير من البلدان الإسلامية، وقعت في شباكه الثقافية بسبب جهلها الكبير به، فقد حصرت الاستعمار في الجانب العسكري فقط، وأحسنت الظن به كثيرا ظانة أنها تفتح صفحة جديدة معه وأنها ذاهبة للاستفادة من خبراته في بناء أوطانها!!

        وبعد عقود من الزمن لم يحدث التقدم المادي المطلوب ولكن تعمق الاستعمار الثقافي أكثر من أيام الاستعمار العسكري، بمعنى أن قوة هذه النخب نجحت في دفع الاستعمار ليحمل عصاه ويرحل لكن جهلها سمح لقلمه بالبقاء، فتمكن من نخر أعمدة الاستقلال الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، مما أثر على الاستقلال السياسي والعسكري، حيث عادت التبعية بصورة سافرة، وعادت القواعد العسكرية لتنغرس كالسرطان في جسد الأمة ممزقة أوصالها!

        وفي محاولة بعض النخب السياسية تحديث المجتمعات الإسلامية تـم تـهديـم كثير من الأصول التي تقوم عليها تلك المجتمعات، كما حدث في تركيا أيام كمال أتاتورك وفي إندونيسيا أيام سوكارنو وسوهارتو وفي تونس أيام الحبيب بورقيبة.

        وتحت عنوان (ثمن الحداثة) أورد المفكر الفرنسي "فرانسوا بورجا" نماذج من الهجوم الكاسح الذي تعرضت له القيم الإسلامية في بلدان المغرب العربي من أجل التمكين للحداثة الغربية، ولاسيما في تونس، فقد وصل الأمر [ ص: 175 ] بالرئيس الحبيب بورقيبة إلى حد منع الحجاب وهو حرية شخصية في الرؤية الليبرالية نفسها، ومنع الموظفين من صيام رمضان؛ بحجة أنه يضعف الطاقة الإنتاجية للموظف ومن ثم يضعف الاقتصاد الوطني وأن الدولة أهم من الدين، ولتطبيق ذلك شرب كوبا من عصير البرتقال علنا في نهار رمضان، وأتبع ذلك بإغلاق جامعة الزيتونة، وألغى المحاكم الشرعية، وأصدر قانونا يمنع تعدد الزوجات، إضافة إلى إشاعة وجود تعارض بين نصوص القرآن [1] !

        لقد صارت الحضارة الغربية من التعقيد بمكان مما يجعل الحاجة ماسة لفقه شامل ووعي رشيد، بحيث يتم تفكيك بناها الحضارية لأخذ ما هو ضروري دون غيره، بعد تشذيبه من الزوائد وتخليصه من شوائبه الثقافية وقطعه عن جذوره الفلسفية.

        ولو أخذنا الديمقراطية كمثال لوجدنا أنه لا يمكن في ظل الرؤية الإسلامية الوسطية أخذها جملة أو تركها جملة، بل لابد من تفكيكها وأخذ آلياتها البحتة بعد أن أثبتت جدارتها في حل مشاكل التنازع على السلطة، مع ترك الأبعاد الثقافية فيها لأنها تتصادم مع أجزاء من الرؤية الإسلامية للكون والحياة.

        يقول د. صلاح الصاوي: "فهذه الديمقراطية لها جانبان، جانب يقره الإسلام ويزكيه بل يحض عليه ويوجبه وهو حق الأمة في تولية حكامها وفي [ ص: 176 ] الرقابة عليهم وفي عزلهم عند الاقتضاء، وجانب يأباه ويعتبره بابا من أبواب الشرك بالله وهو الحق في التشريع المطلق الذي تقرره الديمقراطية العلمانية للأمة؛ لأن هـذا التشريع حـق خـالص لله وحده، فمن نازع الله فيـه فقد أشرك، فالأمة في الإسلام لا تملك أن تحل حراما ولا أن تحرم حلالا ولا أن تبدل شرعا، وإنما ينحصر دورها، ممثلة بعلمائها وأهل الحل والعقد فيها، في أن تجتهد في فهم النصوص والتخريج عليها واستخدام قواعدها العامة في ما لم يرد فيه نص، فـتـظل الشـريعـة دائـما هـي الحكم كما تـظـل الـربوبية دائما لله وحده ولا تخرج على ذلك في قليل ولا كثير" [2] .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية