الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        ثانيا: اتجاه الاستفادة الأفقية:

        كان المسلمون يتعاملون مع غيرهم بانفتاح تام، ويتفاعلون معهم بإيجابية واضحة، منطلقين من وعي عميق بمقاصد شريعتهم الإسلامية الغراء، ولم يجدوا أي غضاضة في التفاعل مع معاصريهم من أهل الكتاب خصوصا وغير المسلمين عموما، ولم يجدوا أدنى حرج في انتقاء ما هو صالح للاستفادة منه في حياتهم، ولم يترددوا عن التقاط إيجابياتهم وتوظيفها ضمن منظومات المسلمين العلمية والعملية، المادية والمعنوية، حتى تقوم دولة المسلمين وتظهر خير أمة أخرجت للناس.

        [ ص: 68 ] تلك الأمة التي لم يحل إيمانها دون أخذها بأزمة العلوم ومقاليد المعارف، ولم يلغ توكلها تسلحها بالأسباب واستثمارها للسنن، ولم تشغلها العناية بأرواحها عن الاهتمام بأجسامها، ولم يتسبب الاهتمام بآخرتها في الذهول عن تعمير دنياها، ولم يفهم أبناؤها أبدا أن الرحمة بالناس ذل لأعدائهم، وأن التسامح مع غيرهم انطماس أمام ثقافاتهم، مثلما أنهم لم يجعلوا من القوة جبروتا واعتداء، ولم يتخذوا من العزة كبرا وغطرسة.

        وبذلك لم يكن الجهاد أبدا وسيلة للقسر والإكراه وإنما أداة لإزالة الفتنة ورفع الإكراه، ووسيلة لاجتياح الموانع، التي تقف دون حق الناس في اعتناق ما يريدون من الأديان، واختيار ما يرضون من الأفكار؛ ذلك أن ربهم يقول لهم: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله (الأنفال:39) ، وكأن هذه الآية تشير إلى أن الدين لا يقبل عند الله إلا عندما يكون التدين به من أجل الله، وأنى لمن أكره على اعتناق ما لا يريد من الأفكار والطقوس والمعاملات والأخلاق أن يخلص التعبد لله؟!

        ويمكن إبراز هذا الأمر من خلال ثلاث نقاط، وهي:

        1- الإفادة من الخبرات النافعة للآخر:

        عن عبد الله بن عبيد قال: "العلم ضالة المؤمن، كلما أصاب منه شيئا حواه، وابتغى ضالة أخرى" [1] .

        ولا زال ديدن المسلم أن الحكمة ضالته، التي لا ينفك عن البحث عنها، ولهذا فقد استفاد المسلمون من علوم الآخرين وخبراتهم النافعة في شتى [ ص: 69 ] ميادين الحياة، وهذه نماذج من النصوص، التي تجسد تلك الاستفادة في عصر صاحب الوحي وأعظم البشر:

        - عن جدامة بنت وهب الأسدية، رضي الله عنها، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لقد هممت أن أنهى عن الغيلة حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم" [2] .

        وهكذا أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم من تجارب الروم والفرس أن عزل الرجل أثناء الجماع لا يضر الأولاد، فأجازه بعد أن كان قد نهى أو هم أن ينهى عنه، حيث استقرأ تجاربهم ورأى أن الأمر ليس فيه ضرر ومن ثم أبقاه على أصله في الإباحة، وهنا نجد أنه قد جعل خبرات الآخرين حجة على فهمه الاجتهادي، ذلك أن الأفهام ظنية بينما تصير الخبرات قطعية بعد أن يتم التأكد من ذلك، من خلال استقراء حالات كثيرة قد تكون بالآلاف.

        - عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن "رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسدل شعره، وكان المشركون يفرقون رءوسهم، وكان أهل الكتاب يسدلون رءوسهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه" [3] .

        ومن الواضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم في كلتا الحالتين إنما كان يستفيد من تجارب وعوائد غير المسلمين، إذ أن العرب كانوا على الشرك.

        [ ص: 70 ] - عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: "دخل علي قائف والنبي صلى الله عليه وسلم شاهد, وأسامة بن زيد وزيد بن حارثة مضطجعان"، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، قال: "فسر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأعجبه، فأخبر به عائشة" [4] . وهنا استعان الرسول صلى الله عليه وسلم بخبرة من خبرات العرب الذين كانوا على الشرك ولم يمنعه ضلالهم من هذه الاستفادة القائمة على علم مبني على قواعد واضحة وليس على ظنون وتخرصات.

        - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتابا: أو أراد أن يكتب: فقيل له: إنهم لا يقرءون كتابا إلا مختوما.. فاتخذ خاتما من فضة نقشه: "محمد رسول الله" كأني أنظر إلى بياضه في يده [5] ، ولم يعتقد في هذا الموضع أن من مقتضيات البراء من الكفر والاعتزاز بالإسلام أن يتميز عن أولئك الناس رغم كفرهم، لأن الأمر لا يمس شيئا من عقيدة الأمة ولا ينتقص من منفعة أو يجلب مضرة، بل فيه تحقيق التواصل الدعوي والحضاري مع الآخرين، ولذلك فقد طبق الفكرة بدون أدنى تردد أو تفكير.

        - استـفـادة الرسـول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصـديق رضي الله عنه من خـبرة عبد الله ابن أريقـط الليـثي بالـطـريق عند هجرتـهما من مكة إلى المدينة، وكان يومئذ ما يزال على الشرك [6] .

        [ ص: 71 ] - اسـتفادة الرسول صلى الله عليه وسلم من اللغة السـريانية، عندما أمر صـاحبه زيد ابن ثابت رضي الله عنه أن يتعلمها، وأن يكون مترجما له فيها، وبهذا الأمر فقد ظهرت بوادر الترجمة، التي كانت إحدى آليات المسلمين في التفاعل مع الحضارات الأخرى واستفادة كل ما هو نافع منها [7] .

        - استفادة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام من الخبرة الزراعية المتوافرة عند اليهود، وذلك عند فتح حصن خيبر، الذي كان يقع على واحة زراعية سكنها اليهود منذ زمن بعيد [8] .

        - استفادة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المنتجات الصناعية لكثير من الشعوب، التي لم تكن تدين بالإسلام، مثل الثياب الأجنبية، التي كانت تصنع في بلاد فارس أو الروم أو الشام ومصر، بل وجاءته ثياب من اليمن قبل أن يعتنق أهلها الإسلام، وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل المثال لبس جبة رومية كانت ضيقة الأكمام [9] .

        ومن هذا الأمر حضور الخبرة الرومية في النجارة عن طريق صهيب الرومي رضي الله عنه فقد كان نجارا وصنع له منبره الذي كان يخطب الجمعة عليه، وكذلك حضور الخبرة الفارسية في حفر الخندق حول المدينة المنورة كوسيلة [ ص: 72 ] دفاعية أمام جحافل الغزاة من قبائل الأعراب أثناء غزوة (الأحزاب) ، وقد وقع ذلك بمشورة من سلمان الفارسي رضي الله عنه كما هو معلوم في كتب السيرة.

        - استفادة اللغة العربية من اللغات الأخرى، فقد اشتملت العربية على كلمات عديدة من لغات غير عربية كالفارسية والحبشية، وهذا أمر متفق عليه عند العلماء، وإنما حدث الخلاف بينهم حول دخول هذه الكلمات إلى القرآن الكريم من عدمه، فقد ذهب بعض العلماء إلى أن بعض هذه الكلمات قد دخلت بالفعل إلى القاموس القرآني [10] .

        - الاستفادة من العملات المالية المستخدمة عند الشعوب الأخرى في ذلك الزمان، فقد أخذ العرب قبل الإسلام وبعده الدينار عن الروم البيزنطيين، وأخذوا الدرهم عن الفرس أو عن اليونانيين - على بعض الروايات- ومعلوم أن الله ذكر العملتين في القرآن الكريم، قال تعالى: ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما (آل عمران:75) ، وقال أيضا: وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين (يوسف:20). وقد بدأ تكييف هذا الاقتباس منذ خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما جرى ضرب بعض العبارات العربية على الدراهم الفارسية والبيزنطية، ثم ضربت الدراهم العربية أول مرة في عهد عبد الملك بن مروان [11] .

        [ ص: 73 ] ومن العجيب أن أغلب العملات المستخدمة في بلدان المسلمين غير إسلامية المنشأ والأصل، فبجانب الدينار البيزنطي والدرهم الفارسي فإن الجنيه عملة إنجليزية والريال عملة إسبانية، والليرة عملة إيطالية، والقرش عملة ألمانية، والفلـس عملة يونانية، وقـد اسـتـخـدمهـا العرب بل وما يزالون يستخدمونها، ولا ندري لماذا لم يوجد متأخرو العرب عملة خاصة بهم!

        ومهما كانت أسباب هذا التقصير فلابد أنهم كانوا يتكؤون على عدم حرمة هذا الأمر، ولو كان حراما لبادروا من أول يوم إلى إيجاد عملة خاصة بهم.

        - الإبقاء على سائر الأوضـاع الإدارية والسياسيـة والاجتماعية، التي لا تمس العقيدة الإسلامية ولا تنتهك حقوق الإنسان، على وضعها في المناطق المفتوحة، والاستفادة من الخبرات المتقدمة لتلك الشعوب في الزراعة والصناعة وفي التجارة والأعمال الحرفية المختلفة، وعلى رأسها صناعة الأسلحة، التي برع المسلمون فيها إلى حد بعيد.

        2- الاستفادة من نظم الآخر في تحقيق مقاصد الإسلام:

        كان رسول صلى الله عليه وسلم مجيدا في قراءته للواقع المحلي والعالمي، حيث تعمقت معرفته بالآخر، وامتلك قدرات هائلة على تشريح الآخرين، واكتشاف الثغرات القائمة في جدرهم السياسية والثقافية والاجتماعية، وقد استطاع بكل جدارة الاستفادة من ذلك كله في خدمة قضايا المسلمين وفي تحقيق مقاصد الدين.

        ومن النظم التي استفاد منها صلى الله عليه وسلم ، نظام الاستجارة عند مشركي العرب، حيث استفاد منه صلى الله عليه وسلم -وكذلك عدد كبير من صحابته- في حماية أنفسهم من [ ص: 74 ] الاضطهاد وفي تبليغ الدعوة الإسلامية إلى القبائل التي كانت تفد إلى مكة، سواء للتجارة أو للحج والعمرة، كما فعل صلى الله عليه وسلم عندما عاد من الطائف حيث استجار بأحد زعماء المشركين وهو المطعم بن عدي، كما اسـتجار أبو بكر الصديق بابن الدغنة [12] . وفي هذا الأمر دليل على جـواز العمل من خلال نظم الآخر، بل ومن خلال استراتيجية العدو إن تطلب الأمر واقتضت الضرورة.

        - استفادة الرسول صلى الله عليه وسلم من عدل أصحمة النجاشي ملك الحبشة في توفير الحماية لبعض صحابته المضطهدين في مكة، إذ قام بإرسال دفعتين منهم إلى الحبشة كلاجئين، عندما اشتدت أذية قريش لهم، فقد أدرك بمعرفته الواسعة وفراسته الثاقبة أن النجاشي لا يظلم عنده أحد [13] .

        وفي هذا السياق أورد لنا القرآن نموذجا لنبي الله يوسف، عليه السلام، وذلك عندما كان في مصر بين ظهراني الفراعنة، الذين كانوا يعبدون غير الله، ومع ذلك فقد أحسن يوسف، عليه السلام، قراءة ذلك الواقع وأجاد الاستفادة منه في تحقيق مقاصد الرسالة، التي يحملها قدر المستطاع.

        ومن ذلك أنه لما أراد أن يضم إليه أخاه، وكان النظام الساري في مملكة فرعون لا يسمح بذلك، فقد دبر حيلة للوصول إلى هدفه النبيل، وذلك بأن وضع السقاية في رحل أخيه: [ ص: 75 ] فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم (يوسف:70-76).

        ونلاحظ كيف انتهت الآيات بتقرير أساس من أسس الاستفادة من الآخر وهو الوارد في قوله تعالى: وفوق كل ذي علم عليم ، حيث لا يمكن لفرد ولا لمجتمع أن يستغني عن غيره؛ لأن تفوقه العلمي والعملي يظل محدودا، ومن ثم لابد أن يجد من يفوقه علما وخبرة في مجالات أخرى، مما يحتم التشابك والتعاون بين الحضارات.

        وكان يوسف، عليه السلام، قبل ذلك قد استفاد من ذلك النظام، في وصوله إلى قيادة السلطة المالية في البلاد، إذ قام بإصلاح ما أمكنه إصلاحه حتى يجنب الناس الوقوع في مهلكة القحط والجدب والفاقة؛ لأن الأديان جميعا إنما جاءت من أجل تحقيق مصالح الناس في المعاش والمعاد، ودرء المفاسد عنهم، وهذا عين ما فعله يوسف الصديق، عليه السلام، وإن لم يكن أولئك الناس مسلمين.

        [ ص: 76 ] ولا ننسى أن موسى، عليه السلام، الذي بعثه الله لتحرير بني إسرائيل من استعباد الفراعنة المصريين، قد نشأ في بيت فرعون، الذي يدير كل ذلك الظلم، الذي يحيق ببني إسرائيل، ولابد أنه بجانب استفادته من الحرية الممنوحة له في بيت فرعون في نشأته، قد ظل يتأمل أحوال هذا النظام من الداخل ليعرف عوراته ونقاط ضعفه، ولابد أنه قد عرف سبيل الكافرين عن قرب، وأنه قد استفاد من ذلك في بناء مشروعه التحريري لقومه وفي اختطاط سبيل المؤمنين، حتى إذا حانت ساعة الحقيقة وأزفت ساعة التحرير عرف من أين تؤكل كتف النظام الفرعوني، ولذلك لم يضيـع الكثير من الزمن في التجريب، ولم يستهلك الكثير من الطاقات والأنفس في التكتيكات، ونجح بالمزج بين عوامل الغيب والشهادة في تحرير قومه من ذلك الطاغية المتأله.

        ولذلك فقد تدخل القدر بالتأييد الرباني بعد أن أحسن موسى، عليه السلام، حباكة الخطط، وتوظيف الكفايات مثل استفادته من فصاحة أخيه هارون، عليه السلام، وبعد أن نجح في توحيد بني إسرائيل، الذين كانوا في شتات منقطع النظير، وأقنعهم بالخروج معه من أرض العبودية إلى واحات الحرية بعد أن كانوا قد استمرأوا الذل واستعذبوا العبودية!

        3- التعاون مع (الآخر) في المتفق عليه:

        يمكن القول: إن الآية الثانية من سورة المائدة إحدى أهم الآيات في تربية المسلمين على العدل في التفـاعل مـع الآخرين مهما كانوا، قال تعالى: ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب [ ص: 77 ] ، إذ لم يكتف القرآن بمنع المسلمين من الاعتداء، بل طلب منهم أن يتعاونوا مع أولئك المشركين في كل ما يمكن الاتفاق عليه معهم من القواسم المشتركة، سواء كانت من حقوق الله (التقوى) أو من حقـوق الناس (البر) ، ولذلك أردف النهـي السـابـق بأمر لاحق، حيث قال تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان (المائدة:2).

        ومهما كان البون واسعا بين المسلمين وبين الآخر فلابد من وجود قواسم مشتركة، كما في حالة مشركي قريش، الذين كانوا يعبدون الأوثان، ولكن تعظيم البيت الحرام وتعظيم الدماء في الأشهر الحرم، وتحريم الغدر والخيانة، كلها قواسم مشتركة يمكن أن تؤسس لقاعدة تعاون بين الطرفين، وهكذا في كل زمان ومكان لابد من وجـود بعض الأمـور، التي يتفق فيها المسـلمون مـع غـيرهم ولا سيما في هذا الزمان، الذي برزت فيه العديد من القيم الإنسانية الراقية والتي يمكن أن تصبح أساسا متينا للتعاون بين المسلمين وغيرهم.

        يقول د. مصطفى السباعي، رحمه الله: "لا ينبغي أن يؤدي اختلاف الناس في أديانهم إلى أن يقتل بعضهم بعضا، أو يتعدى بعضهم على بعض، بل يجب أن يتعاونوا على فعل الخير ومكافحة الشر: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان (المائدة:2) [14] .

        [ ص: 78 ] وكتجسيد عملي للقواسم المشتركة، التي ينبغي أن تكون محل تعظيم عند المسلمين وغيرهم، حضر الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة "حلف الفضول" الذي تعاهدت فيه القبائل على نصرة المظلوم أيا كان، وبعد الإسلام نوه الرسول صلى الله عليه وسلم بقيمة ذلك الحلف وأشاد به، حتى أنه صلى الله عليه وسلم ذكر أنه لو دعي لمثله لأجاب، وقال: "وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة" [15] . وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم : "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلف الفضول، ما لو دعيت إليه لأجبت، وما أحب أن لي به حمر النعم" [16] .

        وهكذا فإن الإسلام لا يزيد عقود الخير إلا شدة وتوثيقا، ولا يزيد الاتفاقات، التي لا تحل حراما ولا تحرم حلالا إلا قوة وحرمة، فهو مع كل جهد يدرأ مفسدة أو يجلب منفعة للبشر في أي زمان أو مكان، إذ ما جاء هذا الدين إلا لتحقيق مصالح الناس في المعاش والمعاد، ومن أبى أن ينحاز لمصلحته في المعاد فإن هذا لا يحرمه من مصلحته في المعاش ما دام لا يسل السيف على المسلمين ولا يحرض عليهم ولا يقف دون حق الناس في الحرية والاختيار.

        ولا شك أن المسلمين في هذا الزمن سيجدون تيارات إنسانية عريضة في شتى بقاع العالم، تتفق معهم في تقدير كرامة الإنسان وتقديس حقوقه في الحرية والعدل والمساواة وفي التعليم والحركة والعمل، ويمكن بمزيد من الحوار وحسن الظن اكتشاف الكثير من المشتركات والقواسم، التي يمكن التمحور حولها والتعاون من أجل تحقيقها.

        [ ص: 79 ] ونختتم هذا المبحث بالتذكير أن كل النصوص المحتوية على هذه القيم والمفردات ذات الصلة بتأصيل وتجسيد الاستفادة من الآخر، قد جاءت في وقت تكالبت فيه الأمم والدول ضد الإسلام والمسلمين، وكانت معظم سنوات هذه المرحلة المبكرة من تأريخ الإسلام ممتلئة بالصدامات الدامية بين المسلمين وغيرهم، حيث شن الجميع الغارة عليه ورموا المسلمين عن قوس واحدة.

        وفي مثل هذه الظروف والأوضاع كان يفترض أن تنبعث قيم التغاير والصدام وأن تطفو المواقف المعادية لمن حملوا راية العداء بالفعل وتربصوا بالمسلمين الدوائر، لكن شيئا من ذلك لم يحدث البتة إلا في نطاق ضيق كنوع من الدفاع عن النفس وبصورة مؤقتة.

        أما الأصل فقد سار عليه المسلمون، حيث مدوا جسور التواصل وبنوا قناطر التعاون مع كل الشعوب والأمم، واستفادوا من سائر الثقافات والحضارات، التي عرفوها آنذاك، واقتبسوا كل ما هو نافع ومفيد ولو جاء من أبعد الناس عنهم وأشدهم عداوة لهم.

        وتحكي وقائع التاريخ الموثق أن سائر معارك المسلمين مع الآخرين كانت دفاعا عن النفس وردا للاعتداء وقضاء على التآمر المؤكد.. ولأن حروب المسلمين كانت كذلك فقد سميت بالفتوحات، حيث التزمت بالمعايير الأخلاقية الرفيعة بصورة أبهرت الأعداء، واستجلبت شهادات الخصوم، الذين تحرروا من ربقة التعصب وتخلصوا من آصار التحامل!

        [ ص: 80 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية