الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا ) الآية . نزلت في أصحاب سلمان ، وذلك أنه صحب عبادا من النصارى ، فقال له أحدهم : إن زمان نبي قد أظل ، فإن لحقته فآمن به . ورأى منهم عبادة عظيمة ، فلما جاء النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ذكر له خبرهم وسأله عنهم ، فنزلت هذه الآية ، حكى هذه القصة مطولة ابن إسحاق والطبري والبيهقي . وروي عن ابن عباس أنها نزلت في أول الإسلام ، وقدر الله بها أن من آمن بمحمد ، صلى الله عليه وسلم ، ومن بقي على يهوديته ونصرانيته وصابئيته ، وهو مؤمن بالله واليوم الآخر ، فله أجره ، ثم نسخ ما قدر من ذلك بقوله : ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) .

وردت الشرائع كلها إلى شريعة محمد ، صلى الله عليه وسلم ، وقال غير ابن عباس : ليست بمنسوخة ، وهي فيمن ثبت على إيمانه بالنبي ، صلى الله عليه وسلم ، وروى الواحدي ، بإسناد متصل [ ص: 241 ] إلى مجاهد ، قال : لما قص سلمان على النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قصة أصحابه ، وقال له : هم في النار . قال سلمان : فأظلمت علي الأرض ، فنزلت إلى ( يحزنون ) ، قال : فكأنما كشف عني جبل .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لما ذكر الكفرة من أهل الكتاب وما حل بهم من العقوبة ، أخبر بما للمؤمنين من الأجر العظيم ، دالا على أنه يجزي كلا بفعله ، والذين آمنوا منافقو هذه الأمة ، أي آمنوا ظاهرا ، ولهذا قرنهم بمن ذكر بعدهم ، ثم بين حكم من آمن ظاهرا وباطنا ، قاله سفيان الثوري . أو المؤمنون بالرسول .

ومن آمن : معناه من داوم على إيمانه ، وفي سائر الفرق : من دخل فيه ، أو الحنيفيون ممن لم يلحق الرسول : كزيد بن عمرو بن نفيل ، وقيس بن ساعدة ، وورقة بن نوفل ، ومن لحقه : كأبي ذر ، وسلمان ، وبحيرى . ووفد النجاشي الذين كانوا ينتظرون المبعث ، فمنهم من أدرك وتابع ، ومنهم من لم يدركه ، والذين هادوا كذلك ، ممن لم يلحق إلا من كفر بعيسى ، على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، والنصارى كذلك ، والصابئين كذلك ، قاله السدي . أو أصحاب سلمان ، وقد سبق حديثهم ، أو المؤمنون بعيسى قبل أن يبعث الرسول ، قاله ابن عباس ، أو المؤمنون بموسى وعملوا بشريعته إلى أن جاء عيسى فآمنوا به وعملوا بشريعته ، إلى أن جاء محمد ، قاله السدي عن أشياخه ، أو مؤمنو الأمم الخالية ، أو المؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله من سائر الأمم . فهذه ثمانية أقوال في المعني بالذين آمنوا والذين هادوا وهم اليهود .

وقرأ الجمهور : هادوا بضم الدال . وقرأ أبو السماك العدوي بفتحها من المهاداة ، قيل : أي مال بعضهم إلى بعض ، فالقراءة الأولى مادتها هاء وواو ودال ، أو هاء وياء ودال ، والقراءة الثانية مادتها هاء ودال وياء ، ويكون فاعل من الهداية ، وجاء فيه فاعل موافقة فعل ، كأنه قيل : والذين هدوا ، أي هدوا أنفسهم نحو : جاوزت الشيء بمعنى جزته .

( والنصارى ) : الألف للتأنيث ، ولذلك منع الصرف في قوله : ( الذين قالوا إنا نصارى ) ، وهذا البناء ، أعني فعالى ، جاء مقصورا جمعا ، وجاء ممدودا مفردا ، وألفه للتأنيث أيضا نحو براكاء . وقرأ الجمهور : والصابئين مهموزا ، وكذا والصابئون ، وتقدم معنى صبأ المهموز . وقرأ نافع بغير همز ، فيحتمل وجهين أظهرهما أن يكون من صبأ : بمعنى مال ، ومنه قول الشاعر :


إلى هند صبا قلبي وهند مثلها يصبي



والوجه الآخر يكون أصله الهمز ، فسهل بقلب الهمز ألفا في الفعل وياء في الاسم ، كما قال الشاعر :


إن السباع لتهدي في مرابضها     والناس ليس بهاد شرهم أبدا



وقال الآخر :


وكنت أذل من وتد بقاع     يشجج رأسه بالفهرواج



وقال آخر :


فارعي فزارة لا هناك المرتع



إلا أن قلب الهمزة ألفا يحفظ ولا يقاس عليه . وأما قلب الهمزة ياء فبابه الشعر ، فلذلك كان الوجه الأول أظهر . وذكر بعض المفسرين مسائل من أحكام اليهود والنصارى .

( والصابئين ) : لا يدل عليها لفظ القرآن هنا ، فلم يذكرها ، وموضعها كتب الفقه .

( من آمن بالله واليوم الآخر ) ، من : مبتدأة ، ويحتمل أن تكون شرطية ، فالخبر الفعل بعدها ، وإذا كانت موصولة ، فالخبر قوله : ( فلهم أجرهم ) ، ودخلت الفاء في الخبر ; لأن المبتدأ الموصول قد استوفى شروط جواز دخول الفاء في الخبر ، وقد تقدم ذكرها . واتفق المعربون والمفسرون على أن الجملة من قوله : ( من آمن ) في موضع خبر إن إذا كان ( من ) مبتدأ ، وأن الرابط محذوف ، تقديره : من آمن منهم ، ولا يتم ما قالوه إلا على تغاير الإيمانين ، أعني : الذي هو صلة الذين ، والذي هو صلة من ، إما في التعليق ، أو في الزمان ، أو في الإنشاء والاستدامة . وأما إذا لم يتغايرا ، فلا يتم ذلك ; [ ص: 242 ] لأنه يصير المعنى : إن الذين آمنوا من آمن منهم ، ومن كانوا مؤمنين ، يقال : من آمن منهم إلا على التغاير بين الإيمانين . وذهب بعض الناس إلى أن ذلك على الحذف ، وأن التقدير : إن الذين آمنوا لهم أجرهم عند ربهم ، والذين هادوا والصابئين والنصارى من آمن منهم ، أي من الأصناف الثلاثة ، فلهم أجرهم ، وذلك لما لم يصلح أن يكون عنده ( من آمن ) خبرا عن الذين آمنوا ومن بعدهم . ومن أعرب ( من ) مبتدأ ، فإنما جعلها شرطية .

وقد ذكرنا جواز كونها موصولة ، وأعربوا أيضا ( من ) بدلا ، فتكون منصوبة موصولة . قالوا : وهي بدل من اسم ( إن ) وما بعده ، ولا يتم ذلك أيضا إلا على تقدير تغاير الإيمانين ، كما ذكرنا ، إذا كانت مبتدأة . والذي نختاره أنها بدل من المعاطيف التي بعد اسم إن ، فيصح إذ ذاك المعنى ، وكأنه قيل : إن الذين آمنوا من غير الأصناف الثلاثة ، ومن آمن من الأصناف الثلاثة ، فلهم أجرهم . ودخلت الفاء في الخبر ; لأن الموصول ضمن معنى الشرط ، ولم يعتد بدخول ( إن ) على الموصول ، وذلك جائز في كلام العرب ، ولا مبالاة بمن خالف في ذلك . ومن زعم أن ( من آمن ) معطوف على ما قبله ، وحذف منه حرف العطف ، التقدير : ومن آمن بالله - فقوله بعيد عن الصواب ، ولا حاجة تدعو إلى ذلك ، وقد اندرج في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالرسل ، إذ البعث لا يعرف إلا من جهة الرسل .

( وعمل صالحا ) : هو عام في جميع أفعال الصلاح وأقوالها وأداء الفرائض ، أو التصديق بمحمد ، صلى الله عليه وسلم ، أقوال . الثاني يروى عن ابن عباس ، وقد حمل الصلة أو فعل الشرط والمعطوف على لفظ ( من ) فأفرد الضمير في ( آمن وعمل ) . ثم قال : ( فلهم أجرهم ) إلى آخر الآية ، فجمع حملا على المعنى . وهذان الحملان لا يتمان إلا بإعراب ( من ) مبتدأ ، وأما على إعراب ( من ) بدلا ، فليس فيه إلا حمل على اللفظ فقط . وللحمل على اللفظ والمعنى قيود ذكرت في النحو . قال أبو محمد بن عطية : وإذا جرى ما بعد ( من ) على اللفظ فجائز أن يخالف به بعد على المعنى ، وإذا جرى ما بعدها على المعنى ، لم يجز أن يخالف به بعد على اللفظ ; لأن الإلباس يدخل في الكلام . انتهى كلامه . وليس كما ذكر ، بل يجوز إذا راعيت المعنى أن تراعي اللفظ بعد ذلك ، لكن الكوفيين يشترطون الفصل في الجمع بين هذه الحملين فيقولون : من يقومون في غير شيء ، وينظر في أمورنا قومك . والبصريون لا يشترطون ذلك ، وهذا على ما قرر في علم العربية :


تروى الأحاديث عن كل مسامحة     وإنما لمعانيها معانيها



و ( أجرهم ) : مرفوع بالابتداء ، و ( لهم ) في موضع الخبر . وعند الأخفش والكوفيين أن ( أجرهم ) مرفوع بالجار والمجرور . ( عند ربهم ) : ظرف يعمل فيه الاستقرار الذي هو عامل في ( لهم ) ، ويحتمل أن ينتصب على الحال ، والعامل فيه محذوف تقديره : كائنا عند ربهم . وقرأ الجمهور : ( ولا خوف ) ، بالرفع والتنوين . وقرأ الحسن : ولا خوف ، من غير تنوين . وقد تقدم الكلام على قوله : ( ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) في آخر قصة آدم ، على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، فأغنى عن إعادته هنا .

ومناسبة ختم هذه الآية بها ظاهرة ; لأن من استقر أجره عند ربه لا يلحقه حزن على ما مضى ، ولا خوف على ما يستقبل . قال القشيري : اختلاف الطرق مع اتحاد الأصل لا يمنع من حسن القبول ، فمن صدق الله تعالى في إيمانه ، وآمن بما أخبر به من حقه وصفاته ، فاختلاف وقوع الاسم غير قادح في استحقاق الرضوان .

( وإذ أخذنا ميثاقكم ) : هذا هو الإنعام العاشر ; لأنه إنما أخذ ميثاقهم لمصلحتهم ، وتقدم الكلام في لفظة الميثاق في قوله تعالى : ( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ) . والميثاق : ما أودعه الله تعالى العقول من الدلائل على وجوده وقدرته وحكمته وصدق أنبيائه ورسله ، أو المأخوذ على ذرية آدم في قوله : ( ألست بربكم قالوا بلى ) ، أو إلزام الناس متابعة الأنبياء ، أو الإيمان بمحمد ، صلى الله عليه وسلم ، أو العهد منهم [ ص: 243 ] ليعملن بما في التوراة ، فلما جاء موسى قرءوا ما فيها من التثقيل فامتنعوا من أخذها ، أو قوله : ( لا تعبدون إلا الله ) ، أقوال ستة . قال القفال : قال ( ميثاقكم ) ولم يقل مواثيقكم ; لأنه أراد ميثاق كل واحد منكم ، كقوله : ( ثم يخرجكم طفلا ) ، أو لأن ما أخذه على واحد منهم ، أخذه على غيره ، فكان ميثاقا واحدا ، ولو جمع لاحتمل التغاير . انتهى كلامه ملخصا .

التالي السابق


الخدمات العلمية