الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( إن الله واسع عليم ) : وصف تعالى نفسه بصفة الواسع ، فقيل ذلك لسعة مغفرته . وجاء : ( إن ربك واسع المغفرة ) ، وهو معنى قول الكلبي : لا يتعاظمه ذنب . وقيل : واسع العطاء ، وهو معنى قول أبي عبيدة : غني ، ومعنى قول الفراء : جواد . وقيل : معناه عالم ، من قوله : ( وسع كرسيه السماوات والأرض ) ، على أحد التفاسير ، وجمع بينه وبين عليم على سبيل التأكيد . وقيل : واسع القدرة . وقيل : معناه يوسع على عباده في الحكم ، دينه يسر . عليم : أي بمصالحهم أو بنيات القلوب التي هي ملاك العمل ، وإن اختلفت ظواهرها في قبلة وغيرها . وهذه التفاسير على قول من قال : إن الآية نزلت في أمر القبلة . وقال القفال : ليس فيها ذكر القبلة والصلاة ، وإنما أخبرهم تعالى عن علمه بهم ، وطوق سلطانه إياهم حيث كانوا ، كقوله تعالى : ( إن استطعتم ) ، الآية ، [ ص: 362 ] وقوله : ( ما يكون من نجوى ) الآية ، ويكون في هذا تهديد لمن منع مساجد الله من الذكر ، وسعى في خرابها ، أنه لا مهرب له من الله ولا مفر ، كما قال تعالى : ( أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر ) ، وكما قال :


فإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنتأى عنك واسع



وقال :


ولم يكن المغتر بالله إذ سرى     ليعجز والمعتز بالله طالبه



وقال :


أين المفر ولا مفر لهارب     وله البسيطان الثرى والماء



وعلى هذا المعنى يكون الخطاب عاما يندرج فيه من منع المساجد من الذكر وغيره . وجاءت هذه الجملة مؤكدة بإن مصرحا باسم الله فيها دالة على الاستقلال . وقد قدمنا ذلك في قوله : ( تجدوه عند الله ) ، وكقوله : ( واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ) ، وذلك أفخم وأجزل من الضمير ؛ لأن الضمير يشعر بقوة التعلق ، والظاهر يشعر بالاستقلال . ألا ترى أنه يصح الابتداء به ، وإن لم يلحظ ما قبله ؟ بخلاف الضمير ، فإنه رابط للجملة التي هو فيها بالجملة التي قبلها . ألا ترى إلى أن أكثر ما ورد في القرآن من ذلك إنما جاء بالظاهر ؟ كما مثلناه ، وكقوله : ( فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت ) ، ( ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله ) ، وقال :


ليت شعري وأين مني ليت     إن ليتا وإن لوا عناء



( وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه ) : نزلت في اليهود ، إذ قالوا : ( عزير ابن الله ) ، أو في النصارى ، إذ قالوا : ( المسيح ابن الله ) ، أو في المشركين ، إذ قالوا : الملائكة بنات الله ، أو في النصارى والمشركين ، أقوال أربعة ، والأخير قاله الزجاج . ولاختلافهم في سبب النزول ، اختلفوا في الضمير في و " قالوا " ، على من يعود ؟ فقيل : هو عائد على الجميع من غير تخصيص . فإن كلا منهم قد جعل لله ولدا ، قاله ابن إسحاق ، والجمهور على قراءة : وقالوا بالواو ، وهو آكد في الربط ، فيكون عطف جملة خبرية على جملة مثلها . وقيل : هو عطف على قوله : ( وسعى في خرابها ) ، فيكون معطوفا على معطوف على الصلة ، وفصل بينهما بالجمل الكثيرة ، وهذا بعيد جدا ، ينزه القرآن عن مثله . وقرأ ابن عباس وابن عامر وغيرهما : قالوا بغير واو ، ويكون على استئناف الكلام ، أو ملحوظا فيه معنى العطف ، واكتفى بالضمير والربط به عن الربط بالواو . وقال الفارسي : وبغير واو هي في مصاحف أهل الشام . تقدم أن اتخذ : افتعل من الأخذ ، وأنها تارة تتعدى إلى واحد نحو قوله : ( اتخذت بيتا ) ، قالوا : معناه صنعت وعملت ، وإلى اثنين فتكون بمعنى : صير . وكلا الوجهين يحتمل هنا . وكل من الوجهين يقتضي تصوره باستحالة الولد ؛ لأن الولد يكون من جنس الوالد . فإن جعلت اتخذ بمعنى عمل وصنع ، استحال ذلك ؛ لأن الباري تعالى منزه عن الحدوث ، قديم ، لا أولية لقدمه ، وما عمله محدث ، فاستحال أن يكون ولد له . وإن جعلت اتخذ بمعنى صير ، استحال أيضا ؛ لأن التصيير هو نقل من حال إلى حال ، وهذا لا يكون إلا فيما يقبل التغيير ، وفرضية الولد به تقتضي أن يكون من جنس الوالد لا تقتضي التغيير ، فقد استحال ذلك . وإذا جعلت اتخذ بمعنى صير ، كان أحد المفعولين محذوفا ، التقدير : وقالوا اتخذ بعض الموجودات ولدا . والذي جاء في القرآن إنما ظاهره التعدي إلى واحد ، قال تعالى : ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا ) ، ( ما اتخذ الله من ولد ) ، ( وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ) . وقال القشيري : أتى بالولد ، وهو أحدي الذات ، لا جزء لذاته ، ولا تجوز الشهوة في صفاته . انتهى .

ولما كانت هذه المقالة من أفسد الأشياء وأوضحها في الاستحالة ، أتى باللفظ الذي يقتضي التنزيه والبراءة من الأشياء التي لا تجوز على الله تعالى ، قبل أن يضرب عن مقالتهم ويستدل على بطلان دعواهم . وكان ذكر التنزيه أسبق ؛ لأن فيه ردعا لمدعي ذلك ، وأنهم ادعوا أمرا تنزه الله عنه وتقدس ، ثم أخذ في إبطال تلك المقالة فقال : [ ص: 363 ] ( بل له ما في السماوات والأرض ) : أي جميع ذلك مملوك له ، ومن جملتهم من ادعوا أنه ولد الله . والولادة تنافي الملكية ؛ لأن الوالد لا يملك ولده . وقد ذكر بعض المفسرين هنا مسألة من اشترى والدا أو ولده أو أحدا من ذوي رحمه ، وموضوعها علم الفقه . ولما ذكر أن الكل مملوك لله تعالى ، ذكر أنهم كلهم قانتون له ، أي مطيعون خاضعون له . وهذه عادة المملوك ، أن يكون طائعا لمالكه ، ممتثلا لما يريده منه . واستدل بنتيجة الطواعية على ثبوت الملكية . ومن كان بهذه الصفة لم يجانس الوالد ، إذ الولد يكون من جنس الوالد . وأتى بلفظ ما في قوله : ( بل له ما في السماوات والأرض ) ، وإن كانت لما لا يعقل ؛ لأن ما لا يعقل إذا اختلط بمن يعقل جاز أن يعبر عن الجميع بما . ولذلك قال سيبويه : وأما ما ، فإنها مبهمة تقع على كل شيء ، ويدل على اندراج من يعقل تحت مدلول " ما " جمع الخبر بالواو والنون ، التي هي حقيقة فيما يعقل ، واندرج فيه ما لا يعقل على حكم تغليب من يعقل . فحين ذكر الملك ، أتى بلفظة ما ، وحين ذكر القنوت ، أتى بجمع ما يعقل ، فدل على أن ذلك شامل لمن يعقل وما لا يعقل . قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاء بما الذي لغير أولي العلم مع قوله : قانتون ؟ قلت : هو كقوله : سبحان ما سخركن لنا ، وكأنه جاء بـ " ما " دون " من " ، تحقيرا لهم وتصغيرا لشأنهم ، كقوله : ( وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ) . انتهى كلامه ، وهو جنوح منه إلى أن ما وقعت على من يعلم ، ولذلك جعله كقوله : ما سخركن لنا . يريد أن المعنى : سبحان من سخركن لنا ، لأنها يراد بها الله تعالى . وما عندنا لا يقع إلا لما لا يعقل ، إلا إذا اختلط بمن يعقل ، فيقع عليهما ، كما ذكرناه ، أو كان واقعا على صفات من يعقل ، فيعبر عنها بما . وأما أن يقع لمن يعقل خاصة حالة إفراده أو غير إفراده ، فلا . وقد أجاز ذلك بعض النحويين ، وهو مذهب لا يقوم عليه دليل ، إذ جميع ما احتج به لهذا المذهب محتمل ، وقد يئول ، فيئول قوله : سبحان ما سخركن ، على أن سبحان غير مضاف ، وأنه علم لمعنى التسبيح ، فهو كقوله :


سبحان من علقمة الفاخر



وما : ظرفية مصدرية أي مدة تسخيركن لنا . والفاعل بسخر مضمر يفسره المعنى وسياق الكلام ، إذ معلوم أن مسخرهن هو الله تعالى . وقول الزمخشري : وكأنه جاء بما دون من ، تحقيرا لهم وتصغيرا لشأنهم ، ليست ما هنا مختصة بمن يعقل ، فتقول عبر عنهم بما التي لما لا يعقل تحقيرا لهم ، وإنما هي عامة لمن يعقل ولما لا يعقل . ومعنى قانتون : قائمون بالشهادة ، قاله الحسن ، أو في القيامة للعرض ، قاله الربيع ، أو مطيعون ، قاله قتادة ; أو مقرون بالعبودية ، قاله عكرمة . وقيل : قائمون بالله . وأورد على من يقول : القنوت : القيام لله بالشهادة والعبودية ، أنه : كيف عم بهذا القول وكثير ليس بمطيع ؟ وأجيب : أن ظاهره العموم ، والمعنى الخصوص ، أي أهل كل طاعة له قانتون ، وبأن الكفار يسجد ضلالهم ، وبظهور أثر الصنعة فيه ، وجري أحكام الله عليه ، وذلك دليل على تذللـه لله تعالى ، ذكره ابن الأنباري .

( وكل له ) : مرفوع بالابتداء ، والمضاف إليه محذوف ، وهو عبارة عن من في السماوات والأرض ، أي كل من في السماوات والأرض ، وهو المحكوم عليهم بالملكية . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون كل من جعلوه لله ولدا ، وهذا بعيد جدا ؛ لأن المجعول لله ولدا لم يجر ذكره ، ولأن الخبر يشترك فيه المجعول ولدا وغيره .

و ( قانتون ) : خبر عن " كل " ، وجمع حملا على المعنى . وكل إذا حذف ما تضاف إليه ، جاز فيها مراعاة المعنى فتجمع ، ومراعاة اللفظ فتفرد . وإنما حسنت مراعاة الجمع هنا ، لأنها فاصلة رأس آية ، ولأن الأكثر في لسانهم أنه إذا قطعت عن الإضافة كان مراعاة المعنى أكثر وأحسن . قال تعالى : ( وكل كانوا ظالمين ) ، ( وكل أتوه داخرين ) ، و ( كل في فلك يسبحون ) . وقد جاء إفراد الخبر كقوله : [ ص: 364 ] ( قل كل يعمل على شاكلته ) ، وسيأتي إن شاء الله تعالى هناك ذكر محسن إفراد الخبر .

التالي السابق


الخدمات العلمية