الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإلهكم إله واحد ) الآية . روي عن ابن عباس أنها نزلت في كفار قريش ، قالوا : يا محمد ، صف وانسب لنا ربك ، فنزلت سورة الإخلاص وهذه الآية . وروي عنه أيضا أنه كان في الكعبة ، وقيل حولها ، ثلاثمائة وستون صنما يعبدونها من دون الله ، فنزلت . وظاهر الخطاب أنه لجميع المخلوقات المتصور منهم العبادة ، فهو إعلام لهم بوحدانية الله تعالى . ويحتمل أن يكون خطابا لمن قال : صف لنا ربك وانسبه ، أو خطابا لمن يعبد مع الله غيره من صنم ووثن ونار . وإله : خبر عن إلهكم ، وواحد : صفته ، وهو الخبر في المعنى لجواز الاستغناء عن إله ، ومنع الاقتصار عليه ، فهو شبيه بالحال الموطئة ، كقولك : مررت بزيد رجلا صالحا . والواحد المراد به نفي النظير أو القديم الذي لم يكن معه في الأزل شيء ، أو الذي لا أبعاض له ولا أجزاء ، أو المتوحد في استحقاق العبادة . أقوال أربعة أظهرها الأول . تقول : فلان واحد في عصره ، أي لا نظير له ولا شبيه ، وليس المعنى هنا بواحد مبدأ العدد .

( لا إله إلا هو ) : توكيد لمعنى الوحدانية ونفي الإلهية عن غيره . وهي جملة جاءت لنفي كل فرد من الآلهة ، ثم حصر ذلك المعنى فيه - تبارك وتعالى - ، فدلت الآية الأولى على نسبة الواحدية إليه تعالى ، [ ص: 463 ] ودلت الثانية على حصر الإلهية فيه من اللفظ الناص على ذلك ، وإن كانت الآية الأولى تستلزم ذلك ; لأن من ثبتت له الواحدية ثبتت له الإلهية .

وتقدم الكلام على إعراب الاسم بعد " لا " في قوله : ( لا ريب فيه ) ، والخبر محذوف ، وهو بدل من اسم " لا " على الموضع ، ولا يجوز أن يكون خبرا . كما جاز ذلك في قولك : زيد ما العالم إلا هو ; لأن " لا " لا تعمل في المعارف ، هذا إذا فرعنا على أن الخبر بعد " لا " التي يبنى الاسم معها هو مرفوع بها ، وأما إذا فرعنا على أن الخبر ليس مرفوعا بها ، بل هو خبر المبتدأ الذي هو " لا " مع المبني معها ، وهو مذهب سيبويه ، فلا يجوز أيضا ; لأنه يلزم من ذلك جعل المبتدأ نكرة ، والخبر معرفة ، وهو عكس ما استقر في اللسان العربي . وتقرير البدل فيه أيضا مشكل على قولهم : إنه بدل من إله ; لأنه لا يمكن أن يكون على تقدير تكرار العامل ، لا تقول : لا رجل إلا زيد . والذي يظهر لي فيه أنه ليس بدلا من " إله " ولا من رجل في قولك : لا رجل إلا زيد ، إنما هو بدل من الضمير المستكن في الخبر المحذوف ، فإذا قلنا : لا رجل إلا زيد ، فالتقدير : لا رجل كائن أو موجود إلا زيد . كما تقول : ما أحد يقوم إلا زيد ، فزيد بدل من الضمير في " يقوم " لا من " أحد " ، وعلى هذا يتمشى ما ورد من هذا الباب ، فليس بدلا على موضع اسم لا ، وإنما هو بدل مرفوع من ضمير مرفوع ، ذلك الضمير هو عائد على اسم لا . ولولا تصريح النحويين أنه بدل على الموضع من اسم لا ، لتأولنا كلامهم على أنهم يريدون بقولهم بدل من اسم لا ، أي من الضمير العائد على اسم لا . قال بعضهم : وقد ذكر أن هو بدل من إله على المحل ، قال : ولا يجوز فيه النصب هاهنا ; لأن الرفع يدل على الاعتماد على الثاني ، والمعنى في الآية على ذلك ، والنصب على أن الاعتماد على الأول . انتهى كلامه .

ولا فرق في المعنى بين : ما قام القوم إلا زيد ، وإلا زيدا ، من حيث أن زيدا مستثنى من جهة المعنى . إلا أنهم فرقوا من حيث الإعراب ، فأعربوا ما كان تابعا لما قبله بدلا ، وأعربوا هذا منصوبا على الاستثناء ، غير أن الإتباع أولى للمشاكلة اللفظية ، والنصب جائز ، ولا نعلم في ذلك خلافا .

وقال في المنتخب : لما قال تعالى : ( وإلهكم إله واحد ) ، أمكن أن يخطر ببال أحد أن يقول : هب أن إلهنا واحد ، فلعل إله غيرنا مغاير لإلهنا ، فلا جرم أزال ذلك الوهم ببيان التوحيد المطلق فقال : " لا إله إلا هو " . فقوله : " لا إله " يقتضي النفي العام الشامل ، فإذا قال بعده : إلا الله ، أفاد التوحيد التام المطلق المحقق . ولا يجوز أن يكون في الكلام حذف ، كما يقوله النحويون ، والتقدير : لا إله لنا ، أو في الوجود ، إلا الله ; لأن هذا غير مطابق للتوحيد الحق ; لأنه إن كان المحذوف لنا ، كان توحيدا لإلهنا لا توحيدا للإله المطلق ، فحينئذ لا يبقى بين قوله : ( وإلهكم إله واحد ) ، وبين قوله : ( لا إله إلا هو ) فرق فيكون ذلك تكرارا محضا ، وأنه غير جائز . وأما إن كان المحذوف في الوجود ، كان هذا نفيا لوجود الإله الثاني . أما لو لم يضمر ، كان نفيا لماهية الإله الثاني ، ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود ، فكان إجراء الكلام على ظاهره ، والإعراض عن هذا الإضمار أولى ، وإنما قدم النفي على الإثبات ، لغرض إثبات التوحيد ونفي الشركاء والأنداد . انتهى الكلام .

قال أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في ( ري الظمآن ) : هذا كلام من لا يعرف لسان العرب . فإن لا إله في موضع المبتدأ ، على قول سيبويه ، وعند غيره اسم " لا " ، وعلى التقديرين ، لا بد من خبر للمبتدأ أو للا ، فما قاله من الاستغناء عن الإضمار فاسد . وأما قوله : إذا لم يضمر كان نفيا للماهية ، قلنا : نفي الماهية هو نفي الوجود ; لأن نفي الماهية لا يتصور عندنا إلا مع الوجود ، فلا فرق عنده بين لا ماهية ولا وجود ، وهذا مذهب أهل السنة ، خلافاللمعتزلة ، فإنهم يثبتون الماهية عرية عن الوجود ، والدليل يأبى ذلك . انتهى كلامه ، وما قاله من تقدير خبر " لا " لا بد منه ; لأن قوله : " لا إله " ، كلام ، فمن حيث هو كلام ، لا بد فيه من مسند ومسند إليه . فالمسند إليه هو إله ، والمسند هو الكون المطلق ، ولذلك ساغ حذفه ، كما [ ص: 464 ] ساغ بعد قولهم : لولا زيد لأكرمتك ، إذ تقديره : لولا زيد موجود ; لأنها جملة تعليقية ، أو شرطية عند من يطلق عليها ذلك ، فلا بد فيها من مسند ومسند إليه ، ولذلك نقلوا أن الخبر بعد لا ، إذا علم ، كثر حذفه عند الحجازيين ، ووجب حذفه عند التميميين . وإذا كان الخبر كونا مطلقا كان معلوما ; لأنه إذا دخل النفي المراد به نفي العموم ، فالمتبادر إلى الذهن هو نفي الوجود ; لأنه لا تنتفي الماهية إلا بانتفاء وجودها ، بخلاف الكون المقيد ، فإنه لا يتبادر الذهن إلى تعيينه ، فلذلك لا يجوز حذفه نحو : لا رجل يأمر بالمعروف إلا زيد ، إلا إن دل على ذلك قرينة من خارج فيعلم ، فيجوز حذفه .

( الرحمن الرحيم ) : ذكر هاتين الصفتين منبها بهما على استحقاق العبادة له ; لأن من ابتدأك بالرحمة إنشاء بشرا سويا عاقلا وتربية في دار الدنيا موعودا الوعد الصدق بحسن العاقبة في الآخرة ، جدير بعبادتك له والوقوف عند أمره ونهيه ، وأطمعك بهاتين الصفتين في سعة رحمته . وجاءت هذه الآية عقيب آية مختومة باللعنة والعذاب لمن مات غير موحد له تعالى ، إذ غالب القرآن أنه إذا ذكرت آية عذاب ، ذكرت آية رحمة ، وإذا ذكرت آية رحمة ، ذكرت آية عذاب . وتقدم شرح هاتين الصفتين ، فأغنى عن إعادته . ويجوز ارتفاع الرحمن على البدل من هو ، وعلى إضمار مبتدأ محذوف ، أي هو الرحمن الرحيم ، وعلى أن يكون خبرا بعد خبر لقوله : " وإلهكم " ، فيكون قد قضى هذا المبتدأ ثلاثة أخبار : إله واحد خبر ، ولا إله إلا هو خبر ثان ، والرحمن الرحيم خبر ثالث . ولا يجوز أن يكون خبرا لهو هذه المذكورة ; لأن المستثنى هنا ليس بجملة ، بخلاف قولك : ما مررت برجل إلا هو أفضل من زيد . قالوا : ولا يجوز أن يرتفع على الصفة لهو ; لأن المضمر لا يوصف . انتهى . وهو جائز على مذهب الكسائي ، إذا كانت الصفة للمدح ، وكان الضمير للغائب . وأهمل ابن مالك القيد الأول ، فأطلق عن الكسائي أنه يجيز وصف الضمير الغائب . روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن هاتين الآيتين اسم الله الأعظم ، وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم " .

التالي السابق


الخدمات العلمية