الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) : قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، والجمهور : واتخذوا ، بكسر الخاء على الأمر . وقرأ نافع ، وابن عامر : بفتحها ، جعلوه فعلا ماضيا . فأما قراءة : واتخذوا على الأمر ، فاختلف من المواجه به ، فقيل : إبراهيم وذريته ، أي وقال الله لإبراهيم وذريته : اتخذوا . وقيل : [ ص: 381 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته ، أي : وقلنا اتخذوا . ويؤيده ما روي عن عمر أنه قال : وافقت ربي في ثلاث ، فذكر منها وقلت : يا رسول الله ، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى . وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخذ بيد عمر فقال : " هذا مقام إبراهيم " ، فقال عمر : أفلا نتخذه مصلى ؟ فقال : " لم أومر بذلك " . فلم تغب الشمس حتى نزلت . وعلى هذين القولين يكون اتخذوا معمولا لقول محذوف . وقيل : المواجه به بنو إسرائيل ، وهو معطوف على قوله : ( اذكروا نعمتي ) . وقيل : هو معطوف على قوله : ( وإذ جعلنا البيت مثابة ) ، قالوا : لأن المعنى : ثوبوا إلى البيت ، فهو معطوف على المعنى . وهذان القولان بعيدان . وأما قراءة : واتخذوا - بفتح الخاء - فمعطوف على ما قبله ، فإما على مجموع إذ جعلنا فيحتاج إلى إضمار إذ ، وإما على نفس جعلنا فلا يحتاج إلى تقديرها ، بل يكون في صلة إذ . والمعنى : واتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي وسم به لاهتمامه به ، وإسكان ذريته عنده قبلة يصلون إليها ، قاله الزمخشري . " من مقام " : جوزوا في من أن تكون تبعيضية ، وبمعنى في ، وزائدة على مذهب الأخفش ، والأظهر الأول . وقال القفال : هي مثل اتخذت من فلان صديقا ، وأعطاني الله من فلان أخا صالحا ، دخلت من لبيان المتخذ الموهوب ، وتميزه في ذلك المعنى ، والمقام مفعل من القيام ، يراد به المكان ، أي مكان قيامه ، وهو الحجر الذي ارتفع عليهإبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت ، وغرقت قدماه فيه ، قاله ابن عباس وجابر وقتادة وغيرهم ، وخرجه البخاري ، وهو الآن موضع ذلك الحجر والمسمى مقام إبراهيم . وعن عمر أنه سأل المطلب بن أبي رفاعة : هل تدري أين كان موضعه الأول ؟ قال : نعم ، فأراه موضعه اليوم . قال أنس : رأيت في المقام أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه ، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم . حكاه القشيري . أو حجر جاءت به أم إسماعيل إليه وهو راكب ، فاغتسل عليه ، فغرقت رجلاه فيه حين اعتمد عليه ، قاله الربيع بن أنس ; أو مواقف الحج كلها ، قاله ابن عباس أيضا وعطاء ومجاهد ، أو عرفة والمزدلفة والجمار ، قاله عطاء والشعبي ; لأنه قام في هذه المواضع ودعا فيها ; أو الحرم كله ، قاله النخعي ومجاهد ; أو المسجد الحرام ، قاله قوم . واتفق المحققون على القول الأول ورجح بحديث عمر : أفلا نتخذه مصلى ؟ الحديث ، وبقراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ من الطواف وأتى المقام : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) ، فدل على أن المراد منه ذلك الموضع ، ولأن هذا الاسم في العرف مختص بذلك الموضع ، ولأن الحجر صار تحت قدميه في رطوبة الطين حين غاصت فيه رجلاه ، وفي ذلك معجزة له ، فكان اختصاصه به أقوى من اختصاص غيره . فكان إطلاق هذا الاسم عليه أولى ، ولأن المقام هو موضع القيام ، وثبت قيامه على الحجر ولم يثبت على غيره . " مصلى " : قبلة ، قاله الحسن . موضع صلاة ، قاله قتادة . موضع دعاء ، قاله مجاهد ، والأولى الحمل على الصلاة الشرعية لا على الصلاة لغة . قال ابن عطية : موضع صلاة على قول من قال " المقام : الحجر " ، ومن قال غيره قال : مصلى ، مدعى على أصل الصلاة ، يعني في اللغة . انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية