الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ) : جعل هنا : بمعنى صير ، فيتعدى لمفعولين : أحدهما القبلة ، والآخر ( التي كنت عليها ) . والمعنى : وما صيرنا قبلتك الآن الجهة التي كنت أولا عليها إلا لنعلم ، أي ما صيرنا متوجهك الآن في الصلاة المتوجه أولا ; لأنه كان يصلي أولا إلى الكعبة ، ثم صلى إلى بيت المقدس ، ثم صار يصلي إلى الكعبة . وتكون القبلة : هو المفعول الثاني ، والتي كنت عليها : هو المفعول الأول ، إذ التصيير هو الانتقال من حال إلى حال . فالمتلبس بالحالة الأولى هو المفعول الأول ، والمتلبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني . ألا ترى أنك تقول : جعلت الطين خزفا ، وجعلت الجاهل عالما ؟ والمعنى هنا على هذا التقدير : وما جعلنا الكعبة التي كانت قبلة لك أولا ، ثم صرفت عنها إلى بيت المقدس ، قبلتك الآن إلا لنعلم . ووهم الزمخشري في ذلك ، فزعم أن التي كنت عليها : هو المفعول الثاني لجعل ، قال : التي كنت عليها ليس بصفة للقبلة ، إنما هي ثاني مفعولي جعل . تريد : وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها ، وهي الكعبة ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بمكة إلى الكعبة ، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة ، تألفا لليهود ، ثم حول إلى الكعبة ، فيقول : وما جعلنا القبلة التي يجب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أولا بمكة ، يعني : وما رددناك إليها إلا امتحانا للناس وابتلاء ، انتهى ما ذكره .

وقد أوضحنا أن التي كنت عليها : هو المفعول الأول . وقيل : هذا بيان لحكمة جعل بيت المقدس قبلة . والمعنى : وما جعلنا متوجهك بيت المقدس إلا لنعلم ، فيكون ذلك على معنى : أن استقبالك بيت المقدس هو أمر عارض ، ليتميز به الثابت على دينه من المرتد . وكل واحد من الكعبة وبيت المقدس صالح بأن يوصف بقوله : التي كنت عليها ; لأنه قد كان متوجها إليهما في وقتين . وقيل : التي كنت عليها صفة للقبلة ، وعلى هذا التقدير اختلفوا في المفعول الثاني ، فقيل : تقديره : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها قبلة إلا لنعلم . وقيل : التقدير : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها منسوخة إلا لنعلم . وقيل : ذلك على حذف مضاف ، أي وما جعلنا صرف القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم ، ويكون المفعول الثاني على هذا قوله : لنعلم ، كما تقول : ضرب زيد للتأديب ، أي كائن وموجود للتأديب ، أي بسبب التأديب . وعلى كون التي صفة ، يحتمل أن يراد بالقبلة : الكعبة ، ويحتمل أن يراد بيت المقدس ، إذ كل منهما متصف بأنه كان عليه . وقال ابن عباس : القبلة في الآية : الكعبة ، وكنت بمعنى : أنت ، كقوله تعالى : ( كنتم خير أمة ) بمعنى : أنتم . انتهى . وهذا من ابن عباس ، إن صح - تفسير معنى ، لا تفسير إعراب ; لأنه يئول إلى زيادة كان الرافعة للاسم والناصبة للخبر ، وهذا لم يذهب إليه أحد . وإنما تفسير الإعراب على هذا التقدير ما نقله [ ص: 424 ] النحويون ، أن كان تكون بمعنى صار ، ومن صار إلى شيء واتصف به ، صح من حيث المعنى نسبة ذلك الشيء إليه . فإذا قلت : صرت عالما ، صح أن تقول : أنت عالم ، لأنك تخبر عنه بشيء هو فيه . فتفسير ابن عباس : كنت بأنت ، هو من هذا القبيل ، فهو تفسير معنى ، لا تفسير إعراب . وكذلك من صار خير أمة ، صح أن يقال فيه : أنتم خير أمة .

" إلا لنعلم " : استثناء مفرغ من المفعول له ، وفيه حصر السبب ، أي ما سبب تحويل القبلة إلا كذا . وظاهر قوله : " لنعلم " ، ابتداء العلم ، وليس المعنى على الظاهر ، إذ يستحيل حدوث علم الله تعالى . فأول على حذف مضاف ، أي ليعلم رسولنا والمؤمنون ، وأسند علمهم إلى ذاته ; لأنهم خواصه وأهل الزلفى لديه . فيكون هذا من مجاز الحذف ، أو على الحذف ، أو على إطلاق العلم على معنى التمييز ; لأن بالعلم يقع التمييز ، أي لنميز التابع من الناكص ، كما قال تعالى : ( حتى يميز الخبيث من الطيب ) ، ويكون هذا من مجاز إطلاق السبب ، ويراد به المسبب . وحكي هذا التأويل عن ابن عباس ، أو على أنه أراد ذكر علمه وقت موافقتهم الطاعة أو المعصية ، إذ بذلك الوقت يتعلق الثواب والعقاب . فليس المعنى لنحدث العلم ، وإنما المعنى لنعلم ذلك موجودا ; إذ الله قد علم في القدم من يتبع الرسول . واستمر العلم حتى وقع حدوثهم ، واستمر في حين الاتباع والانقلاب ، واستمر بعد ذلك . والله تعالى متصف في كل ذلك بأنه يعلم ، ويكون هذا قد كنى فيه بالعلم عن تعلق العلم ، أي ليتعلق علمنا بذلك في حال وجوده . أو على أنه أراد بالعلم التثبيت ، أي لنثبت التابع ، ويكون من إطلاق السبب ويراد به المسبب ; لأن من علم الله أنه متبع للرسول ، فهو ثابت الاتباع . أو على أنه أريد بالعلم الجزاء ، أي لنجازي الطائع والعاصي ، وكثيرا ما يقع التهديد في القرآن ، وفي كلام العرب ، بذكر العلم ، كقولك : زيد عصاك ، والمعنى : أنا أجازيه على ذلك ، أو على أنه أريد بالمستقبل هنا الماضي ، التقدير : لما علمنا ، أو لعلمنا من يتبع الرسول ممن يخالف . فهذه كلها تأويلات في قوله : " لنعلم " ، فرارا من حدوث العلم وتجدده ، إذ ذلك على الله مستحيل . وكل ما وقع في القرآن ، مما يدل على ذلك ، أول بما يناسبه من هذه التأويلات . ونعلم هنا متعد إلى واحد ، وهو الموصول ، فهو في موضع نصب ، والفعل بعده صلته . وقال بعض الناس : نعلم هنا متعلقة ، كما تقول : علمت أزيد في الدار أم عمرو ، حكاه الزمخشري . وعلى هذا القول تكون من استفهامية في موضع رفع على الابتداء ، ويتبع في موضع الجر ، والجملة في موضع المفعول ب نعلم . وقد رد هذا الوجه من الإعراب بأنه إذا علق نعلم ، لم يبق لقوله : ( ممن ينقلب ) ، ما يتعلق به ; لأن ما بعد الاستفهام لا يتعلق بما قبله ، ولا يصح تعلقها بقوله : ( يتبع ) ، الذي هو خبر عن من الاستفهامية ; لأن المعنى ليس على ذلك ، وإنما المعنى على أن يتعلق بنعلم ، كقولك : علمت من أحسن إليك ممن أساء . وهذا يقوي أنه أريد بالعلم الفصل والتمييز ; إذ العلم لا يتعدى بمن إلا إذا أريد به التمييز ; لأن التمييز هو الذي يتعدى بمن . وقرأ الزهري : " ليعلم " ، على بناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله ، وهذا لا يحتاج إلى تأويل ، إذ الفاعل قد يكون غير الله تعالى ، فحذف وبني الفعل للمفعول ، وعلم غير الله تعالى حادث ، فيصح تعليل الجعل بالعلم الحادث ، وكان التقدير : ليعلم الرسول والمؤمنون . وأتى بلفظ الرسول ، ولم يجر على ذلك الخطاب في قوله : ( كنت عليها ) ، فكان يكون الكلام من يتبعك ، لما في لفظه من الدلالة على الرسالة . وجاء الخطاب مكتنفا ذكر الرسول مرتين ، لما في ذلك من الفصاحة والتفنن في البلاغة ، وليعلم أن المخاطب هو الموصوف بالرسالة . ولما كانت الشهادة والمتبوعية من الأمور الإلهية خاصة ، أتى بلفظ الرسول ليدل على أن ذلك هو مختص بالتبليغ المحض . ولما كان التوجه إلى الكعبة توجها إلى المكان الذي ألفه الإنسان ، وله إلى ذلك نزوع ، أتى بالخطاب دون لفظ الرسالة ، فقيل : ( التي كنت عليها ) ، فهذه - والله أعلم - حكمة الالتفات هنا . وقوله : ( ينقلب على عقبيه ) كناية [ ص: 425 ] عن الرجوع عما كان فيه من إيمان أو شغل . والرجوع على العقب أسوأ أحوال الراجع في مشيه على وجهه ، فلذلك شبه المرتد في الدين به . والمعنى : أنه كان متلبسا بالإيمان ، فلما حولت القبلة ، ارتاب فعاد إلى الكفر ، فهذا انقلاب معنوي ، والانقلاب الحقيقي هو الرجوع إلى المكان الذي خرج منه .

التالي السابق


الخدمات العلمية