الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( 6 ) منع التقليد والجمود على اتباع الآباء والجدود :

                          كل ما نزل من الآيات في مدح العلم وفضله واستقلال العقل والفكر وحرية الوجدان يدل على ذم التقليد ، وقد ورد في ذمه والنعي على أهله آيات كثيرة كقوله : ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ومثل ) ( 2 : 170 ) وقوله تعالى : وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ياأيها ) ( 5 : 104 ) ذمهم من ناحيتين : ( إحداهما ) الجمود على ما كان عليه آباؤهم والاكتفاء به عن الترقي في العلم والعمل ، وليس هذا من شأن الإنسان الحي العاقل ، فإن الحياة تقتضي النمو والتوليد ، والعقل يطلب المزيد والتجديد . ( والثانية ) أنهم باتباعهم لآبائهم قد فقدوا مزية البشر في التمييز بين الحق والباطل ، والخير والشر ، والحسن والقبيح ، بطريق العقل والعلم ، وطريق الاهتداء في العمل ، ويؤيده قوله : ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون ) ( 7 : 28 ) وقال تعالى في عبادة العرب للملائكة : وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) ( 43 : 20 - 23 ) وقد وردت الشواهد على هذا في قصة إبراهيم مع قومه في سورة الأنبياء والشعراء والصافات .

                          فالقرآن قد جاء يهدي جميع متبعي الملل والأديان السابقة إلى استعمال عقولهم مع ضمائرهم للوصول إلى العلم والهدى في الدين ، وألا يكتفوا بما كان عليه آباؤهم وأجدادهم من ذلك ، فإن [ ص: 208 ] هذا جناية على الفطرة البشرية والعقل والفكر والقلب التي امتاز بها البشر ، وبهذا العلم والهدى امتاز الإسلام ودخل فيه العقلاء من جميع الأمم أفواجا ، ثم نكس المسلمون على رءوسهم واتبعوا سنن من قبلهم من أهل الكتاب وغيرهم في التقليد لآبائهم ومشايخهم المنسوبين إلى بعض أئمة علمائهم ، الذين نهوهم عن التقليد ولم يأمروهم به ، فأبطلوا بذلك حجة الله تعالى على الأمم وصاروا حجة على دينهم ، حتى إن أدعياء العلم الرسمي فيهم ينكرون أشد الإنكار على من يدعونهم إلى اتباع كتاب الله وهدي رسوله وسيرة السلف الصالح من أهله ونحن معهم في بلاء وعناء ، نقاسي منهم ما شاء الجهل والجمود من استهزاء وطعن وبذاء ، وتهكم بلقب ( ( المجتهد ) ) الذي احتكره الجهل لبعض المتقدمين من العلماء .

                          ولو كان فينا علماء كثيرون يظهرون الإسلام في صورته الحقيقية العلمية العقلية ، لدخل الناس المستقلون في العقل والعلم أفواجا حتى يعم الدنيا ، لأن التعليم العصري في جميع مدارس الأرض يجري على طريقة الاستقلال في الفهم واتباع الدليل في جميع بلاد الأفرع والبلاد المقلدة لهم : ولكن أكثر هؤلاء يرون جميع الأديان تقليدية ويعتدونها نظما أدبية واجتماعية للأمم ، فلهذا يرون الأولى بحفظ نظامهم اتباع دينهم التقليدي ، وبهذا يعسر علينا أن نقنعهم بامتياز الإسلام على دينهم ، لأنه يقل فينا من يقدر على إظهار الإسلام في صورته التي خصه بها القرآن وما بينه من سنة خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - وسيرة خلفائه الراشدين والسلف الصالحين ، رضوان الله عليهم أجمعين .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية