الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به ) أي لو أن لكل نفس تلبست بهذا الظلم جميع ما في الأرض من أنواع الملك والزينة وصنوف النعيم وأمكنها أن تفتدي به ، أي تجعله فداء لها من ذلك العذاب الذي قيل لهم ذو قوة ينقذها منه بذلها له ، لافتدت به كله لا تدخر منه شيئا ( وأسروا الندامة ) إسرار الشيء إخفاؤه وكتمانه ، وإسرار الحديث والكلام خفض الصوت به ، فهو ضد إعلانه والجهر به ، ومنه ( وأسروا قولكم أو اجهروا به ) ( 67 : 13 ) ( إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون ) 21 : 110 ) واستعمل بمعنى الجهر مطلقا فهو ضد وأنكره بعضهم ، والندم والندامة ما يجده الإنسان في نفسه من الألم والحسرة عقب كل فعل يظهر له ضرره ، وقد يجهر به بالكلام كقوله : ( ياحسرتا على ما فرطت ) ( 39 : 56 ) أو بالتوبة والاستغفار ، وقد يخفيه ويكتمه لعدم الفائدة من إعلانه أو اتقاء للشماتة أو الإهانة به ، أي وأسر أولئك الذين ظلموا ندامتهم وحسرتهم فيما بينهم وبين ربهم أو كتموها في قلوبهم ( لما رأوا العذاب ) أي رأوا مباديه عيانا بأبصارهم لما برزت الجحيم وأيقنوا أنهم مواقعوها لا مصرف لهم عنها ، وقد يعبر برؤيته عن وقوعه والظاهر الأول لقوله : ( وقضي بينهم بالقسط ) أي وقضى الله بينهم وبين خصومهم بالعدل والحق ، فإذا أريد بالظلم الكفر والتكذيب وما يلزمه من الإيذاء فخصومهم الرسل والمؤمنون بهم ، وكذا من أضلوهم وظلموهم من المرءوسين والضعفاء الذين كانوا يغرونهم بالكفر ويصدونهم عن الإيمان ، وهو ظاهر السياق هنا وفي سورة سبأ بعد حكاية مجادلة الظالمين والمظلومين يوم القيامة : ( وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ) ( 34 : 33 ) وإن أريد بالظلم ما يعم ظلمهم للناس في الأحكام وهضم الحقوق كان كل مظلوم خصما لظالمه ( وهم لا يظلمون ) أي لا يظلمهم الله كما ظلموا أنفسهم وظلموا أتباعهم ومقلديهم ، بل هم الذين ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم . والآيات في ندم الظالمين يوم القيامة معروفة كقوله في آخر سورة النبأ : ( إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر ياليتني كنت ترابا ) ( 78 : 40 ) وقوله : ( ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ياويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا ) ( 25 : 27 و 28 ) [ ص: 327 ] وغير ذلك .

                          ثم قفى على ذلك بالدليل على قدرته على إنفاذ حكمه وإنجاز وعده وكون هؤلاء الظالمين لا يعجزونه ، ولا يستطيعون الافتداء من عذابه ، فقال : ( ألا إن لله ما في السماوات والأرض قلنا مرارا : إن السماوات والأرض عبارة عن جمع العالم ، وهو تعالى مالك السماوات والأرض وملكهما ، وله كل من فيهما من العقلاء ، وما فيهما من غير العقلاء ، وقد نطقت الآيات بهذا كله ولكل مقام مقال ، فهاهنا غلب غير العقلاء بمناسبة ما في الآية السابقة من الإشارة إلى غرور الكافرين والظالمين بما كانوا يمتعون به ، وتعذر الافتداء بشيء منه ، وسيأتي تغليب العقلاء في الآية 66 من هذه السورة لاقتضاء المناسبة له ، وصدر الجملة بحرف التنبيه ( ألا ) الذي يفتتح به الكلام لتنبيه الغافلين عن هذه الحقيقة وإن كانوا يعرفونها لكثرة ذهول الناس عن تذكر أمثالها ، والمعنى : ليتذكر الناسي وليتنبه الغافل وليعلم الجاهل أن لله وحده ما في العوالم العلوية وعالم الأرض يتصرف فيها حيث يشاء ، فيعطي من يشاء ويمنع من يشاء ، ويرحم من يشاء ويعذب من يشاء ، ولا يملك أحد من دونه شيئا من التصرف والفداء ، في يوم البعث والجزاء ( ألا إن وعد الله حق ) أعاد فيه حرف التنبيه تأكيدا لتمييزه بهذا التنبيه عما سبقه لأنه المقصود هنا بذاته وإنما ذكر قبله للاستدلال عليه ، أي كل ما وعد به على لسان رسله حق واقع لا ريب فيه ; لأنه وعد المالك القادر على إنجاز ما وعد لا يعجزه منه شيء ( ولكن أكثرهم لا يعلمون ) يعني بأكثرهم الكفار منكري البعث والجزاء أي لا يعلمون أمر الآخرة لا من طريق النظر والاستدلال ، ولا من طريق الإيمان بما جاء به الرسل عليهم السلام .

                          ( هو يحيي ويميت ) بقدرته كما يدل عليه النظر والاستدلال ، وقد بسطناه في تفسير الآيتين 31 و 34 ( وإليه ترجعون ) عندما يحييكم بعد موتكم ويحشركم ليحاسبكم ويجزيكم بأعمالكم ، فهذه الآية بيان مستأنف لما قبله بالإيجاز ، وجملة هذه الآيات خاتمة هذا السياق .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية