الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( استطراد ، في أصل الإسلام ، وما طرأ عليه من الفساد )

                          ( من طريق السياسة والفلسفة والتصوف )

                          أيها القارئ لهذا التفسير ، قد آن أن أصارحك بمسائل مختصرة هي ثمرة علم وعمل وعبادة ورياضة وتصوف وتعليم وتصنيف ومناظرات ومحاجة في مدة نصف قرن كامل ، لم يشغلني عنها من حظوظ الدنيا شاغل ، وإنها لكلمات في حقيقة دين الله وعلمائه وعباده صادرة عن بصيرة وتجربة ، فتأملها بإخلاص واستقلال فكر ، ولا يصدنك عن النظر فيها لذاتها والاعتماد في ثبوتها على مصادرها ، حرمان المعاصرة ، واحتقار الأحياء ، وتقديس شهرة الأموات ، واتهام قائلها بالغرور والدعوى ، فإن عرض لك ريب أو شبهة في شيء منها فارجع إلى مصادرها ودلائلها ، أو ارجع إلى كاتبها فاسأله عنها ، بشرط أن يكون غرضك معرفة الحق لذاته ، دون التعصب والجدل ، أو التحرف لمذهب أو التحيز إلى فئة .

                          ( المسألة الأولى ) أن هذا الدين ( الإسلام ) وحي إلهي إلى نبي أمي ظهر في أمة أمية جاهلية ; ليعلمها الكتاب والحكمة ، ويزكيها بالعلم والعدل والفضيلة ، فيجعلها به معلمة وهادية لجميع شعوب التعطيل والأديان والفلسفة والحضارة ، وأن الله تعالى قد شهد في كتابه بأنه أكمل هذا الدين لعباده في آخر عمر نبيه ، ليس لأحد أن يزيد فيه بعده عقيدة ولا عبادة ولا تحريما دينيا مطلقا ، ولا تشريعا مدنيا ، إلا ما أذن به لأولي الأمر من الاجتهاد على أساس نصوصه وقواعده ، فكان أعلم الناس وأفقههم به وأصحهم دعوة إليه بالعلم والعمل ، والحكم بين الناس بالحق والعدل ، أولئك الأميون الذين تلقوه عن ذلك النبي الأمي صلوات الله وسلامه عليه ، وهم خلفاؤه وأصحابه - رضي الله عنهم - فهذه إحدى معجزاته إذ لو كان هذا الدين وضعا بشريا لكان كسائر العلوم والأعمال البشرية التي تظهر مبادئها الأولى ناقصة ثم تنمى ( وفي لغة ضعيفة اشتهرت تنمو ) وتتكامل بالتدريج ، فهذه سنة من السنن المطردة في علوم البشر .

                          ( المسألة الثانية ) من البراهين العلمية الثابتة بالشواهد العملية ، على أن هذا الدين من عند الله تعالى ، أن المسلمين قد اهتدوا بإرشاده إلى البحث والنظر في جميع أمور العالم السماوي والأرضي ، ولا سيما نوع الإنسان وعلومه وفلسفته وأديانه ونظمه وتشريعه وآداب شعوبه فازدادوا بكل من ذلك علما بحقية المسألة الأولى ، وظهر للراسخين في علمه أن ما أجمع عليه أولئك الأميون الأولون أو أكثرهم هو الحق ، وأن كل ما خالف نصوصه القطعية من العقائد [ ص: 362 ] والآراء والأفكار البشرية فهو باطل ، ومنه جميع نظريات المتكلمين العقلية ، وكشف فلسفة الصوفية والروحية ، وأن المصلحة للمسلمين وللبشر كافة أن يقصروا هداية الدين على نصوص القرآن المنزلة ، وما بينه من سنة الرسول المتبعة ، وسيرة خلفائه وجمهور عترته وأصحابه قبل فشو الابتداع والتفرق في الملة ، ثم ما أجمع عليه علماء الأمصار من مجتهدي الأمة ، وأن يعذر بعضهم بعضا فيما لا يخرج عن هذه الأصول من المسائل غير القطعية في الدين فلا يجعلوه سببا للتفرق والشقاق ، بالتعصب للمذاهب والشيع والأحزاب ; لئلا يكونوا ممن قال الله تعالى لرسوله فيهم : ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ) ( 6 : 159 ) فاستحقوا وعيد قوله : ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ) ( 6 : 65 ) وقوله : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ) ( 3 : 105 ) .

                          ( المسألة الثالثة ) أن البدع التي فرقت الأمة في أصول دينها وجعلتها شيعا تؤثر كل شيعة أتباع زعمائها ومذاهبها على كتاب الله وسنة رسوله وهدي سلفه الصالح بالتأويل ، من حيث تدعي أن أئمتها أعلم من مخالفيهم بتأويل الكتاب والحديث ، وأن بعضهم مؤيد بالكشف وبعضهم بالعصمة ، فهم أحق بأن يقلدوا ويتبعوا ، ولكن الأعلم إنما يعلم بالدليل لا بالتقليد ، وإنما تفهم النصوص بقواعد اللغة والسنة العملية لا بما اصطلحوا عليه من التأويل ، ولهذه البدع المفرقة ثلاث مثارات من أركان حضارة الأمم الثلاثة وهي : السياسة والسلطان ، والعلم العقلي والعرفان وفلسفة التعبد والوجدان ، وما يتبعه من دعوى علم الغيب المسمى بالكشف ، والكرامات الشاملة لدعوى التصرف في الكون ، ونقول في كل منها كلمة :

                          ( 1 ) السياسة الدولية وكان مثارها الأول ما شجر بين الصحابة - رضي الله عنهم - ، ثم كان أشدها إفسادا ما كان بين أهل السنة والشيعة ، وقد زالت الخلافة وضاعت سيادة الأمة من أكثر العالم ، ومفاسدها لا تزال ماثلة ، بما للزعماء المستغلين لها من المنافع الدنيوية الزائلة ، وإنها لعصبية قضتها السياسة ، وستقضي عليها السياسة ، وقد زالت السلطة الدينية من بعض ممالك المسلمين وبقي لها بقية في بعض ، وبعضها مذبذبة بين بين ، ولا محل لبسط ذلك هنا ولا فائدة في هذا الوقت . إلا التذكير بأن المنتمين إلى مذاهب السنة قد غلبهم جهلة الأعاجم على خلافتهم بعد أن جعلوها عصبية وراثية ، فلم يعملوا أي عمل لتقويتها بعد ضعفها ، ولا لإحيائها بعد موتها ولم يضعوا نظاما للاستعداد لذلك عند سنوح الفرصة كما فعل الكاثوليك بنظام الفاتيكان البابوي ، وكانت الزيدية من الشيعة المعتدلة أشد حزما واعتصاما منهم بنصب إمام بعد إمام لهم في جبال اليمن يتولونه ويقاتلون معه بيد أنهم قصروا في وضع نظام لتعميم الدعوة ، والاستعداد له بالعلم والمال والقوة .

                          [ ص: 363 ] ولكن غلاة الشيعة نقضوا أركان الإسلام من أساسه بدعاية عصمة الأئمة ، وتأويل نصوص الكتاب والسنة ، فكان هذا أصل كل ابتداع مخرج من الملة ، إذ انتهى بأهله إلى ادعاء الوحي وادعاء الألوهية ، فخرجوا من الملة سرا فعلانية .

                          ( 2 ) النظريات العقلية وتحكيمها في النصوص النقلية ، وكان أضرها وشرها ذلك التنازع بين أئمة الاتباع وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل ، ودعاة الابتداع من متكلمي نظار المعتزلة والجهمية ، ولولا تدخل سلطان العباسيين في نصر فريق على فريق ، لما وصلت إلى ذلك الحد من الشقاق والتفريق ، وقد ضعفت في هذا العصر في أكثر الأمصار الإسلامية لأنه ليس لها دول تنصر بعض أهلها على بعض ، ومتى توطدت حرية العلم كان النصر والفلج لأهل الحق ، وسيموت ما بقي من علم الكلام بموت الفلسفة اليونانية التي بني على قواعدها ونظرياتها ، بل هي قد ماتت وصارت من مواريث التاريخ العلمية ، ومات هو وإن بقيت له بقية تقليدية في بعض المدارس الإسلامية ، وسيخلفه علم آخر في حراسة العقائد من شبهات العلم وفلسفة هذا العصر ، مع إبقاء الخلط بينهما وبين عقائد الدين ومحاولة تحكيم كل منهما في الآخر ، كما فعل نظارنا المتقدمون فجنوا على كل منهما بما أضعف سلطان الدين في أداء وظيفته وهي تزكية النفس ، بما يوقفها عند حدود الحق والعدل ، والفضيلة وعمل البر ، وأضعف سلطان العلم في أداء وظيفته وهي إظهار سنن الله في العالم وتسخير قوى الطبيعة لمنافع الناس ، وفاقا لما أرشدهم إليه القرآن ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ( أنتم أعلم بأمور دنياكم ) ) رواه مسلم .

                          ولو بقينا على تأويل المتكلمين لهان الأمر ; لأنهم يجرون فيه على قواعد اللغة وأصول الفقه ومصطلح الحديث ، ولكن نبتت نابتة ودعاية لتحكيم نظريات العلم العصري والنظريات العقلية في نصوص الكتاب والسنة ، ولا بتأويل يوافق اللغة وأصول الشرع كما يقول المتكلمون بل يترك مدلولات الكتاب والسنة بأنها غير مرادة ولا يمكن العلم بالمراد منها ، ولبعض الدعاة إلى هذا الإلحاد في مصر كتب تطبع ومقالات تنشر في الصحف مصرحة بهذا ، ومشيخة الأزهر تقرها لأنها لا تفهمها .

                          ( 3 ) دعوى الكرامات والكشف ، وتحكيمه في عقائد الدين وعباداته وآدابه وتفسير نصوصه ، وفي أحكام المعاملات والحلال والحرام ، وقد نجمت البدع من هذه الناحية صغيرة كقرون المعز ثم كبرت فصارت كقرون الوعول التي تناطح الصخور ، هاجمها علماء المنقول والمعقول يؤيدهم الخلفاء والملوك فانهزمت أمامهم ، حتى إذا ما ضعف العلم فصار تقليديا ، وضعف الحكم فصار إرثا جهليا ، وصار صوفية علماء الأزهر مثل الشعراني وسلاطين مصر مثل قايتباي ، خضعت رقاب المسلمين لولاية مثل الشيخ محمد الحضري الذي يصعد المنبر في يوم الجمعة فيخطبهم فيقول : ( ( أشهد أن لا إله لكم إلا إبليس عليه الصلاة [ ص: 364 ] والسلام ) ) ثم ينزل فيسل السيف فيهرب جميع المسلمين من المسجد فلم يتجرأ أحد على دخوله إلى وقت العصر ويزعم الشعراني أن هذا الولي الشيطاني نفسه قد خطب خطبة الجمعة يومئذ في ثلاثين مسجدا من مساجد القطر المصري ، بناء على قاعدتهم أن الولي قد يتمثل بالصور الكثيرة في الأمكنة المختلفة ، كالشياطين والملائكة ، وهم لا يفرقون بينهما .

                          ومثله ذلك الولي الذي كان يعارض القرآن بالهذيان ، والولي الذي كان يسكن في ماخور المومسات ; ليشفع لكل من يأتيهن عند الله ويمسكه عندهن إلى أن يخبره كشفه الشيطاني بقبول شفاعته فيه ومغفرة الله له . وكان من كراماته إتيان الأتان - فهذا الكفر والشرك والإلحاد ومعارضة القرآن ، واجتراح كبائر الفسوق والعصيان ، كله عنده وعند أمثاله من كرامات أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، ويطيع أمرهم رضوان خازن الجنان ، ومالك خازن النار ، كما نقله الشعراني عن الدسوقي ، وجملة القول أنهم يتصرفون في أمور الدنيا والآخرة أحياء وأمواتا ، وقد رسخت هذه الخرافات في قلوب الملايين من مسلمي مصر وأمثالها من الأقطار ، فهم يعتمدون على هؤلاء الأولياء في أمور دنياهم وآخرتهم .

                          وإنك لتجد أكثرهم يحتج على ذلك بالآية الكريمة التي ذكرنا هذا البيان في صدد تفسيرها وبقوله تعالى : ( لهم ما يشاءون عند ربهم ) ( 39 : 34 ، 42 : 22 ) فهم يزعمون أنه لهؤلاء الأولياء الخياليين ، وأن الله تعالى يعطيهم كل ما أرادوا لأنفسهم ولغيرهم في الدنيا والآخرة كما يزعم الذين يقولون إن منهم أقطابا متصرفين ( أو مدركين ) بالكون كله ، وهذا افتراء على الله وتحريف لكتابه العزيز بما هو شرك به سبحانه ، وإنما وردت هذه الجملة في عدة سور في جزاء أهل الجنة في الجنة ، لا في أولياء الخيال الخرافي المزعوم ، راجع سورة النحل ( 16 : 30 - 32 ) وسورة الفرقان ( 25 : 15 ، 16 ) وسورة الزمر ( 39 : 33 ، 34 ) وسورة الشورى ( 42 : 22 ) وسورة ق ( 50 : 31 - 35 ) .

                          وجملة القول أن جميع هذه الفتن المضلة لكثير من الناس عن الاعتصام بكتاب الله تعالى وسنة رسوله المبينة له على النهج الذي اهتدى به سلف هذه الأمة الصالح لا يقوم لشيء منها حجة عقلية ظاهرة ولا كشفية باطنة ، ولو صح أنها من الإسلام لكان ما جاء الرسول ناقصا ثم كمل بها .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية